اتخذ مسلسل التضييق على الصحافة شكل حرباء تتلون بكل الأصباغ، حسب طبيعة الموسم المزاجي لعدالة قد تصدر حكما بسجن أو بمنع صحافي من الكتابة لمدة عشر سنوات أو تساهم في إغلاق مقاولات صحافية ناشئة وتجبر أصحابها على أن يكون المنفى الاختياري حلا واحدا لا ثاني له.. لكنْ أن يمتد التنكيل بالصحافة إلى حد إخضاع الصحافي لمقتضيات القانون الجنائي، كما هو الحال مع مدير نشر «المساء»، رشيد نيني، والحكم بالسجن النافذ في حقه، ثم ملاحقته داخل أسوار «المعتقل» الكبير بعزله داخل سجن آخر وحرمانه من أبسط الحقوق الممنوحة -بوفرة- لعتاة المجرمين، فإن الألوان الحربائية في هذه الحالة بالذات تختلط على المتابَع البريء، الذي لن يكون باستطاعته التمييز بين الحالك منها والفاقع والباهت، من فرط هشاشة الأصباغ والنوايا المعلَنة، التي لا تصمد أمام محك الممارسة. ولنفترض، جدلا، أن الرقيب يمتلك رؤية واضحة لطبيعة العلاقة بين السلطة والصحافة ولتفترض أن هذه المقاربة ليست ملغومة بالتناقضات التي «تهدر دم» المنطق السليم في أشهر الحريات والمنظومات المؤسساتية والقيمة المسيطرة والوثيقة القانونية الأولى التي خضت لاستشارة «جماهيرية» كما قيل، فإذا رتبنا أمامنا كل هذه الفرضيات، سيواجهنا سؤال شامخ، شموخ الجبال، مفاده: هل يوجد رشيد نيني وراء القضبان بفعل منظومة الحريات المعلنة؟ أم إن محاكمته تدخل في سياق «إياك أعني واسمعي يا جارة»؟! وإن رسائل مشفرة لم يستطع أحد -إلى حد الساعة- فك طلاسمها (على وضوحها وسهولة فكّها) وجهت من خلال محنة رشيد نيني في كل الاتجاهات، يحملها «رقّاص» بريدي، ليس فقط إلى أسرة الصحافة والإعلام، بل إلى كل من يحتضنون في صدروهم رأيا ونشيدا غير مختوم بتأشيرة الرقيب... مع كل صبح جديد، نترقب سماع الإفراج عن رشيد نيني، فيخيب أملنا -كل يوم- في أن يتسرب بصيص ضوء ووعي إلى أذهان الرقباء وأسيادهم (أصحاب الحلول الأمنية والقمعية) الذين يعمدون، من خلال إطالة أمد الاعتقال، إلى إفساد النوايا ومقاومة كل تطلّع مشروع إلى بناء وطن الحق والقانون وحقوق الإنسان وحرية التعبير والإعلام والتواصل، هذا الحق الذي يعتبر ثابتا من ثوابت المواطنة الكاملة وحلقة أساسية من حلقاتها إذا ضاعت، ضاعت أحلام الصرح كله... من أراد أن يختلف أو يتفق مع رشيد نيني، فله الحق في ذلك، لكنْ علينا أن نتفق من أجل إطلاق سراح الصحافي نيني فورا، فمهما كانت الرسائل المستوحاة من وراء الاعتقال الانتقامي من نيني وإنتاج هذا الوضع، «الكفكاوي»، المفرط في العبثية، الذي يعاني منه نيني داخل المعتقل، فإن تلك الرسائل ستخطئ، حتما، مراميها. لن يفتح النادي الديمقراطي العالمي أبوابه أمام مبيدي الحريات والتنكيل بالصحافة وبالصحافيين وبالحق في المعلومة وبالإعلام الحر، مهما كان ثقل الوصاية وإكراهات مهنة تؤسس لقواعد المواطنة الكاملة في ظل العواصف وجلادي حرية الصحافة والمتربصين وكل المرعوبين من «القوة الضاربة» للخبر الموثوق والرأي الثاقب. يردد رشيد نيني أن «الصحافي ليس فوق القانون».. بهذه الكلمات، يرمي نيني الكرة في معسكر هذا القانون بالذات من أجل إحقاق الحق وطرد الخطيئة ومحاكمتها وإقبارها إلى الأبد، برفع الحيف عنه وبإطلاق سراحه لكي يعود حرا طليقا إلى دفء أحضان ابنته وحتى تستعيد الأخيرة الثقة الضائعة في أنها تعيش في بلد يقول للقصي والداني ويرددها، في مناسبة وغيرها، «إنه بلد حقوق الإنسان والديمقراطية ودولة الحق والقانون». لقد أدخل رشيد نيني إلى سجن بظلم واضح لم يكن حريّا أن يدخله أصلا، وإذا بنا نكتشف أن هذا السجن يحمل في أحشائه سجنا رهيبا آخر، حيث مورست كل أنواع «التّمكريهْ المخزني» وكل أصناف «الانتقام» وتفجير مكبوتات الحق المتراكمة ضد حرية الصحافة وضد صحافي كتب مقالات ولم يقترف جرما.. هذه المقالات «أزعجت» تلك «الجهات»، التي تتمتع بكل الحريات، ومن بينها حرية اعتقال أي صحافي متى تشاء، خارج القانون، المفترى عليه.. لقد تم تكبيل حروف صحافي بأصفاد القانون الجنائي، وكأنه مجرم اقترف جرائم ضد الإنسانية، وتم رميه في زنزانة انفرادية وتم حرمانه حتى من قلم الحبر الجافّ، جفافَ الديمقراطية والحرية في هذا البلد! وحرموه من أقلام «الرصاص»، التي أزعجت أمريكا العظمى بظلمها عندما شنّت حربَ إبادة ضد العراق... لم يبق مكان بيننا لمن لا يلتزم بالاحتكام إلى القوانين العادلة والمُنصفة ولكل الآمرين بالصرف أو الآمرين بتسييد القوانين الجائرة على ما عداها في بلد أعلن على الملأ أنه يلتزم بحقوق الإنسان، كما هي متعارَف عليها كونيا. نحن، إذن، أمام معضلة اسمها عدم تطابق المواثيق والتعهدات مع ما يعتمل ميدانيا من شطط وانتكاسات وزجّ بأهل «الرأي الآخر» في السجون.. لقد قلت، سابقا في إحدى جلسات محاكمة الصحافي رشيد نيني، لحظة مطالبة المحامين بقاعة أرحب، مع يقيننا أنها محاكمة خارج القانون: «القاعة صغيرة والظلم كبير»!... كل يوم يقضيه رشيد نيني، مدير نشر «المساء»، وراء القضبان يُعَدّ تكذيبا صارخا لأحلام الواهمين بقرب دخولهم النادي الديمقراطي.. أطلقوا سراح الصحافي رشيد نيني فورا. لقد تجاوز الانتقام المدى!... أحمد السنوسي