1300 درهم الذي تقاضاه الطالعي بوشعيب، أستاذ ومسؤول نقابي بأحد معاهد الموسيقى بالبيضاء، منذ أزيد من 33 سنة مازال هو نفسه الذي يتقاضاه إلى غاية اليوم. يقول الطالعي: «هذا المبلغ عاش به أغلب الأساتذة في مثل وضعي وكونوا أسرا وربوا به أطفالا هم اليوم نساء ورجال، غير أنه من العار أن يظل هذا المبلغ هو نفسه لصيقا بنا وكأن هذا الكون ظل جامدا ولم يتغير منذ 1977. «1300 درهم في الشهر وصمة عار على جبين أي أستاذ. لو كنا نشتغل في مهن هامشية أخرى لجنينا أكثر من هذا المبلغ بكثير، لكن حبنا للمهنة يجعلنا نتنازل باستمرار ولا يمكن لهذا الوضع أن يستمر مزيدا من الوقت». هكذا اختزلت لبنى (اسم مستعار) أستاذة للفن المسرحي بأحد معاهد الموسيقى والغناء والرقص والفن المسرحي بالبيضاء معاناتها ومعاناة ما يقارب 200 أستاذ بهذه المعاهد بالدارالبيضاء وكيف أن أغلبهم فضل العيش وحيدا دون أسرة ودون أن يفكر في مشروع زواج يتوج بأطفال. والسبب؟ راتب شهري «مخجل» لا يتعدى 1300 درهم، تقول لبنى. قبل أن تضيف بأن أي فتاة سترفض الزواج بشاب بهذا المدخول الذي لن يكفي لدفع سومة كراء شقة تصان فيها كرامة الفرد. حوالي 200 أستاذ يتوزعون على ثمانية معاهد بالبيضاء، هي معهد الموسيقى والغناء والرقص والفن المسرحي بالجماعة الحضرية سيدي بليوط (المعهد البلدي)، ومعهد آنفا، ومعهد سيدي بليوط، ومعهد الحي الحسني، ومعهد مولاي رشيد، ومعهد عين السبع، ومعهد المعاريف، ومعهد درب السلطان. وهؤلاء الأساتذة يؤطرون حوالي 10 آلاف طالب «ضيعوا» جميعا سنة كاملة من تعليمهم في هذه المعاهد بسبب السنة البيضاء التي أعلنها الأساتذة احتجاجا على عدم تفعيل قرار الزيادة المصادق عليه من طرف مجلس المدينة في دورته العادية في ال24 من أكتوبر 2004، والذي جاء وفق مرسوم وزارة الثقافة رقم 202-423 الصادر في ال29 من ماي 2003 اعتبارا لعدم إقرار أي زيادة منذ سنة 1977، منهم حوالي 20 أستاذا مرسما وآخرون يتوزعون ما بين متقاعدين وعرضيين، منهم من قضى أزيد من 30 سنة كأستاذ بأجر شهري لا يتعدى 1575 درهما، وبعد اقتطاع الضريبة على الدخل (17 في المائة ) يتبقى 1307.02 دراهم. «لا تغطية صحية ولا أي مستحقات أخرى نعمل في ظروف كارثية» تصرح لبنى. سنة بيضاء بين رافض ومؤيد دخل رشيد(أستاذ بمعهد للموسيقى والغناء والرقص والفن المسرحي بدرب السلطان بالدارالبيضاء) بخطى متثاقلة إلى المعهد على عادته ليسجل حضوره ليس إلا ويغادر بعد ذلك إلى حال سبيله بسبب الإضراب الذي يخوضه أساتذة هذه المعاهد على مستوى الدارالبيضاء منذ أبريل الماضي، والذي انتهى بسنة بيضاء، للبحث عن مصدر رزقه بجهة أخرى ليست بالطبع هي معهد الموسيقى الذي كان يغريه ولازال وسيظل مهما تذوق فيه من أشكال «الإهانة» التي تختصر في راتب «هزيل