اعتقال الشيخ رائد صلاح من قبل قوات الأمن البريطانية، بعد دخوله بطريقة مشروعة تلبية لدعوة من قبل برلمانيين بريطانيين للمشاركة في ندوة سياسية، هو أحد أبشع أنواع المكارثية وإحياء لمحاكم التفتيش الأوربية الديكتاتورية التي تنتمي إلى عصر الظلمات والتخلف الفكري. الشيخ رائد صلاح لم يدخل بريطانيا متزنرا بحزام ناسف ولم يخف متفجرات تحت قبعته، كما أنه لا يعتنق فكر تنظيم «القاعدة» وإيديولوجيته، وإنما دخلها كرجل صاحب رسالة سلمية وداعية إلى التعايش بين الأديان والثقافات، أسلحته الحجة والمنطق والفكر المستنير. تيريزا ماي، وزيرة الداخلية البريطانية، التي اتخذت حكومتها قرار الاعتقال ومن ثم الإبعاد، لا تقف على أي أرضية قانونية، وإنما تخضع في موقفها هذا لابتزاز جماعات ضغط يهودية صهيونية، تريد تحويل بريطانيا إلى جمهورية موز، وتشوه صورة مؤسساتها الديمقراطية وبرلمانها الأعرق الذي كان الشيخ رائد صلاح سيحاضر في إحدى قاعاته، وبحضور عدد من نوابه. فكيف تبرر حكومة المحافظين الائتلافية منع رجل مسالم لم يدن في البلد الأكثر عنصرية في العالم الذي يحمل جنسيته، وسمح له بالمغادرة، وهي التي تتدخل عسكريا في ليبيا وتقتل صواريخها وطائراتها عشرات المدنيين تحت شعار الحرية وحقوق الإنسان وترسيخ قيم العدالة والديمقراطية؟ إنها حكومة أكثر إسرائيلية من إسرائيل نفسها، وتمارس قمع الحريات التعبيرية والإنسانية ضد كل صاحب حق يريد التعبير عن مظالم شعبه بالطرق الحضارية الديمقراطية، ويدخل الدول من أبوابها وليس متسللا في شاحنة أو بجواز سفر مزور. الشيخ رائد صلاح يتحدث باسم أصحاب الأرض الشرعيين الذين اغتصب اليهود الهاربون من القمع والمحارق الأوربية أرضهم وطردوا وهجروا الغالبية العظمى منهم، أما من تبقى، وهم يمثلون خمس عدد سكان الدولة الجديدة العنصرية، فيواجهون أقسى أنواع التمييز والتفرقة ويعاملون كمواطنين من الدرجة العاشرة في دولة تتباهى، زورا وبهتانا، بكونها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة. كنا نتمنى لو أن الحكومة البريطانية قد اعتقلت إيهود باراك، وزير الدفاع الإسرائيلي، الذي ارتكب جرائم حرب في قطاع غزة وأصدر أوامره باستخدام قنابل الفوسفور الأبيض ضد أبنائها العزل المحاصرين، أو بنيامين نتنياهو وأفراد حكومته الذين ارتكبوا مجزرة السفينة مرمرة في عرض البحر المتوسط في المياه الدولية، ولكنها لم تفعل ولن تفعل، لأن هؤلاء يمثلون دولة تعامل من الغرب المتحضر الديمقراطي كما لو أنها فوق كل القوانين، ويتمتع إرهابيوها بالحصانة مهما ارتكبوا من جرائم أو مجازر. كيف يمكن أن يكون الشيخ رائد صلاح معاديا للسامية وهو وكافة أبناء الشعب الفلسطيني أكبر ضحايا السامية. الشيخ رائد صلاح لم يقتل إسرائيليا ولم يلق حجرا على أي يهودي داخل إسرائيل أو خارجها، بل لم يؤذ أحدا طوال حياته، فكيف يعامل بهذه الطريقة العنصرية المهينة استجابة لجماعات تريد كتم الصوت الآخر ومصادرة حرية التعبير