نحن في خطر. قامت هذه الثورة بإجماع الناس وتفكك أجهزة الدولة القمعية، واليوم يعاد تركيب أجهزة الدولة القمعية ويتفكك إجماع الناس. افترق الناس على مسألة الدستور قبل الانتخابات أو الانتخابات قبل الدستور، وقبلها اختلفوا على الاستفتاء، ولا يخفى على أحد أنه خلاف على السلطة، يريد كل فصيل أن يحكم، ويظن كل فصيل أن باب الحكم هو التحالف مع حكام البلاد الحاليين ضد الفصيل الآخر. ولا يخفى على أحد أيضا أن هؤلاء المختلفين لا يستطيع أي منهم أن يحشد الملايين في الشوارع وحده، ولذلك فهو في موقع ضعف أمام الحاكمين يفي لهم بوعوده أملا في أن يفوا له بوعودهم، إلا أنه لا يستطيع ضمان وفائهم له بحال من الأحوال. وقد وقع في هذا طرفا الخلاف، فترى أن معارضي المجلس الأعلى للقوات المسلحة اليوم إنما يعارضونه لأنه اختار سواهم حليفا، وهم على أتم الاستعداد لأنْ يؤيدوه إذا حالفهم هم. إن الشارع لا يمتلئ إلا بالإجماع، والناس الذين نزلوا بالملايين أيام الثورة لم ينزلوا بأمر من أي فصيل سياسي، بل نزلوا لأنهم أدركوا أن الكل مجمعون على زوال النظام، ونزلوا لأنهم يكرهون وجه هذا النظام الأقبح المتمثل في وزارة الداخلية. ولو بقينا غارقين في خلافاتنا اليوم، فإن وزارة الداخلية ستعود كما كانت، ولن نضمن إجراء الانتخابات في موعدها، ثم لن نضمن أن تكون الانتخابات نزيهة ولا تزور، ثم لن نضمن إذا غضبنا من هذا كله أن نقدر على حشد الناس في الشوارع لأننا متفرقون، فإذا دعا البعض الناس إلى النزول دعاهم خصمه السياسي إلى البقاء في بيوتهم، وإذا اعترض طرف ما على نتيجة الانتخابات فإن خصمه سيقبلها. وكما ترون فأنا لم أسم الأطراف السياسية، كالإخوان والليبراليين لأن كليهما معرض لأن يحل محل صاحبه، وسيخسر الطرفان في هذه اللعبة وتكون وزارة الداخلية هي المنتصر الوحيد. وحين أقول إن وزارة الداخلية ستكون هي المنتصر الوحيد فأنا أعني أن الديمقراطية الحقيقية في مصر ستدفن قبل أن تولد، وهو بالضبط ما تريده الولاياتالمتحدة وإسرائيل. تعلم الولاياتالمتحدة بأن الديمقراطية في مصر تعني بالضرورة سعي المصريين إلى مصلحة مصر، وتعلم الولاياتالمتحدة بأن مصلحة مصر تتعارض مع مصلحتها، فلها يد ضاربة مسلحة تقمع بها الشعب المصري وتمنعه من ممارسة حقه في تقرير مصيره واختيار حكامه. إن الضمانة الوحيدة ضد هذا السيناريو هي عودة القدرة على حشد الناس في الميادين، وهذه لا تكون إلا بإجماع كافة الأطراف السياسية أولا، ثم باختيارهم لهدف يقبل الناس أن ينزلوا إلى الشوارع من أجله، أما الصراع على سلطة ليست بعد في يد أحد منهم، ولن تكون في يد أحد منهم فخطر عليهم جميعا. الشوارع هي الحصن ضد السلاح وقنابل الغاز والهراوات، وهذا السلاح أمريكي المنشأ والهوى. ولذلك فإننا نجتهد في البحث عن النقاط العامة التي تجمع عليها القوى الوطنية في مصر، ونطلق من هاهنا مبادرة للتفاهم بين هذه القوى تعيد إلى الجميع قدرة الحشد، وتضمن أن تجرى الانتخابات حين تجرى على أساس نزيه، وألا يفرض أحد على المصريين شيئا بالقوة، سواء من داخل البلاد أو خارجها. ونقاط الإجماع هذه لا تزيد على ثلاثة عناوين كبرى: أولا: هوية البلاد وعلاقتها بالآخر: لا يختلف الناس على انتماء مصر إلى محيطها العربي والإسلامي، وأنها لا يجوز أن تكون حليفة للولايات