يرى المحلل الاجتماعي إدريس أيت لحو أن الراقصة التي تداعب بجسدها أعين الزبناء في الكباريهات، هي بلا شك من الفئات الأكثر فقرا وتهميشا في مدننا المغربية، وهذه هي القاعدة..فالفقر إن أصبح كفرا، فما ذلك إلا عبر أجساد هؤلاء الفقيرات. ما رأيك أن نبدأ بنبذة تاريخية عن الرقص الشرقي في«بلاد المغرب»؟ - كما هو الشأن بالنسبة للعديد من المظاهر الثقافية في جمهورية مصر العربية فهي إما مستوحاة أو مترجمة أو حتى منقولة من الثقافة التركية، التي كانت آنذاك نموذجا يحتذى به في مجالات الغناء والرقص واللغة وغيرها، حرفيا يقال في الثقافة التركية «رقص الشرق» فأصبحت «الرقص الشرقي» في مصر، ويقابله «الصعيدي» لكن يبقى الرقص الشرقي مرتبطا بالتمدن وبحياة المدينة، حياة الحضر كما يقول ابن خلدون “حياة الترف” كذلك. غير بعيد عن زماننا اكتشف الفرنسيون هذا النوع من الرقص أيام حملة بونابارت على بلاد النيل، لقد كانت الكنيسة آنذاك تحرم وتجرم أي شكل من أشكال العري ببلاد الفرنسيين ومجرد رؤية جسد امرأة عار يعتبره الرهبان إثما كبيرا.. وفي مخيال أولئك الجنود الفرنسيين لما يرون جسدا شبه عار يرقص، فالهز وما شابه ذلك من الحركات “الفنية” يعتبرونها بمثابة نداء لهم من أجل ممارسة الجنس؟! وهذا الأمر يتعلق بسيكوأنتروبولوجية الإنسان، وهو أمر بديهي حتى في مجتمعاتنا المعاصرة. أما على المستوى التاريخي والأنتروبولوجي فمن الأرجح أن يعود أصل هذا النوع من الرقص إلى الطقوس القديمة المتعلقة بالخصوبة، والمرتبطة أساسا بالديانة وبالسحر، وتبقى مصادر المعلومة التاريخية قليلة في هذا الشأن، لذلك كونت وبنيت العديد من الأساطير «mythes» حول هذا الموضوع. أما عن وصول هذا «الفن» إلى المغرب، فكما هو الشأن في أوربا وأمريكا، فقد دخلت هذه الممارسة كذلك إلى المغرب مع الحماية الفرنسية وذلك بمزاولته في «الكباريهات» عند سنوات 1930 حتى 1940 في كبريات المدن في البداية، ثم وصل كفن يزاوَل في الأعراس بالمدن الصغيرة وحتى البوادي المغربية في حدود سنوات ،1970 لكن بعد ذلك أصبح يتداول عبر وسائل الاتصال من تلفزيون والصحون المقعرة والانترنت عند سنوات 1990 منتشرا لا عند النساء والفتيات فقط بل حتى عند الرجال والفتيان. كيف ينظر المجتمع المغربي إلى فن الرقص؟ - يجب أن أوضح في البداية أنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن نصدر حكما أو موقفا دقيقا في هذا الشأن...لماذا؟ لأن هذا أمر يخص اللاشعور الجمعي، وبما أن المجتمع المغربي يتسم بالتعقيد والتركيب، فإدراكنا كذلك لهذه الظاهرة له سمة الصعوبة واللاشعور. فمن الناحية الإدراكية المباشرة فالمجتمع المغربي يُبخس ويُنقص من قيمة «الشطيح» وكما سلف الذكر فهو، أي «الشطيح» مقترن بالممارسة الجنسية وبالدعارة وكل ما شابه ذلك...لكن من الناحية المعرفية العميقة...فكلنا ننبهر بتلك الحركات الساحرة، والتي تجعل من جسد المرأة عنوانا للحيوية والشهوانية، ذلك الجسد الذي يحدد فكرتنا المبنية حول المرأة والجنس والآخر. ونفس المسار السيكونتروبولوجي، ينطبق على المرأة التي ترى في جسد الرجل أشياء مماثلة، لكن بدرجة مختلفة (وهذا موضوع آخر في الحقيقة). خلاصة القول إن المجتمع المغربي يُنقص من قيمة الرقص الشرقي «كفن ورياضة» وفي ذات الوقت يربط بينه وبين المجون والأنس «القصارة» ولعل ذلك يعود إلى تراكمات السينما المصرية، وارتباط الرقص الشرقي بالكباريهات يعود إلى فترات الكولونيالية في بلدان الجنوب، صدرته مصر كبلد رائد، فيما ما يسمى بالبلدان العربية تحت لواء الجامعة العربية، لباقي البلدان والكل يعلم أن البترودولار سُخر من أجل تصدير هذا الفن الشرقي إلى بلاد المغرب كما صدر كذلك إلى وجهات عالمية أخرى. كيف تتعايش الراقصات مع واقعهن خصوصا في ظل النظرة الدونية للمجتمع؟ - إن أقل ما يمكن أن يقال عن هذه المعايشة هو أنها براكماتية-حتى لا نقول إنها انتهازية-. أولا، الرقص الشرقي (أو المصري بالأحرى) حاضر بقوة الواقع في مجتمعنا. ثانيا، الراقصات المحترفات يمارسن مهنة تدر عليهن دخلا يمكنهن من العيش، وأخيرا هناك نجاعة وفعالية تصاحب هذه الممارسة في الوسط والمحيط المغربيين، هناك طلب على هذا النوع من الفن في الفنادق والكبريهات والأعراس...