جدا» لا يتجاوز 1300 درهم في الشهر، وهو المبلغ الذي يقول إنه لا يحترم كرامته كإنسان. أما الحديث عن أشياء أخرى فلا مكان لها بهذه المعاهد الموسيقية كمؤسسات تابعة للمجموعة الحضرية بالبيضاء تحت وصاية وزارة الداخلية. ورغم أن رشيد يؤمن بأن الإضراب حق مشروع، خاصة في مثل وضعيته هو وباقي زملائه بالمعاهد الثمانية على مستوى الدارالبيضاء الكبرى، فإنه «غير مقتنع»، حسب قوله، بهذا الإضراب، من ناحية أن الطلبة لا ذنب لهم حتى تضيع سنة كاملة من حياتهم ومن تعليمهم بهذه المعاهد، خاصة أنهم أدوا أقساط الدراسة لهذه السنة دون أن يتمكنوا من إتمام دراستهم بها، ومنهم من كان على وشك ختم دراسته هذه السنة، وهو ما يعني أن الإضراب ضيع سنة كاملة من عمر طلبة هذه المعاهد. وعكس رشيد يكاد يجمع أغلب الأساتذة في تصريحاتهم ل«المساء» أن الإضراب حق مشروع، وأنه لا سبيل آخر لهؤلاء الأساتذة حتى ينتزعوا حقهم المشروع، الذي لا يتجاوز تمكينهم من العيش بكرامة من خلال رفع أجورهم إلى سقف معقول يستطيعون من خلاله عيش حياتهم على نحو عادي مثلما هو حاصل مع أغلب موظفي القطاع العمومي، مضيفين أن 1300 درهم في الشهر لا توفر لهم حتى «شربة ماء»، فكيف لها أن توفر لهم ولأسرهم «القفة اليومية»؟ أستاذ «بلا كرامة» تقول لبنى إن 1300 درهم في الشهر «لا تصون حتى كرامتنا كبشر فكيف لها أن تصوننا من الجوع والمرض.. نحن نعاني كثيرا، خاصة أن هذا المبلغ الهزيل لا نستلمه شهريا، بل على مدة تتجاوز في أغلب الأحيان أربعة أشهر، مما يجعلنا مضطرين للسلف إلى أن نستلم هذا المبلغ، الذي رغم أنه يتراكم لعدة شهور فإنه قد لا يتجاوز 2500 درهم في أحسن الأحوال. أين هي كرامة الأستاذ هنا؟». واستغرب أغلب الأساتذة الذين التقتهم «المساء» من الدور الذي تنتظره الجهات الوصية على هذه المعاهد من هؤلاء الأساتذة الذين يعيشون على «فتات» الأجور. «أساتذة هذه المعاهد يعيشون ويموتون فقراء، والدليل أن 1300 درهم كأعلى راتب يوازي أعلى شهادة يحصل عليها الطالب (شهادة الجائزة الأولى)، تقول لبنى، بينما تتراوح أجور الأساتذة الحاصلين على شهادة المشارفة الأولى وعلى أدنى شهادة وهي شهادة الوسام ما بين 1000 و1200 درهم في الشهر. أستاذ الموسيقى أو المسرح دائما مثقل بالديون، إذ كلما تسلم أجرته الهزيلة بعد أربعة أشهر أو أكثر يوزعها على جهات واسته في محنته المالية وأقرضته بدون تردد يقينا بالمأساة التي يعيشها أساتذة الموسيقى بهذه المعاهد، وهي الجهات نفسها التي يلجأ إليها من جديد أو إلى غيرها طلبا لقروض جديدة ليأكل ويتنقل فقط، أما الكماليات فلا مجال للحديث عنها لأنها من المستحيلات، تضيف لبنى، التي كانت تتحدث بطريقة حادة ممزوجة بالغضب والاستياء العارم. عزوف عن الزواج بلغة الأرقام، تقول لبنى، أجبر وضع