عدو الثورة المصرية الأول هو الولاياتالمتحدة لا غير، لأنها تعلم بأنها كانت تحكم مصر حكما مطلقا عبر حسني مبارك، الذي لم يكن إلا واليا أمريكيا على مصر، وما أعطاه للأمريكيين من امتيازات في البلاد يشبه الامتيازات التي كانت للإنجليز فيها أيام الاحتلال، بدءا من الاتفاقات الحاكمة للمرور في قناة السويس، إلى الشروط المجحفة بمصر في عقود النفط والغاز، إلى المشاركة في حروب الولاياتالمتحدة ضد العراق في التسعينيات، إلى التعاون المطلق معها في ما يسمى الحرب على الإرهاب، إلى حلفه السياسي والاقتصادي والعسكري مع إسرائيل، ولاسيما في حرب غزة الأخيرة. وقد علمت الولاياتالمتحدة بأن الديمقراطية في مصر تعني استقلال مصر عنها، وإن خسرت الولاياتالمتحدة مصر فستخسر الشرق الأوسط، وإن خسرت الشرق الأوسط فستخسر العالم، ولن تكون القوة العظمى الوحيدة بعد. لذلك فلا يستهيننّ أحد باستماتة الولاياتالمتحدة في محاولاتها إبقاء سيطرتها على مصر، إنها تدافع عن موقعها كقوة عظمى لا أقل، وفي هذا المقال القصير سأبين بعض ملامح الخطة الأمريكية للإبقاء على احتلالها للبلاد. الخطوة الأولى في هذه الخطة إقليمية، وهي حصار مصر بقوى صديقة للولايات المتحدة قادرة على ممارسة الضغط على أية حكومة ثورية منتخبة في البلاد. لقد تدخلت الولاياتالمتحدة عسكريا في ليبيا التي تحولت ثورتها إلى حرب أهلية. والنظام الذي سيخلف القذافي فيها سيضطر إلى دفع ثمن المساعدة الغربية، وهذا الثمن سيشمل حضورا استخباراتيا، وربما قواعد عسكرية. وفي الجنوب، انفصل جنوب السودان ورفع الجنوبيون أعلام إسرائيل فيه احتفالا. وبالرغم من محاولة مصر احتواء الخطر بمد يد الصداقة إليهم، فإنه من الواضح أن الجنوبيين سيختارون أيادي أخرى أمريكية وإسرائيلية، أكثر مالا وشعبية بينهم. وفي الشرق، تنمو خصومة مستترة مع المملكة العربية السعودية، وبوادر حرب أهلية في بر الشام ويزداد تسليح الولاياتالمتحدة لإسرائيل، كمّا ونوعا. باختصار، إن مصر تحاصر من الشرق والغرب والجنوب، ولو أمكن للولايات المتحدة أن تجند سمك البحر ضد مصر لفعلت، لتنشغل البلاد بالدفاع عن نفسها بدلا من تهديد النفوذ الأمريكي في المنطقة. أما الخطوة الثانية في خطة الاحتواء الأمريكية هذه، فهي أن تخرب الثورة المصرية من الداخل، وقد سبق أن قلت إن عشرين مليونا من الناس مجتمعين في الميادين لا تقدر قوة على وجه الأرض أن تغلبهم. لكن إذا تفرقوا أمكن أن يحكمهم أمثال حسني مبارك وقادته وأعوانه. كثيرا ما تطلق الإشاعات عن لؤم أمريكي خفي وراء الثورة، لكن اللؤم ظاهر معلن غير خافٍ، ولا يحتاج إلى عبقرية لكشفه: هي ذات الخطة القديمة، فرِّق تَسُد، فمن يعمل على تفريق الناس إنما يخدم الولاياتالمتحدة عَلِمَ بذلك أم لم يعلَمْ. وقد تعبت أصواتنا ونحن ندعو الإسلاميين والعلمانيين إلى التوحد ضد آلة القمع الممثلة في وزارة الداخلية، والتي هي في الأساس قوة احتلال أمريكية لمصر، وتفكيكها هو الضمانة الأولى للديمقراطية والحصانة الأوثق ضد أي انقلاب قمعي. لقد دأبت الولاياتالمتحدة، عندما يسقط الطغاة التابعون لها أو يوشكون على السقوط، على مساندة انقلابات ضدهم تمتص الغضب الشعبي في الأيام الأولى ثم تستخدم آلة القمع ضد القوى السياسية كلها واحدة بعد الأخرى في السنة التالية، وهناك