«بين قاتل يذبح ضحاياه بدم بارد وفيلسوف يتجرع كأس السمّ بكل شجاعة ومجاهد خارج عن إرادة القانون يساق إلى مقصلته مرفوع الرأس رابط الجأش، اختلفت التسميات لشخصيات شكلت محاكماتها منعطفات إنسانية بعد أن شكلت كلمات البعض منها نورا يضيء الطريق نحو الحرية وإحراق الطغاة ومستعبدي الناس وينير الدرب للمعذبين في الأرض ويرشدهم إلى طريق الخلاص، طريق التحرّر من الظلم والاستعمار، بينما شكلت كلمات آخرين شعاعا نحو الظلم والاستبداد والقتل والهمجية والاستعباد.. كلمات صغيرة اختلفت باختلاف الزمن والمكان والغاية، لكنها التقت جميعها، في النهاية، لتشكل في ما بينها مداد الحبر الذي كتبت به أسماء هؤلاء في ذاكرة الزمن، وتشابكت خيوطها بطريقة غير مألوفة تاهت معها الحقائق وضللت معها العدالة في البداية قبل أن تظهر الحقيقة في النهاية.. كلمات أنهت حياة الكثير منهم عبر محاكمات عادلة وأخرى ظالمة، فكانت فعلا أشهر المحاكمات في التاريخ. اتهام بالهرطقة ولما كانت أفكار أرسطو وبطليموس هي السائدة كونها تتفق مع آراء الكنيسة التي ترى بأن الأرض ثابتة وهي مركز الكون وان الكواكب إنما تدور حولها، وبالتالي لا مكان لأفكار جاليليو التي تقول العكس وهو أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، فقد أثار ذلك حفيظة رجال الدين وعلماء اللاهوت (رغم كونه كان يحاول على الدوام تجنب الصدام معهم) واعتبروا أقواله بمثابة هرطقة تخالف ما ورد في التوراة وكتبهم الدينية، وزاد غضبهم تجاهه عندما حاول تفسير تلك الآيات الدينية بما يتناسب واختراعاته ونظرياته واتهموه بالتالي بالهرطقة والتشكيك في معتقداتهم الدينية، الشيء الذي جعل المجمع الكهنوتي يصدر في فبراير 1616 قرارا بدمغ الهرطقة على كل من يقول بدوران الأرض حول الشمس أو تحركها ليتوارى جاليليو عن الأنظار في منزله بضواحي فلورنسا لمدة سبع سنوات كاملة قبل أن يعود في العام 1623 ويقدم مخطوطه الجديد «النجوم المذنبة»، الذي اعتبرته الكنيسة برهانا عن التوبة والمصالحة حتى جاء العام 1632 وخرج بمطبوعه الجديد «حوار حول نظامي الكون الرئيسيين البطليموسي والكوبرنيكي» معتقداً بأن البابا الجديد وهو صديقه القديم الذي يعرفه مثقفاً محباً للفنون والعلوم وطالما أعجب به وشهد له بالعظمة والعبقرية لا بد أن يكون مجدداً ذا عقل متحرّر يؤيد الأفكار العلمية الجديدة وإن لم يؤيدها فهو يغض النظر عنها ولا يقمعها بالعنف الذي عرف عن أسلافه. لكن توقعات جاليليو جاءت على عكس ما تشتهيه سفن العلم والبحث الذي غمر كيانه وكان بالتالي مثل هذا الكتاب الأخير قد دق له آخر مسمار في نعشه الذي أخذ يتهاوى شيئا فشيئا نحو النهاية، وبالتالي وجد المعارضون له فرصتهم الملائمة التي طالما انتظروها طويلا للانقضاض والنيل من جاليليو فأخذوا بإيهام البابا بأنه المقصود شخصيا بتسمية «سيمبليسيو» الساخرة التي يوحي إليها جاليليو في كتابه، الشيء الذي أثار غضبه ورجال الكهنوت وتم إصدار أمر كنائسي بمنع الكتاب وإحالته إلى ديوان التفتيش التي ألصقت بجاليليو تهمة الهرطقة من جديد وأصدرت الحكم بمثوله أمام محكمة روما للنظر في التهم الموجهة إليه. توبة وغفران.. وإقامة جبرية كان جاليليو حينها قد أشرف على السبعين من عمره، ضعيف متهالك ومصاب بفتق مزدوج وخفقان في القلب فاحتج بعدم القدرة على الذهاب إلى روما للمثول أمام المحكمة لسوء صحته وكبر سنه، لكن مجمع الكرادلة أعلن ضرورة مجيئه إلى روما ولو مقيّداً بالسلاسل دون التفاتة بسيطة إلى حالته المتهالكة ليصل إليها في يناير 1633 في حالة شديدة من الإعياء وتصدر محكمة التفتيش (بعد خمس شهور من التحقيق والاستجواب) حكمها الذي جاء فيه «وبناءً على ما يرى اللاهوتيون أصحاب الرأي في التعريف أن القضيتين المتعلقتين بسكون الشمس وحركة الأرض مناقضتان للعقل ومغلوطتان في اللاهوت، فالأولى هرطقة صريحة والثانية على الأقل فيها خطأ من ناحية الإيمان، فنحن نقول ونلفظ ونحكم ونعلن أنك أنت يا جاليليو ابن المرحوم فنسانزيو جاليلي أصبحت في نظر المجمع المقدس محل شبهة قوية بالهرطقة باعتقادك وتمسكك بنظرية