الفقر الذي يعيشه هؤلاء الأساتذة 70 في المائة منهم على التراجع عن مشاريع الزواج، التي مازالت معلقة لدى غالبيتهم إلى أجل «غير معلوم»، في انتظار أن تنظر هذه الجهات ب«عين الرحمة» والمسؤولية إلى هذه الفئة التي تلقن الفنون الراقية لفئات عمرية مختلفة ما إن تطأ أقدامها هذه المعاهد حتى تصبح في مستوى أخلاقي عال، لأن هذه المعاهد باختصار، تضيف لبنى، تهذب النفوس وتخفي العيوب التي تتلاشى تدريجيا مع الوقت، ولا يمكن للمجتمع أن ينتظر من طالب تخرج من معهد موسيقي أن يكون مصدر إزعاج أو شغب أو ما شابه ذلك، بل يكون هؤلاء الطلبة، وب«المطلق»، تضيف، في مستوى أخلاقي عال جدا. وتساءل أغلب الأساتذة، الذين التقتهم «المساء»، عن طبيعة المكافأة التي تقدمها الوزارة الوصية على هذه المعاهد إلى أساتذة لهم الفضل في تهذيب نفوس كل من ولج هذه المعاهد على اعتبار أنها تلقن فنونا تهذيبية راقية تهدئ النفوس وتجد مجالا تفرغ فيه كل مكنوناتها السلبية والإيجابية. لبنى ورشيد ومحمد وغيرهم..أساتذة من طينة خاصة، هم ناقمون ويائسون بفعل الأجور التي يتقاضونها، والتي أدخلتهم في دوامة قروض لا تنتهي ولن تنتهي مادامت الجهات الوصية تتشبث بألا يتم رفع أجورهم إلى سقف معقول، غير أنهم مرتبطون بعملهم كارتباط الرضيع بأمه الذي يعتبرونه رسالة هم ملزمون بأدائها إلى تلاميذهم، رغم المعاناة التي وصل صداها إلى هؤلاء التلاميذ الذين لم يستوعب أغلبهم أن يكون راتب أستاذ للموسيقى 1300 درهم، وهو ما جعل الطلبة أنفسهم، يقول سعيد(أستاذ بأحد معاهد الموسيقى بالبيضاء) يضمون أصواتهم إلى أصوات أساتذتهم الذين قهرهم الواقع المادي»المزري» لهم، والذي يقولون إنه لم يؤثر يوما على عطائهم لفائدة الطلبة، بل ظلوا يقومون بمهامهم على أكمل وجه إلى أن فاض بهم الكيل. لقد أصبح هؤلاء الأساتذة يرفضون التبعية لعائلاتهم وحياة الاقتراض وسياسة التقشف الزائدة، وأن مطلبهم الوحيد والأوحد اليوم هو رفع أجورهم لما يتناسب مع عطائهم وتغيرات المجتمع وموجة الغلاء ومن باب حاجتهم إلى الاستقرار وتحقيق مبدأ الاكتفاء الذاتي دون الحاجة إلى الغير، خاصة أن أغلب المتزوجين في صفوفهم، على قلتهم، يعتمدون كثيرا على زوجاتهم أو أنهم يقومون بأعمال أخرى موازية تدر عليهم مداخيل أوفر. زيادة لم تقرر منذ 1977 1300 درهم الذي تقاضاه الطالعي بوشعيب، أستاذ ومسؤول نقابي بأحد معاهد الموسيقى بالبيضاء، منذ أزيد من 33 سنة مازال هو نفسه الذي يتقاضاه إلى غاية اليوم. يقول الطالعي: «هذا المبلغ عاش به أغلب الأساتذة في مثل وضعي وكونوا أسرا وربوا به أطفالا هم اليوم نساء ورجال، غير أنه من العار أن يظل هذا المبلغ هو نفسه لصيقا بنا وكأن هذا الكون ظل جامدا ولم يتغير منذ 1977. هذا الأجر لم يراع موجة الغلاء، التي عمت كل شيء