المتحدة وإسرائيل، وأن القضايا العربية والإسلامية هي في صلب المصلحة القومية المصرية، وأن فصل مصر عن أمتها فيه إضعاف لها وللأمة. فلتكن الهوية والمرجعية والدفاع والاستراتيجية العامة والسياسة الخارجية في أيدي من يؤمنون بانتماء مصر هذا. ثانيا: علاقات أهل البلاد بأنفسهم وبحكامهم: لا يختلف الناس على الحرية الكاملة في التعبير والتنظيم السياسي وعلى الالتزام الكامل بحقوق الإنسان. سيستفيد الجميع من ذلك، من كان ذا قدرة دعوية كبيرة وانتشار بين الناس سيستفيد من رفع القيود عنه ولن يخاف من منافسيه، ومن لم يكن ذا حضور شعبي كبير لحداثة عهده بالتنظيم أو لحداثة خطابه السياسي سيستفيد من حماية حقه في الاختلاف مهما كان. لذلك فليكن أمر السياسة الداخلية والحقوق السياسية موكلا إلى من يؤمنون بالحرية المطلقة وحقوق الإنسان. ثالثا: الاقتصاد: لا يختلف المصريون على العدالة الاجتماعية، وأن وضع الطبقات المظلومة في هذا البلد لم يعد محتملا، ولو كان محتملا لما قامت الثورة. وإن الأحزاب والجماعات اليسارية هي الأكثر اهتماما بمسألة الاقتصاد وحقوق المظلومين، فليوكل الاقتصاد إذن إليهم، فهو ما يحسنون. إن تفاهما كهذا يلغي خوف الأطراف السياسية من استئثار بعضها بالسلطة دون بعضها الآخر، فلكل من التيارات السياسية الكبرى في البلد (الإسلاميين والليبراليين واليساريين) نصيب في هذا التفاهم. فإن قبلوا به أصبح ممكنا أن يعملوا سويا وألا يستقوي أحد منهم على أخيه بغيره. وأول عمل لهم هو استكمال هذه الثورة التي قامت أساسا يوم عيد الشرطة وباسم شاب قتل تحت التعذيب، فلا يجوز أن يسمحوا أن يعاد بناء وزارة الداخلية بنفس الكوادر القديمة ونفس الضباط ونفس القواعد الإدارية والرقابية. فليطالبوا جميعا ببناء وزارة داخلية جديدة ينعدم فيها الأمن السياسي، فلا يكون هناك جهاز لأمن الدولة مهما تغير اسمه، ولا يعمل في هذه الوزارة الجديدة من كان يعمل في الوزارة القديمة، فلا بد لها أن تكون جديدة تماما. لقد قال مستشار رئيس الوزراء منذ عدة أيام على التلفزيون المصري إن مستوى الجريمة في مصر لم يتغير قبل الثورة وبعدها، مما يعني أن مستوى الجريمة لم يتغير بوجود الشرطة وبغيابها. هذه الشرطة لم يكن لها دور في مكافحة الجريمة بل كان دورها سياسيا محضا، وكل الكلام عن غياب الأمن في البلد إنما هو كلام سياسي الهدف منه إعادة تسليح الدولة ضد مواطنيها واستعادة قدرتها على ممارسة العنف. لا يكفي، ليحكم شعب ما نفسه، أن تكون حكومته رافضة لممارسة العنف ضده، إنما يجب أن تكون عاجزة عن ممارسة العنف ضده. باختصار، نريد أن يكون ضابط الشرطة كما كان ضابط الجيش في الثورة، إذا جاءه أمر بإطلاق النار على الناس، ولو كان من رئيس الجمهورية، فإنه يرفض، فيعجز آمره عن إصدار أمر كهذا. أيها الناس، إذا افترقنا فأبشروا بالشرطة تعود إليكم كما كانت، فليثق الأعزل بالأعزل، إن من يسعى إلى السلاح لن يملك السلاح بل سيملكه السلاح، ولو كان هذا السلاح قنبلة غاز وهراوة، فكلها مصنوع في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهي كانت الحاكم الفعلي للبلد ثلاثين عاما، وساذج من يظن أنها ستسمح له سماحا بأن يحكمها، إنما يجب أن تجبر على ذلك قسرا، وهذا لا يكون إلا ونحن جميعا في الميادين، الشعب والشعب يدا واحدة.