كثر الحديث في هذا الوقت عن «آل البيت» الكرام، ووجوب اتباع فقههم وإحيائه، طبقا لحديث الثقلين الشهير المتواتر، الذي خطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في غدير خم بعد حجة الوداع، حيث قال: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي آل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما». فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم آل بيته الكرام ثاني الوحي، وملازمه في الهداية، بل قال صلى الله عليه وسلم: «مثل آل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك». وهذا الحديث هو من تشريع النبي صلى الله عليه وسلم، وشريعته ضمن الله لها الاستمرار والبقاء، فبقي السؤال: من هم آل البيت الكرام والعترة الطاهرة التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم باقتفاء أثرها؟، وما هي حقوقها علينا؟، وكيف يمكن إحياء علمها وفقهها؟. كما ترد هذه التساؤلات في إطار التقريب بين المذاهب الإسلامية؛ خاصة السنية والزيدية والإمامية، في وقت تفرقت فيه الأمة، فصارت محتاجة أشد الاحتياج إلى التجميع والتأليف، والرجوع للأصول المتفق عليها في إطار الوحي المطهر. ومن هنا؛ فسأقسم بحثي هذا إلى العناوين التالية: -1 من هم أهل البيت الكرام؟ -2 ما هي حقوقهم علينا؟ -3 كيف يمكن إحياء علمهم وفقههم؟ -4 ما العمل عند تعارض فقه آل البيت وأصول الوحي: الكتاب والسنة، وكذا الإجماع؟ سائلا من العلي القدير أن يوفقني لما رمته، وأن يجعل هذا البحث لبنة لجمع فقه موسع مصحح لآل البيت الكرام، عليهم السلام، يكون حجة لمن بعدنا، ودينا أديناه ورفعنا به الكلفة عن المسلمين، وقربنا بين مذاهبهم. إنه ولي التوفيق، والحمد لله رب العالمين. الفصل الأول: تعريف من هم آل البيت؟ لفظ «آل البيت» اصطلاحا يطلق إطلاقات، لخصها الإمام جمال الدين القاسمي في تفسيره بقوله (8/ 71): «وقد تنازع الناس في آل محمد من هم؟. - فقيل: أمته. وهذا قول طائفة من أصحاب محمد ومالك وغيرهم. - وقيل: المتقون من أمته. ورووا حديثا: آل محمد كل تقي. رواه الخلال وتمام في «الفوائد» له، وقد احتج به طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم. - وبنى على ذلك طائفة من الصوفية أن آل محمد هم خواص الأولياء. كما ذكر الحكيم الترمذي. - والصحيح: أن آل محمد هم أهل بيته، وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد، وهو اختيار الشريف أبي جعفر وغيرهم». انتهى. - قال: «لكن هل أزواجه من أهل بيته؟. على قولين هما روايتان عن أحمد. أحدهما: أنهن لسن من أهل البيت، ويروى هذا عن زيد بن أرقم. والثاني وهو الصحيح: أن أزواجه من أهله». قلت: وقول زيد بن أرقم في صحيح مسلم كما يأتي بإذنه تعالى. - قلت: ومنهم من اقتصر على أن آله هم: أبناؤه من علي وفاطمة عليهما السلام، ودليله حديث الكساء الآتي الذكر، وهذا أخص الأقوال. - وقيل: عشيرته الأقربون الذين حرمت عليهم الصدقة، وهم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس. (صحيح مسلم (4/1373). غير أن «آل البيت» في مدلولهم الخاص، هم: أصحاب الكساء: علي بن أبي طالب، وفاطمة الزهراء، والحسن والحسين عليهم السلام، وذريتهم. وفي هذا أمور ترجح انصراف الآية إلى أهل الكساء، وهي: رواية الاختصاص بهم من طريق عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، ومعلوم أن رواية من نزلت فيه الحادثة تقدم عند التعارض على رواية من لم تنزل فيه. غير أنه لا يخلو لعموم آل البيت فضل، قال ابن كثير في تفسيره لدى آية: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا». وقد رجح دخول النساء الطاهرات: «ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته، فقرابته أحق بهذه التسمية». والراجح أن «آل البيت» المصطلح عنهم هنا؛ هم: أهل الكساء: فاطمة الزهراء وعلي والحسن والحسين وذريتهما، عليهم السلام. ودليل ذلك من القرآن الكريم؛ قال الله تعالى: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا». [الأحزاب/ 33]، وبيان ذلك: ما رواه مسلم في صحيحه (1766-منهاج) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل، من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا». قلت: هذا تفسير من النبي صلى الله عليه وسلم للآية، وتفسيره صلى الله عليه وسلم هو ثاني أعلى درجات التفسير بعد تفسير القرآن بالقرآن كما في علوم التفسير. قلت: وأعلى منه: ما رواه الترمذي في كتاب التفسير من سننه (2330- تحفة الأحوذي)، وقال: «هذا حديث غريب من هذا الوجه من حديث عطاء عن عمر عن أبي سلمة»، وأشار الألباني لصحته في صحيح السنن، عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» في بيت أم سلمة، فدعا فاطمة وحسنا وحسينا، فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره، فجلله بكساء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟. قال: أنت على مكانك وأنت على خير». قال الترمذي