بما في ذلك السومة الكرائية والمواد الغذائية وتغير حتى طبيعة الحياة. الأساتذة يعيشون في حالة يرثى لها، وبعض المرضى منهم لا يجدون ثمن الأدوية». تقول لبنى إن «ترميم بعض المعاهد أمر ضروري لا شك بحكم البنية التحتية المهترئة لأغلب هذه المعاهد التي غالبا ما تكون في مقرات مقاطعات سابقة أو بنايات قديمة، غير أن وضعية الأساتذة الذين يتحملون العمل في هذه المعاهد وفي ظل ظروف مادية جد مزرية بحاجة أيضا إلى ترميم». أساتذة عاشوا في وضعية فقر وماتوا فيها، تقول لبنى، معللة قولها بأن أحد الأساتذة المشهود له بالكفاءة يعاني في صمت مع مرضه المزمن دون أن يجد أي جهة توليه الاهتمام والرعاية بعد أن تخرجت على يده أسماء وازنة في سماء الفن. وأكد سعيد أن لا أحد يصدق ما يعيشه هؤلاء الأساتذة يقينا بأن أستاذا في المجال الفني يتقاضى مبلغا محترما جدا، وهو ما يظنه الغالبية، لذلك تجدهم يقفون وقفة المستغرب بعد أن يطلعوا على قيمة الأجر الشهري لأساتذة المعاهد الموسيقية التابعة لمجلس المدينة، الذين «يكتوون» بأسعار المعيشة المرتفعة، التي لا قدرة لهم على تحملها بفضل 15 درهما في الشهر بمعدل عمله مائة ساعة في الشهر. نقص في الميزانية وأكد الطالعي أن الميزانية المخصصة لهذه المعاهد «غير كافية»، وهو ما يزيد من «هزالة» أجور الأساتذة، الذين ظلوا عشرات السنين يئنون في صمت. ورغم الميزانية المتواضعة فقد تمت إضافة معهد آخر إلى هذه المعاهد، هو معهد سيدي مومن الذي لم يكن تابعا لمجلس المدينة من قبل. وأضاف الطالعي أنه يتم التعامل مع هؤلاء الأساتذة كعرضيين بدون حقوق، مضيفا أنه لا بد من تسوية وضعية جميع الأساتذة من خلال إدماج المستويين لشروط الأقدمية ورفع الأجر بالنسبة للمتعاونين مع هذه المعاهد، الذين يعملون في قطاعات أخرى، وهم يتوفرون على تجربة فنية تغني طلبة هذه المعاهد، وهو ما يجب أن يضمن حقهم كاملا في التمتع بحقوقهم في أجواء جيدة. وأكد أغلب الأساتذة، الذين التقتهم «المساء»، أنه لا يوجد بروتوكول يحمي المدرس الفني وينظم المهنة التي قالوا إنها تسير بشكل أكثر من «عشوائي»، خاصة في الشق المتعلق بالمدرس. واعتبر الأساتذة أنفسهم أن الأجر الذي يتسلمونه هو في حد ذاته «انتهاك» لحقوق الإنسان، متسائلين عن طبيعة الظروف المعيشية التي يمكن لمبلغ 1300 درهم في الشهر، وأحيانا ب«التقسيط»، أن يوفرها لهم، علما أن ثمن كراء شقة متواضعة اليوم يزيد عن هذا المبلغ بكثير. تقول لبنى: «نطالب بأن تُعطانا كرامتنا كبشر، ويجب أن تتجاوز هذه الوضعية، خاصة أننا كأساتذة نقوم بمجهود لا يوازي قيمة الأجور التي نتلقاها احتراما للطلبة ولهذا الفن الجميل، حيث إن أساتذة هذه المعاهد يعتبرون أنفسهم ملزمين مهما كانت ظروف العمل بأداء رسالتهم التي للأسف لا يجازون عليها».