هذا واقع مغربي. هل ما زال فن الرقص الشرقي يشكل “طابو” في المجتمع المغربي؟ - إذهبي إلى أي منطقة نائية اليوم في المغرب واحضري عرسا ما ستجدين أن الشباب والشابات يرقصون كلهم بنفس الطريقة... فالكل أصبح تحية «كاريوكا» و«نجوى فؤاد» لم يعد محرما ولا طابوها. لنتمعن جيدا في تصنيف الغناء والرقص في كبريهات المدن المغربية وفي العلب الليلية، نجد أنها كلها وبدون استثناء تعطي الأولوية للغناء العالمي الغربي، ثم الشرقي المصري واللبناني والخليجي، ثم أخيرا ما يسمى ب«الشعبي» أي المحلي، (بما في ذلك من عيطة وراي وشلحة و..) كيف يكون إذا طابوها وهو يرتبط في المخيال الفني عالميا، أي من الثقافة العالمية؟ لنرى مثلا برامج القناة الثانية المغربية، ألا تلاحظين أن هناك استراتيجية تجعل هذا الرقص فنا، لا أقول شعبيا، لكن معمما ومتناولا ومحببا؟. أعتقد أن المجتمع المغربي يعيش نوعا من الازدواجية في هذا الشأن فلم يعد من الغرابة أن نرى أبا يمنع ويرفض أن يرى أبناءه وبناته يرقصون لكنه، هو، يزاول هذا الرقص كلما أتيحت له الفرصة في كباريه أو في عرس ما. هل أصبح المغرب منافسا للشرق في انتاج الراقصات؟ - يمكن أن أقول بصفة تلقائية إن هذا الأمر صحيح من الناحية الكمية والعددية. أما من الناحية النوعية فهذا أمر يصعب الحكم فيه، «أولا لعدم خبرتي بهذا النوع من الممارسة الفنية، ثانيا لعدم توفر إحصاءات ودراسات مقارنة، بين المشرق والمغرب. إضافة إلى ذلك، يصعب كذلك أن نحد مصدر إنتاج هذا الرقص في مصر وحدها»...شخصيا كمحلل اجتماعي، أدرك هذه الأمور من داخل ما يسميه غيري في العالم الغربي بالمشرق. فبالنسبة للجيوسياسية – العالمية- فالمغرب بلد شرقي، لكن بالنسبة لنا فنحن في المغرب الإعلامي جزء من ما يسمى ب«العالم العربي»....وهنا يختلط العربي بالشرقي وبالإسلامي ويُختزل في المصري...أكرر هذا حسب إدراك محلل “ غربي» وبالتقابل مع «الشرقي”. أعود إلى «المضاهاة» «المنافسة» لعلمك فقط، فإن الراقصات المنتميات لبلدان السوفيات سابقا، أي تقريبا كل بلدان أوربا الشرقية، البارعات في الرقص الشرقي يصدرن إلى كل بلدان الغرب، بل إلى المغرب كذلك. هل الرقص الشرقي في المغرب هو فن أم مهنة لكسب الربح؟ - إذا تحدثنا عن تلك الراقصة التي تداعب بجسدها أعين الزبناء في الكباريهات، فهي بلا شك من الفئات الأكثر فقرا وتهميشا في مدننا المغربية، وهذه هي القاعدة..فالفقر إن أصبح كفرا، فما ذلك إلا عبر أجساد هؤلاء الفقيرات. أما إذا قصدنا تلك الراقصات اللواتي يظهرن على القنوات التلفزية، فيكفي أن نقرأ أسماءهن العائلية حتى نستخلص فئاتهن الاجتماعية. فلا مجال حتى للمقارنة بين راقصة في “كباريه” في إطار تعاقد شفاهي بينها وبين رب المحل، وبين راقصة لها فرقة وشركة يكون التعاقد بينها وبين مشغلها عبر القوانين وبأثمان خيالية. على كل حال، من زاوية التحليل الاجتماعي ورغم النظرة التحقيرية للمجتمع للرقص عموما، أي «الشطيح» فالفقر أفرز ظاهرة امتهانه ولو بأبخس الأثمان كشكل من أشكال الاحتجاج الاجتماعي. في نظركم هل أضحى الرقص الشرقي في المغرب قنطرة لتسهيل الهجرة إلى الدول العربية خاصة الخليج للاشتغال في الرقص؟ - بكل تأكيد في المغرب كما هو الحال في تونس ومصر، أي البلدان السياحية، فهي تعمل في سياساتها على تهجير كل شيء يدر الدولار والأورو على هذه البلدان ولو بطرق غير مباشرة. إني أعتبر آلاف المغربيات، التي تحدثت الصحافة عنهن واللائي يشتغلن بالمراقص والملاهي بدول الخليج (الأردن، الإمارات وغيرها) سفيرات للمغرب بتلك البلدان، إلا أنهن سفيرات من نوع خاص، وحتى ألتزم الحياد العلمي، لا يمكن لي أن أصدر حكما، إذا ما كان عملهن هناك قنطرة لتسهيل الهجرة لا فنيا ولا أخلاقيا ولا سياسيا. ومع ذلك فالطبيعة لا تحب الفراغ، والمراقص الخليجية في حاجة إلى راقصات، وكل ذلك يخضع لقانون السوق: العرض والطلب.