في موضع آخر (2609): «وفي الباب عن أم سلمة، ومعقل بن يسار، وأبي الحمراء وأنس بن مالك». فانظر أخي إلى هذا الحديث الجليل كيف استثنى حتى أمهات المؤمنين من منقبة الكساء، بل من منقبة الآية عموما، وفيه رد على من خالف ذلك. قلت: وفي «جامع الأصول» لابن الأثير (9/122): «أم سلمة رضي الله عنها قالت: إن هذه الآية نزلت في بيتي: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا»، قالت: وأنا جالسة عند الباب، فقلت: يا رسول الله؛ ألستُ من أهل البيت؟. فقال: إنك على خير، أنت من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة، وحسن وحسين، فجللهم بكساء وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا». وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا». قالت أم سلمة: «وأنا معهم يا رسول الله؟». قال: «إنك على خير». أخرج الترمذي الرواية الأخيرة، والأولى ذكرها رزين. انتهى كلام ابن الأثير. قلت: وأخرجها أحمد في مسنده (6/ 298)، و(6/ 296)، و(6/ 304)، و(6/ 292) بنحوها من عدة طرق. والترمذي في سننه (3871) وصححه. وعزاه الحافظ الشوكاني في تفسيره «فتح القدير» (4/ 346) إضافة لمن ذكرت: للحاكم وصححه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة. وفيه أيضا: «وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة - أيضا - عن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها على منامة له عليها كساء ضبيري، فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادعي زوجك وابنيك حسنا وحسينا، فدعتهم، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا»، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بفضلة كسائه فغشاهم إياها، ثم أخرج يده من الكساء وألوى بها إلى السماء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. قالها ثلاث مرات. قالت أم سلمة: «فأدخلت رأسي في الستر فقلت: يا رسول الله وأنا معكم؟. فقال: إنك على خير مرتين». وقد أكثر الحافظ الشوكاني من تعداد طرق هذه الأحاديث ورواياتها في «فتح القدير» (4/ 346) بما في نقله طول، ثم تعقب بقوله: «ذكرنا هنا ما يصلح للتمسك به دون ما لا يصلح». فقف على قوله: «يصلح للتمسك به». قال الإمام الألوسي في «روح المعاني» (11/ 195): «وأخبار إدخاله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وابنيهما - رضي الله عنهم - تحت الكساء، وقوله عليه الصلاة والسلام: اللهم هؤلاء أهل بيتي. ودعائه لهم، وعدم إدخال أم سلمة أكثر من أن تحصى، وهي مخصصة لعموم أهل البيت بأي معنى كان البيت، فالمراد بهم: من شملهم الكساء، ولا يدخل فيهم أزواجه صلى الله عليه وسلم». ومما يؤيد اختصاص آل البيت عليهم السلام بالآية: ما رواه الترمذي كذلك (2330 -تحفة) وقال: «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، إنما نعرفه من حديث حماد بن سلمة. قال: وفي الباب عن أبي الحمراء، ومعقل بن يسار وأم سلمة»: أقول رواه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج لصلاة الفجر يقول: «الصلاة يا أهل البيت: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا»». وأخرجه كذلك الإمام أحمد (3/ 259)، و(3/ 285)، وعبد بن حميد (1223). ويعضده حديث عائشة رضي الله عنها: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه مرط مرحل أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا»». روي بطرق عند الإمام أحمد في مسنده (6/ 162)، و(7/ 130)، والإمام مسلم في صحيحه (6/ 145)، وأبي داود (4032)، والترمذي في «السنن» (2813)، و«الشمائل» (69)، وغيرهم. قال الإمام الألوسي رحمه الله (11/ 196): «وقد تكرر – كما أشار المحب الطبري – منه صلى الله عليه وسلم الجمع، وقول: هؤلاء أهل بيتي. والدعاء في بيت أم سلمة، وبيت فاطمة رضي الله عنهما، وغيرهما. وبه جمع بين اختلاف الروايات في هيئة الاجتماع، وما جلل صلى الله عليه وسلم به المجتمعين وما دعا به لهم». ودليل شمولية «آل البيت» لأبناء الحسنين عليهما السلام: ما رواه أزيد من سبعين صحابيا، وأورده أصحاب الصحاح والسنن والمعاجم مرفوعا: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» وانظر تخريجه فيما يأتي إن شاء الله تعالى. ووجه الاستدلال: أن الخطاب للأمة جميعا، ووصية من النبي صلى الله عليه وسلم لمن بعده إلى قيام الساعة، فهو دليل استمرار آل البيت إلى آخر الزمان، كما أن كتاب الله سيستمر إلى آخر الزمان. ومن الآثار: قال ابن كثير في تفسيره 58/ 370): «وقد قال ابن أبي حاتم: ثنا أبي ثنا أبو الوليد ثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن عن أبي جميلة عن الحسن بن علي أنه قال: يا أهل العراق؛ اتقوا الله فينا، فإنا أمراؤكم وضيفانكم، ونحن أهل البيت الذي قال الله تعالى: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا»، فما زال يقولها حتى ما بقي أحد في المسجد إلا وهو يحن بكاء». يتبع