في دولة تقول إنها قبلة الرأي الآخر والقيم الديمقراطية. هذا الرجل الوقور القادم من رحم المعاناة، المؤمن بدينه، المدافع عن عقيدته، مثال الصبر والجلد في وجه الظلم والاضطهاد، لا يستحق مثل هذه المعاملة ذات الطابع العنصري الإقصائي، ومن حكومة تمثل الدولة التي تسببت في نكبة الشعب الفلسطيني وحرمانه من أرضه ووطنه وتشريده في مختلف أنحاء المعمورة دون أن يرتكب أي ذنب، تكفيرا عن خطاياها في الصمت على محرقة اليهود في ألمانيا النازية. لا نستغرب مثل هذا الموقف العنصري من حكومة يرأسها ديفيد كاميرون، أحد الأعضاء البارزين في جمعية أنصار إسرائيل في البرلمان البريطاني، ومن حزب المحافظين الذي يتباهى بأن ثمانين في المائة من نوابه أعضاء في هذه الجمعية، وعلى رأس هؤلاء وليام هيغ، وزير الخارجية، الذي يفتخر بكونه انضم إلى اللوبي المؤيد لإسرائيل عندما كان عمره لا يتجاوز الخمسة عشر عاما. إنها إحدى حلقات «الإسلاموفوبيا» أو المعاداة للإسلام التي تجتاح أوربا، وبريطانيا على وجه الخصوص، هذه الأيام، وتجعل من المسلمين الأعداء الجدد بعد انهيار إمبراطورية الشر السوفياتية، فإذا كنت مسلما فإنك إرهابي، وعليك أن تثبت العكس.. إنه أمر مؤسف بكل المقاييس. ولعل ما هو أخطر من ذلك اتهامُ كل شخص ينتقد إسرائيل ومجازرها ضد العرب والمسلمين بكونه معاديا للسامية ويجب مطاردته واغتيال شخصيته ومنعه من التعبير عن وجهة نظره، بغض النظر عن دينه أو جنسيته، فإسرائيل كيان مقدس ويهودُها هم الملائكة الذين يحرم توجيه أي نقد إليهم، وشاهدنا كيف كتب نيكولا ساركوزي رسالة إلى الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليط، الأسير لدى حركة «حماس»، بينما لم يعر أي اهتمام لعشرة آلاف أسير فلسطيني، معظمهم من المدنيين، وبينهم نساء وأطفال. نلوم أنفسنا كعرب ومسلمين قبل أن نلوم بريطانيا وفرنسا وكل حكومات الغرب المتحضر على هذه المعاملة الاحتقارية لنا والخنوع الكامل للابتزاز الإسرائيلي، فنحن الذين نملك البترول والأرصدة، ونحن الذين نستثمر أكثر من ثلاثة تريليونات دولار، ونشتري صفقات أسلحة بمئات المليارات من الدولارات لإنقاذ الاقتصادات الغربية من الإفلاس، ومع ذلك لا نملك ذرة من التأثير لوقف هذا الهوان والذل اللذين نتعرض لهما على أيدي الحكومات الغربية واللوبيات الصهيونية المتحكمة فيها. تضامننا الكامل مع الشيخ رائد صلاح، ونقدم شكرنا إليه في الوقت نفسه، لأنه فضح أكذوبة ادعاءات الحكومة البريطانية حول الحرية واحترام حقوق الإنسان، وكشف لنا الوجه الاستعماري البشع والقبيح الذي تحاول إخفاءه بلبس قناع الديمقراطية الزائف. الاعتقال ليس جديدا على هذا الشيخ المجاهد من أجل قضية شعبه ومطالبه في العدالة والمساواة واستعادة حقوقه المشروعة، فقد قضى حياته متنقلا من زنزانة إلى أخرى، ولم يهرب مطلقا، وهو المريض المتقدم في السن، اعتقاله وسام فخر جديد نضيفه إلى أوسمة أخرى عديدة، وهو لن يكون الوسام الأخير على أي حال.