خسرت منظومة التربية والتكوين الكثير هذه السنة، إنها سنة بيضاء، من جهة التكوين المعرفي والبيداغوجي، لكن الوزارة قررت ألا تكون بيضاء من جهة التقويمات وامتحانات نهاية السنة، لاعتبارات لا علاقة لها بالتربية والتكوين. وإذا لم تتخذ الوزارة حزمة من الاجراءات، فهي سنة بيضاء من حيث التكوين وستكون «سوداء» من حيث التقويم، فالتلاميذ، الذين يعرف عنهم المدرسون والإداريون جيدا أنهم لم يدرسوا شيئا، سيجتازون الامتحانات، بما في ذلك الامتحانات التي يتعلق بها مستقبل التلاميذ، ونقصد امتحانات الباكلوريا. أما لماذا لم تقرر الوزارة جعلها سنة بيضاء فلأن امتحانات الباكلوريا في المغرب كانت، دوما، مناسبة ذات حساسية خاصة، عند الأسر والمدرسين والإداريين وعند الدولة أيضا، فالأسر تتعامل معها غيبيا، أما الدولة فتتعامل معها وفق مقاربة أمنية، تجعل هذه المناسبة مشكلة يتم حلها على مستوى الولايات والعمالات.. وهذه حقيقة مسجلة على مر تاريخ منظومة التربية والتكوين في بلادنا، وتزداد هذه الحساسية كلما رافقت هذه الامتحاناتِ توتراتٌ اجتماعية أو سياسية، كامتحانات بدايات السبعينيات و بداية الثمانينيات وبداية التسعينيات، إبان «حرب تحرير الكويت»، وهذه السنة مع بداية العقد الثاني من القرن ال21 ستكون لهذه الامتحانات الحساسية ذاتها، لذلك بدأت الاجتماعات على مستوى الولايات لتدارس هذه المناسبة غير العادية. أما ما سيضفي على امتحانات الباكلوريا هذه السنة حساسية خاصة فهو هذا «الإسهال» في الاحتجاجات غير المنظمة بل والموغلة في الفردية والفئوية والمحلية، إذ يكفي أن يفشل تلميذ في الإجابة عن أسئلة الامتحانات لتصير مشكلته الشخصية مشكلة «رأي عام»، ليبدأ في رفع شعار يطالب فيه ب»إسقاط شيء ما»، ربما لا يعرفه حتى.. ويكفي أن يُضبط مترشح لاجتياز الامتحانات في حالة غش ليرفع شعارات تبرر ذلك، من قبيل فساد الحكومة وقس على ذلك... ففي مغرب يعاني هذه الأيام من إسهال الاحتجاجات، يصعب تحديد الحلال والحرام، المشروع وغير المشروع في المطالب. لذلك فمن حق الدولة والوزارة أن تتعاطيا مع امتحانات الباكلوريا هذه السنة بحذر خاص، لكن هذا لا يعفيهما من اتخاذ مبادرات أخرى موازية في مواضيع الامتحانات والتصحيح، فأمام الفراغ التكويني الذي شهدته هذه السنة الدراسية في جميع مستويات التعليم المدرسي، فإن التلاميذ، الذين لن يجدوا «صعوبات» في الإجابة، ليسوا، بالضرورة، متفوقين ومجتهدين، بل هم تلاميذ ميسورون، فعندما كان أبناء الشعب في الشوارع ومقاهي الأنترنت و«الشيشة» يبددون أوقاتهم في العبث، كان أبناء الأسر الميسورة يتعلمون، ليس لأن أبناء الشعب لم يريدوا أن يتعلموا، بل لأن معلميهم مضربون، ومن يملكون من تلاميذ التعليم العامّ إمكانات، استطاعوا أن يخصصوا لهم معلمين يقدمون لهم دروسا، لكن التلاميذ المعدمين هم تلاميذ قضوا سنة كاملة بدون تعليم ولا تعلم، ولأن العلة هنا ليست من جنس المعلول، فإنه يجب على الوزارة أن تكون ذكية جدا في اختيار المواضيع التي سيجتازها هؤلاء التلاميذ، احتراما لمبدأ تكافؤ الفرص، ثم لأن الشروط التربوية، أقول التربوية، لإجراء التقويم غير متوفرة. فإذا علمنا أن واضعي مواضيع التقويم هم، في الغالب، إن لم نقل كلهم، مفتشون مركزيون وجهويون، ليست لهم علاقة بما يجري في الفصول، على قلته، لكون الاقتراحات التي يقدمها المدرسون يتم اعتمادها للاستئناس فقط، فإن واضعي الامتحانات هؤلاء سيجدون صعوبات في الموازنة بين الأطر المرجعية، من جهة، والتي تمثل ما ينبغي أن يكون، والمنجز من البرامج، والذي يمثل الكائن الفعلي، من جهة ثانية. وتأتي صعوبة الموازنة هذه من وجود فارق كبير بين طرفي المعادلة، لذلك نتمنى أن تعتمد الوزارة على اقتراحات المدرسين بشكل مركزي، لكونهم هم من يعرفون جيدا ما تم إنجازه، علما أن تقارير إنجاز الدروس، والتي يكتبها بعض الإداريين ومنسقو المواد في الثانويات وبعض المفتشين، لا علاقة لها بالواقع، لكونها محكومة بهواجس غير تربوية، بل ولا تتضمن الطريقة التي تم بها إنجاز هذه الدروس، ففي زمن الحديث عن بيداغوجيا الإدماج، اعتمد كل المدرسين الذين «أتموا» إنجاز دروسهم، بشكل كلي، على الإفتاء والنسخ، إذن فهل كل تلميذ حصل على نسخة درس هو تلميذ تعلم كفايات هذا الدرس؟ إذن، مشكلة الباكلوريا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، تتضمن شقين: شق اختيار مواضيع الامتحانات، وهذا كما قلنا يفترض حسابات خاصة ومرونة فائقة وإلا ستدخل منظومة التربية والتكوين في متاهات لن تخرج منها في الأفق المنظور، وشق يتعلق بالتصحيح، وهذه مشكلة تفرض، بدورها، تعاملا خاصا. ففي أدبيات علم التقويم المدرسي، والذي يسمى «la docimologie» وضع «نقطة سيئة»، هو تأكيد على ضعف قدرات المدرس وضعف قدرات واضع التقويم، فلم يعد التلميذ هو وحده حامل «عبأ» هذه النقطة، وعندنا في المغرب، وفي هذه السنة تحديدا، وضع نقطة سيئة هو تقويم أيضا لعمل احتجاجي كانت له دواعيه الموضوعية اجتماعيا، ولكن كانت له، أيضا، تداعياته التعليمية. وعن موضوع التصحيح ستكون مقالة العدد المقبل.