لعل ما يستوقف المرء أثناء مشاهدته للقنوات الفضائية في هذا الشهر المبارك، بحثا عن مادة إعلامية أو درامية جديدة، قد تنسينا ضحالة الأعمال المقدمة سالفا والتي لا تحترم المشاهد العربي وذكاءه بله أن تربي ذوقه، ناهيك عن عدم مراعاتها لحرمة الشهر الكريم، أقول ما يستوقف المشاهد هو، بدون شك، مسلسل «الحسن والحسين» الذي ينقل وقائع الفتنة الكبرى التي نشأت في عهد الخليفة الثالث، عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، والتي لم تهدأ إلى يومنا هذا وظلت مستمرة، بشكل أو بآخر، في هذا البلد أو ذاك، بين هذا القطر وذاك. وبغض النظر عن الإحراج الذي يقع فيه المسلسل، حيث أخل بما توافق عليه علماء المسلمين سابقا من عدم جواز تشخيص الصحابة وآل البيت على الشاشة، فإنه يمثل طفرة نوعية في الإنتاج الدرامي العربي، الذي يحاول عبر هذه الأعمال تقديم مادة تثقيفية في هذا الشهر الكريم. كما أن هذا النوع من الأعمال يصالح المشاهد العربي المسلم مع تاريخه بالتعرف عليه أو إعادة اكتشافه مجددا، فالتاريخ جزء من التراث، علينا إعادة الوصل به من أجل انفصالنا عنه وتجاوزه، بتعبير المرحوم الجابري. هذا التفاعل مع التراث والتاريخ سيجعل منا كائنات لها تاريخ بدل أن نكون كائنات تاريخية. في مسلسل «الحسن والحسين» تم تجاوز الفتوى المحرمة لتشخيص آل البيت من جانب علماء كبار من السنة، على رأسهم الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أو مفتي مصر الأسبق، وعلماء الطائفة الشيعية وخاصة العلامة الراحل محمد حسين فضل الله، والسيد علي الأمين، كما يظهر جينريك المسلسل، حيث وافقوا على النص وعلى تجسيد الشخصيتين. من ناحية أخرى، «الحسن والحسين» ينقل على الشاشة الصغيرة فترة من أشد الفترات حساسية في تاريخ المسلمين، ذلك أن الضمير الإسلامي لا يستسيغ إلى يومنا هذا أن يكون المسلمون قد اقتتلوا في ما بينهم وقتل بعضهم بعضا في فترة كان جل الصحابة فيها على قيد الحياة وكان جلهم يعيش في مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، المدينة التي شهدت أولى حلقات ما بات يعرف بالفتنة الكبرى التي أدت، في نهاية المطاف، إلى انتصار قضية عثمان، بتعبير الكاتب والمؤرخ والمفكر التونسي هشام جعيط الذي يرى أنها انتصرت بمفارقة لم تتوقف عن هز الوجدان الإسلامي، فالخلافة صارت من نصيب أولئك الذين حاربوا الإسلام في الماضي، على حساب علي، كرم الله وجهه، ابن الإسلام المحض! يحسب للمسلسل أنه توفق، إلى حد بعيد، في تصوير الجو العام الذي كانت عليه الأوضاع التي مهدت وسبقت مقتل سيدنا عثمان. ونجح المسلسل في إبراز آراء وأفكار تلك المعارضة التي تشكلت من أمصار مختلفة، وجاءت إلى المدينة وقامت بإنزال فيها، ثم حاصرت وطوقت بيت الخليفة. لكن المسلسل يبالغ، ولا شك، في الدور الذي لعبه عبد الله بن سبأ في الفتنة، ذلك اليهودي حديث العهد بالإسلام أيام الخليفة عثمان. يرى طه حسين في الجزء الأول من كتابه «الفتنة الكبرى» أن الذين يكبرون من أمر ابن سبأ إلى هذا الحد، يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافا شديدا، ويلاحظ أنه لا يجد لابن سبأ ذكرا في المصادر المهمة التي قصت أمر الخلاف على عثمان كابن سعد والبلاذري. ويضيف طه حسين أنه ما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم وسلطانهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيام عثمان. ويرى هشام جعيط في كتابه المخصص للفتنة، والذي يحمل العنوان ذاته، أن عبد الله بن سبأ إن كان قد نشر أفكارا جديدة ومشوشة حول رجعة النبي وحول فكرة الوصية القائمة على أن عليا هو الوريث الشرعي للنبي، أي الذي يجب أن تعود الخلافة إليه منذ البداية، فإن هذه الموضوعات تخص البناء النظري للتشيع العقائدي الذي يستحيل تصوره في تلك المرحلة المبكرة، ناهيك عن أن من الباحثين من يشك أصلا في وجود شخصية ابن سبأ! من جهة أخرى، يخلص الجابري، في كتابه المميز «العقل السياسي العربي»، إلى أن عبد الله بن سبأ شخصية حقيقية وأنه صار يحوم حول علي بن أبي طالب بعد أن تولى الخلافة. ولكن بعدما بدأ يغالي في حقه، فر إلى المدائن. وعندما اغتيل علي نشر فكرة الرجعة والوصية، فكان بذلك الأصل الأول للغلو في حق علي. كما يرى الجابري أن الرواية التي ينقلها الطبري عن ابن سبأ وعن تقديمه كالمحرض على الثورة ضد عثمان هي رواية تتخللها ثغرات تطعن فيها ويغلب عليها طابع الإخراج المسرحي، ومنها ما تدعيه الرواية من تحريض ابن سبأ لأبي ذر، ويضيف الجابري: «وكأن أبا ذر في حاجة إلى هذا المسلم الجديد كي يحرضه على الأغنياء!». إن تضخيم الدور الذي لعبه ابن سبأ في التحريض ضد عثمان لا يمكن تفسيره إلا برغبة أصحاب المسلسل في عدم إذكاء نار الفرقة بين الطوائف السنية والشيعية، وبالتالي التماشي مع نظرية المؤامرة التي تلصق كل الحروب والفتن الداخلية بعوامل خارجية! نظرية قد تخفف من تأنيب الضمير وتكبح ذلك الوعي الشقي عند المشاهد، لكنها بالتأكيد لا تساعد على فهم التاريخ واستخلاص العبر.