تميز عهد الملك محمد السادس باعتماد العلاقة المباشرة مع المواطنين عبر الزيارات التفقدية للأوراش للمدن وللقرى النائية، وغالبا ما تتميز هذه الزيارات بالخروج عن البرنامج الرسمي وتكسير البروتوكول والارتماء في أحضان الجماهير، هذا بالإضافة إلى الزيارات المفاجئة وغير المبرمجة التي تُرْعِبُ المسؤولين وتُرْبكهم. مهما تميزت هذه الزيارات بالارتجالية، العفوية والتلقائية، فالأكيد أننا أمام التأسيس وبشكل مدروس لعلاقة جديدة للحاكم بالمحكوم، علاقة تقوم على التواصل المباشر وتهدف إلى تقوية صورة الملك كسلطة فوق السلطات تتقصى شؤون المواطنين وتهتم بهمومهم وتشرف على تقويم الاعوجاجات، سلطة ضامنة للأمن بكل معانيه، سلطة مُنصفة قادرة على إحراج كل قوي مهما علا شأنه. ومهما كانت جدة هذه الدينامية من حيث الإخراج فهي لا تعدو أن تكون استمرارا لأسلوب حكم الملوك العلويين الذين اعتمدوا في علاقتهم بالرعية على التواصل المباشر وضمان ولاء العامة لأشخاصهم دون وساطة. في حوار للملك محمد السادس مع مجلة باري ماتش حول أسلوب الحكم الذي سيميز مرحلته، صرح هذا الأخير بما يلي: «كان والدي رحمة الله عليه يقول إن عروش العلويين توجد على صهوة جيادهم»، التصريح يعني الاستمرارية في نفس الأسلوب مع فارق الاعتماد على آليات عصرية وحديثة، والهدف أن يتعلق المواطن بشخص الملك وأن يكون وفيا له ومُمْتنّا لِكرَمِه، لا أن يرتبط بالمؤسسات ويقتنع بدورها في تنظيم علاقته بالسلطة، بما في ذلك المؤسسة الملكية، بمعنى أن تقوم العلاقة على الحب والوفاء، لا على معادلة الحقوق والواجبات بين طرفين يمثل أحدهما الحاكم ويمثل الآخر المحكوم. هذه الحقيقة تعني من جانب قدرا كبيرا من الذكاء في تصريف ملكية محمد السادس لاستمرارية علاقتها مع السلطة، تصريف يحافظ على أسلوب الأجداد في الحكم بقدر ما يعطي صورة حديثة وعصرية للعلاقة مع «الرعايا « الذين أصبحوا على مستوى التعبير مواطنين، والعاهل الذي تحول في لغة الخطابات والبلاغات إلى «الملك المواطن»، لكن عمق العلاقة ومضمونها يستمر قائما على الولاء والطاعة وغير ذلك مس بالمقدسات يعاقب عليه القانون. هذا الاختيار الضمني والمعلن لأسلوب وشكل الحكم في مملكة محمد السادس يُفسر بوضوح رفض الإصلاحات السياسية والدستورية، ويشرح مخطط تأزيم الأحزاب السياسية وإضعافها، كما يفسر ميلاد حزب الملك بزعامة أحد أصدقائه والذي لا يغيب عن كل الزيارات الملكية، حيث يتعمد الظهور إلى جانبه مرافقا لتنقلاته سواء الرسمية أو الموازية التي يتناقلها المواطنون، ويعتبرها أغلبهم إشارة ملكية مقصودة للتصويت على حزب الأصالة التي تجسدها التقاليد الملكية والمعاصرة التي يظهر بها الملك ويتواصل بها مع المواطنين. الخلاصة أننا أمام مخطط سياسي «مشروع» يهدف القطع مع تجربة حكومة التناوب التي أعطت انطباعا ببداية اقتسام السلط بين الملك والمؤسسات والتوافق حولها، والتأسيس لنظام ملكي رئاسي تستمر فيه الملكية مصدرا لكل السلط، ويقتصر فيه دور المؤسسات الحزبية وغيرها على تنشيط المشهد السياسي. مشروعية هذا المخطط لا ترفع عن أصحابه مسؤولية مناقشته بوضوح وبشكل علني حتى يتحمل كل طرف مسؤوليته في نتائج مثل هذه المغامرة التي سبق وأن جَرَّت علينا ويلات الخمسينية السابقة، وكادت أن تصل بالبلاد إلى السكتة القلبية التي انتبه إليها الملك الراحل. لاشك أن أطراف «التوافق» آنذاك كانت على وعي بأن الأزمة كانت تهدد الملكية والبلاد على حد سواء، وأن إنقاذ أحدهما يفرض إنقاذ الآخر. أتمنى أن يتحكم نفس الوعي في مهندسي هذه المرحلة، وبقدر ما كانت عروش الملوك على صهوة جيادهم كانت الحكمة والتبصر أساس المُلك.