أمثلة كثيرة من تشيلي حتى الجزائر، وقد كتبت مقالا أحذر فيه من هذا يوم الثلاثين من يناير، ولكنه لم ينشر. وواهم من ظن أنه يستطيع التحالف مع قوى القمع هذه، أو أنها ستتركه ليخوض انتخابات ثم ينجح فيها ليفككها على مهله وهو في الحكم. من السذاجة أن نظن أن بقايا الحزب الوطني والأجهزة الأمنية وغيرها من أركان النظام السابق ستغفو على سلاحها لتنتظر حكومة مدنية منتخبة تفككها وتنزع سلاحها وتحاكمها. طبعا، قد تسكت آلة القمع هذه عن القوى السياسية التي تعدها بأنها لن تفككها، في هذه الحالة تفقد الثورة معناها، وتكون الحكومات المنتخبة واجهة لنظام قمعي مسلح لا تستطيع تغييره، وهذا تزوير لإرادة الناس، لذلك فأنا أكاد أجزم بأنه بدون تفكيك آلة القمع فلا انتخابات إلا وستزور ولا دستور إلا وسينتهك، وستظل مصر دولة تحتلها الولاياتالمتحدة بالسلاح وإن لبست أقنعة جديدة. وقد وقع في فخ الانقسام هذا كثير من القوى السياسية في البلاد، فذهبوا إلى حكام البلاد الحاليين ومن ورائهم إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية يعطيهم الضمانات، فالبعض دخل في حوار مع واشنطن والبعض الآخر اقترح أن تكون مصر ديكتاتورية عسكرية كتركيا في الثمانينيات، مغيرا عقيدة الجيش من الدفاع عن البلد إلى الدفاع عن مدنية الدولة. ولم يهرع أي من الطرفين للولايات المتحدة حبا فيها بل بغضا في صاحبه وخوفا منه، يخاف كل منهما أن يخونه صاحبه، فيريد أن يخون هو أولا، فتظل الولاياتالمتحدة ووكلاؤها من أهل القمع المسلح في البلاد مرتاحة تختار، تهدد هذا بذاك وتحصل على التنازلات من الطرفين. لقد حاولنا في الأسابيع الماضية إيصال وجهة النظر هذه إلى شتى الاتجاهات السياسية، ندعوهم إلى الوحدة الوطنية حول مطلب تغيير وزارة الداخلية وقوى الأمن بحيث تصبح عاجزة عن القمع، لأن هذا في مصلحة الكل، إسلاميين وعلمانيين. وقد أبدى معظم من قابلنا قبولهم بالمبدأ، وظهر أن الوحدة وطنية ممكنة، وشارك الجميع في جمعة الثامن من يوليوز، ثم ما مضى الأسبوع إلا والانقسام على أشده مرة أخرى. وأنا أتفهم قلق الطرفين، وإحساس أحدهما بالظلم والتجني وبسرقة أعداده واستغلالها لغير ما تريده وإحساس الطرف الآخر بالخذلان مرة بعد مرة، وأتفهم شك كل واحد منهما في صاحبه، ولكن الخطر المحدق بهما أكبر مما يختلفان فيه. واختلافهم يضعفهم، لا أمام الناس وحدهم، بل أمام من يفاوضونه من قوى الداخل والخارج. والمصيبة أن الكل يفاوض عدوه ولا يفاوض أخاه، ولا يبدو أن أحدهم مستعد للثقة في أخيه. وأسوأ من ذلك، لا يبدو أن أحدهم مستعد لأن يثق في قدرة الشعب المصري على أن يفرض إرادته على قامعيه وأعدائه بلا مفاوضات، سواء كانوا في وزارة الداخلية في القاهرة أو البيت الأبيض في واشنطن. إن لم نتشدد بعد ثورة نزل فيها الملايين إلى الشوارع فمتى نتشدد بالله عليكم؟! لذلك فنحن نتوجه بهذا النداء إلى عموم المصريين، متجاوزين مرشحي الرئاسة والأحزاب والجماعات كافة، وهو مرة أخرى نداء إلى الوحدة الوطنية ضد آلة القمع، وهو الضمانة الوحيدة للاستقلال والديمقراطية الحقيقية، ليثق الأعزل بالأعزل، فقد رأى العالم كله كيف أن ثورة العزل في مصر انتصرت على كل سلاح على وجه الأرض، والسلاح أمريكي الصنع، وكل ما كان أمريكي الصنع فهو أمريكي الهوى.