هناك مشهد كاريكاتوري يتكرر كل صيف.. مهاجرون مغاربة يدخلون ميناء طنجة، فتيات من مؤسسة رسمية يستقبلنهم بابتسامات عريضة ويتمنين لهم حسن المقام في بلدهم المغرب، لافتات كبيرة في مختلف المدن ترحب بعودة مهاجرينا المقيمين في بالخارج، وتلفزيون رسمي يصور ما يريده فقط، والأشياء كلها بألف خير. هذا هو النفاق بعينه، لأن الواقع مختلف تماما، وأحد وجوه هذا الواقع المر هو قنصلية المغرب في برشلونة. المهاجرون المغاربة العائدون هذا الصيف من برشلونة يحكون الأعاجيب عن هذه القنصلية. وبين حكاية وأخرى يتساءلون: هل هذه القنصلية تابعة للمغرب حقا أم تمت خوصصتها لفائدة المنتفعين بها؟ لأنه لا يعقل أن تكون تابعة للمغرب وتعيش كل هذه الفظائع على مدى سنوات طويلة. عدد المهاجرين المغاربة في برشلونة وحدها يقارب النصف مليون، والإحصائيات الرسمية تقول إنهم في حدود الثلاثمائة ألف. لكن رغم كل ذلك، فإن القنصلية المغربية تعطي الانطباع بأن كل هؤلاء المهاجرين هم مجرد صفر على الشمال. في قنصلية برشلونة، يوجد تخلف انقرض حتى في الإدارات المغربية. فهناك تتكون الطوابير الفوضوية منذ الساعات الأولى للصباح، ويمكن لواقف في آخر الطابور أن يجد نفسه في المقدمة، والواقف في المقدمة يمكن أن يجد نفسه في «القاع» في رمشة عين، أما السبب فهو أنه ليس هناك جهاز يمنح أرقاما مثلما هو معمول به في كل إدارات العالم، والسبب ليس قلة الموارد المالية، لأن هذه القنصلية تكسب في اليوم الواحد مبالغ خرافية، لذلك فإن الفوضى جزء أساسي من عملية الربح، وكما يقول المثل الإسباني «في المياه العكرة توجد الكثير من الأسماك». الإسبان الذين يحبون الاستمتاع بمشاهد التخلف يمكنهم زيارة مبنى القنصلية المغربية في برشلونة، وسيجدون كل ما يسعدهم. طوابير حمقاء، سماسرة في الباب يتوسطون في كل شيء، شخص معروف يمسك بضع أوراق ويكتب عليها أرقاما ويمنحها للمهاجرين مقابل مبلغ مالي، وشتائم في كل الاتجاهات،.. وأشياء كثيرة أخرى. أما القنصل المغربي فهو ليس رجلا أعمى، بل عيناه مفتوحتان عن آخرهما، وهو يدخل مبنى القنصلية كل صباح ويرى ما يحدث، لكنه يمارس تلك اللعبة الرائعة: لا أرى.. لا أسمع.. ولا أتكلم. مبنى القنصلية مخز لصورة المغرب وسمعته، فكثير من تجهيزاته مقتلعة، وحتى صنبور الماء لم يتم إصلاحه، والوساخة منتشرة في أرجائها، والمعاملات المهينة أصبحت عرفا شائعا. هناك شيء آخر على قدر كبير من الغرابة، وهو أنه لأول مرة في تاريخ البعثات الدبلوماسية والقنصلية، صار مخدع هاتفي يشكل جزءا أساسيا من مبنى القنصلية، وهذا المخدع تديره سيدة تبيع كل شيء، ملفات من كل الأشكال وطوابع مخزنية وأوراقا ومستندات، وحتى الوثائق التي يفترض أن توفرها القنصلية للمهاجرين، فإنها تباع في هذا المخدع. المهاجرون يقولون إن تفسير الواضحات من المفضحات، وإن صاحبة المخدع ربما تتوفر على اتفاقية شراكة مع وزارة الخارجية المغربية. وحسب شهادات المهاجرين المغاربة، فإن عملية «حلبهم» في هذه القنصلية تستمر إلى ما لا نهاية، وأبرز مثال على ذلك أن قبول ملف تجديد جواز السفر يتطلب أداء قرابة 80 أوروها، قبل تأدية المصاريف الأخرى. هكذا تبدو القنصلية المغربية وكأنها خارج التغطية تماما، ولا تدرك أن مئات الآلاف من العمال المغاربة يكتوون كل يوم بالأزمة الخانقة التي تعيشها إسبانيا، وكثيرون منهم بلا عمل، وآخرون اضطروا إلى الاقتراض من ذويهم في المغرب لإنجاز وثائقهم الإدارية. منذ سنوات طويلة وقنصلية المغرب في برشلونة على هذه الحال، والمهاجرون المغاربة يتساءلون: هل حقا هذه القنصلية تابعة للمغرب أم إنها ضمن ما يعرف ب«نومانز لاند»، أي أرض محايدة، لأنها لو كانت تابعة، فعلا، للمغرب لتحرك مسؤول ما لوقف هذا العبث. قنصلية المغرب في برشلونة صورة مكبرة للقنصليات المغربية في عدد من المدن الإسبانية، وهي قنصليات تعطي الانطباع بأن المغرب بلد ينتمي إلى القرون الوسطى، لذلك يجب ألا نلوم الإسبان الذين يشاهدون ما يجري هناك فيعتقدون أننا قوم لم تصلهم الحضارة بعد.