خاطئة ومناقضة للكتب الإلهية المقدسة، ونحن نأمر بمنع كتاب محاورات جاليلي بموجب مرسوم علني ونحكم عليك بالسجن المدة التي سنرى تحديدها مرفوقة بتوبتك الكاملة وتراجعك عن آرائك وإلا فانك ستتعرض لأهوال التعذيب المعروفة»، لتسارع المحكمة إلى الانعقاد بتاريخ 22 يونيو 1633 وقد ألبس جاليلو ثوب التوبة ووقف أمام الكرادلة المجتمعين شاحبا مرتجفا وقد هدّ الاعتقال قواه بعد أن لازمه شبح الموت حرقا وركع على قدميه وتلا بيان التوبة الذي أعدته المحكمة وقال فيه «أنا الموقع أدناه جاليليو ابن المرحوم فنسانزيو جاليلي من فلورنسا والبالغ من العمر سبعين عاماً الماثل شخصياً أمام هذه المحكمة أركع أمامكم يا أصحاب الغبطة والإجلال السادة الكرادلة أعضاء محكمة التفتيش ضد الانحطاط المرتد في جميع الجمهورية المسيحية، وأقسم وأنا أنظر بعيني إلى الكتاب المقدس وألمسه بيدي أنني كنت أؤمن دائماً وأؤمن الآن وسأظل بعون الله مؤمناً في المستقبل بكل تعاليم الكتاب المقدس وما يعظ به ويعلمه وفق مذهب الكنيسة الكاثوليكية المقدسة والكنيسة الرومانية الحوارية، ولكنني رغم تسلمي أمراً من قداسة البابا مفاده أن أتخلى كلياً عن الرأي الكاذب بأن الشمس مركز الكون وأنها غير متحركة وأن الأرض متحركة وليست مركز الكون وأن علي أن لا أتمسك بهذه العقيدة أو أدافع عنها أو أعلمها بأي طريقة كانت مشافهة أو كتابة وبعدما علمت أن العقيدة المذكورة مخالفة لما جاء في الكتاب المقدس قمت بتأليف كتاب وطباعته وفيه بحثت في هذه العقيدة المدانة وذكرت فيه حججاً قوية لإثباتها دون تقديم أي حل صحيح ولهذا السبب اتهمني مكتب قداسة البابا بأن هناك اشتباهاً قوياً بأنني مرتد وكافر وذلك لأنني تبنيت رأياً يقوم على الاعتقاد بأن الشمس ثابتة وهي مركز العالم وأن الأرض متحركة وليست مركزاً للعالم. وبناءً عليه ولأنني راغب في أن أزيل من تفكيركم يا أصحاب القداسة والغبطة ومن عقول جميع المسيحيين المؤمنين ذلك الشك القوي الذي تتصورونه بحق ضدي وبقلب مخلص وإيمان صادق أرفض وألعن وأحتقر الأخطاء والهرطقات سالفة الذكر، وبشكل عام كل خطأ آخر أو أي طائفة أياً كانت إذا كانت مضادة للكنيسة المقدسة، وأقسم بأنني لن أذكر أو أؤكد في المستقبل شفهياً أو تحريرياً أي شيء يمكن أن يؤدي إلى احتمال حصول شبهة مماثلة نحوي كما أعد بأن أبلغ مكتب قداسة البابا أو محكمة التفتيش أو المحاكم العادية في مكان إقامتي عن أي شخص يشتبه في ارتداده أو هرطقته». وأضاف جاليليو قائلا: «وفوق ذلك أقسم وأعد أن أنفذ بشكل كامل ودقيق كل العقوبات الدينية التي فرضها أو سيفرضها مكتب قداسته عليّ وفي حال نكوصي لا سمح الله عن أي من هذه الوعود والاعترافات وما أقسمت عليه فإنني أقدم طواعية لكل الآلام والعقوبات التي فرضتها وأعلنتها التعليمات الكنائسية المقدسة والدساتير الأخرى العامة والخاصة ضد من يقترف مثل هذا الإثم فليساعدني الله وهذا الإنجيل المقدس الذي ألمسه بيدي. وختم قائلا «أنا جاليليو غاليلي قد اعترفت بأخطائي علانية وأقسمت ووعدت وتعهدت كما ورد أعلاه وشهادة بصدق ذلك كتبت بخط يدي هذه الوثيقة المتعلقة بإعلان تنصلي من تلك الآثام وتلوتها كلمة في روما دير مينرفا في هذا اليوم الثاني والعشرين من شهر يونيو عام 1633 معلنا التوبة الكاملة والغفران»، لينتصر جاليليو جزئيا على الحكم الذي كان سودي بحياته نهائيا ويخضع للإقامة الجبرية في منزله بضواحي فلورنسا دون أن يسمح له بالانتقال منه أو استقبال الأصدقاء أو إجراء أي اجتماع فيه ليلفظ كلماته الأخيرة معبرا فيها عن حالته قائلا «إن هذا الكون وهذه الأرض وهذه السماء التي كبرت أبعادها مئات ألوف المرات أكثر مما اعتقده حكماء العصور السابقة، بفضل اكتشافاتي العجيبة وبراهيني الواضحة، قد بات مقصورا بالنسبة لي على الفضاء الصغير التي تملؤه حواسي» ليتخلى بذلك أحد كبار علماء الفلك والفيزياء عن علمه وآرائه ويتبرأ منها خشية من المحاكمة والسجن والتعذيب، قبل أن تأتيه المنية ويلفظ أنفاسه الأخيرة في مقر إقامته الجبرية في ال 8 من يونيو 1642 ويتم دفن جثمانه حيث يقم بمدينة فلورنسا.