حينما زرت دمشق أول مرة قبل سنين، فوجئت بملصقات ولافتات في كل مكان تحمل عبارة «سوريا الأسد»، وبجانبها صورة الأسد الأب أو الشبل الابن. ولكثرة انتشار صورهما في كل بقعة حتى في خلفيات السيارات الخاصة حيث كتب «صوت الحق بشار الأسد»، ظننت أن زيارتي تصادف عيدا وطنيا، وسألت حينها بعض الفنانين ممن يساندون الثورة الآن، فردوا بسخرية بأن سوريا تعيش عيدا وطنيا مفتوحا يحتفي بحزب البعث وعائلة الأسد. كانت البلاد محكومة بقبضة من حديد، وكانت العصا التي يحملها شرطي المرور ويلوح بها لتنظيم حركة السير تستفزني، فهمت حينها أن صوت الحق هو الظلم والجبروت والتسلط والاستغلال. كنت كلما حاولت فتح نقاش حول الوضع السياسي للبلد، انزعج زملائي السوريون وهمسوا لي بأن البلاد تحت قانون الطوارئ. وحتى أكون صريحة فإني لم أفهم المقصود إلا مؤخرا وأنا أشاهد الشعب السوري ينتفض ويصرخ ويموت، تسحقه دبابات «صوت الحق» الدكتور طبيب العيون الذي ترك وزرة الطب البيضاء وارتدى لباس الجلادين الذي ورثه عن أبيه. أذكر تدخلاته في مجلس الأمن، وأذكر كيف كان يصرخ ويزمجر ويتهدد إسرائيل ويتحدث عن العروبة والإسلام، وأستغرب كثيرا قدرته على قتل شعبه وسحقه ووأده دون رحمة، لم أشاهد أبشع من تلك الصور التي تتناقلها الفضائيات والتي لربما فاقت ما عاناه الشعب السوري خلال حروبه مع العدو الصهيوني، فبشار لا يفرق بين طفل ولا مسن ولا مسالم ولا أعزل.. وجيشه يدعمه في حالة الهستيريا التي تملكته منذ طالبه شعبه بالإصلاح إلى أن صرخ في وجهه بأن يرحل. ولسوريا جارة من نوع خاص، وبرؤية رجل من طراز خاص أيضا، ولربما يليق بتركيا، وخصوصا عاصمتها إسطمبول، أن تنعت بإسطمبول أردوغان لما قدمه هذا الرجل من خدمات إلى المدينة وهو رئيس لبلديتها ثم للبلد (تركيا) بأكمله. ولعل المتتبعين لبرنامج «خواطر» في نسخته السابعة تابعوا بانبهار كيف حول أردوغان إسطمبول من مدينة للقمامة والروائح الكريهة والفقر والعطش إلى مدينة سياحية جميلة ونظيفة ورائعة في مدة قياسية لا تتعدى 17 سنة، وقد أحياها وغير وضعها وخطط لمستقبلها برؤية وفلسفة وذكاء.. الفرق بين بشار وأردوغان أن الأول جعل سوريا للأسد بالقوة والقسوة والاستبداد، لذلك سيسجل التاريخ أن دمشق العظيمة بريئة منه ومن جرائمه، أما جاره الطيب أردوغان فليس في حاجة إلى إجبار أبناء شعب بلده على إلصاق صوره أينما وجد، لأنهم يحملون الرجل في قلوبهم وذاكراتهم ولأن آثار خدماته واضحة للعيان في كل بقعة من أرض تركيا، تخطيطا وسياسة ومنهجا واستراتيجية، فقد أنقذ بلده من العطش بمشاريع كبرى لتصفية المياه، ووضع استراتيجية للمّ النفايات والاستفادة منها في توليد الطاقة، وجعل من بلده الوجهة السياحية الأولى دون منازع، وطور مجالات عدة، وجعل شعبه يفتخر بكونه تركيا. وفي الوقت التي يستمر فيه أردوغان في قيادة شعبه نحو التقدم والازدهار والتحضر، يقتل جاره مواطنيه كأنه يبيد الذباب، دون أن يستحي أو يخجل.. هناك معرض في مدينة إسطمبول يقدم إنجازات البلدية بتفصيل تام، وبتوثيق علمي منظم مرفق بالأرقام والمخطوطات، وهو فعلا معرض مذهل يجعل الزائر يتعرف على المدينة وعلى مشاريعها وسير الأشغال بها وتطور البلد منذ مئات السنين إلى وقتنا الحاضر.. لا أرغب في المقارنة حتى لا أصاب بنوبة اكتئاب، فمدينة كالدار البيضاء تعاقب عليها الكثير من «المسؤولين» ولم تنجب رجلا يفكر ويخطط ويغير ويبني ويصلح وينجز ويجرب ويسأل ويسائل.. بالعكس تماما، كلما تقدمت السنين تأخرت مدننا، وأصيبت بالهرم وتساقطت جنباتها.. وحده التاريخ لا يكذب مهما حاولوا تحريفه، ولا يرشو ولا يساوم.. لذلك يكتب أسماء رجال بمداد الفخر والاعتزاز ويخط أسماء آخرين بحروف من دم.. ومن خزي وعار لا ينمحي.