العلاقة بين هذا المثلث الحساس والمعقد والخطير هي ما يشغل العالم العربي والإسلامي اليوم، على طول المعارك التي تشغله وعلى عرض الأفكار والأطروحات والخطابات التي تنسج حوله. لكن جل النقاش حول ثالوث الدين والفن والسياسة ما زال يدور حول رحى الصراعات السياسية والشخصية التي تحركها المواقع والمصالح، وليس بالضرورة هواجس الحكمة والتبصر وضرورات الحفاظ على العيش المشترك بين كل مكونات الوطن الواحد وبين الأوطان والحضارات والثقافات... للأسف جو التشنج الفكري وحدة الأزمة الاقتصادية وواقع الفقر الثقافي والتصحر الديمقراطي الذي تعيشه المنطقة العربية يزيد من كمية الزيت التي تصب فوق نار الصراعات والحروب التي تدور حول هذا المثلث، وتجعل «الفرقاء» محاربين في جيش انكشاري لا يطلب سوى النصر أو الموت. بلا حلول توفيقية ولانهاية لا غالب فيها ولا مغلوب. الذين يحملون لواء الدفاع عن الإسلام في هذه المرحلة، وجلهم في تنظيمات إسلامية تتحرك كأحزاب تطلب السلطة، يرفعون شعار «مصادرة» كل ما يتعارض مع الأخلاق العامة ومع كليات وجزئيات قراءة معينة للدين ولشريعته ولفقهه.. متجاهلين أن المجتمعات الحديثة لم تعد مجتمعات «وحيدية» تدار بفكر وعصى وسيف واحد، بل صارت مجتمعات تعددية وصار للأقلية صوت يسمع وللأغلبية تمثيل ديمقراطي، تعبر عنه البرلمانات والمؤسسات والإعلام واستطلاعات الرأي. ولهذا يستحيل نظريا وعمليا أن تحكم مجتمعات اليوم في العالم المفتوح بإيديولوجية واحدة أو بتصور عن الدين والحياة والأخلاق واحد. عالم اليوم عالم التعددية والحرية وكينونة الفرد... أما الذين يحملون لواء الدفاع عن الفن والحريات العامة وضرورة تراجع الدين إلى حدود الحياة الخاصة جدا للفرد، فإن جلهم قادم من قارات إيديولوجية كانت إلى وقت قريب معادية للحرية والتعددية والديمقراطية، وأن شعارات اليوم توظف من أجل إشعال الحرب مع التيارات الدينية أكثر منها معركة لإرساء نماذج ليبرالية مفتوحة في مجتمعاتهم التي أصبحوا ينظرون إليها بمنظار «الغرب السياسي» وخططه واستراتيجياته. لقد أصبح عدد من مثقفينا وفنانينا وباحثينا «فرق بحث استشراقي» في يد مؤسسات التمويل الغربي، دون التفات إلى مصالح أوطانهم أولا وخصوصيات تشكل مجتمعاتهم تاريخيا، ومن ثم ضرورة مد الجسور بين كل أطياف التركيبة الثقافية والاجتماعية الوطنية والقومية للوصول إلى مساحات للتراضي أكبر من ساحات المعارك. أما الطرف السياسي الثالث في هذا الثالوث فهو السلطة في العالم العربي، التي تقف مع هذا ضد ذاك أو تقف على الحياد تنتظر ضعف الجميع لتمد يد القمع الطويلة لإنهاء المعركة. أنظمة العالم العربي بلا مشروع اجتماعي أو سياسي، وظيفتها «الوجودية» هي احتكار السلطة والمال والجاه واللعب على التناقضات وتجفيف ينابيع الحرية والتعددية والإبداع والكرامة والمواطنة، لتبقى أوسع السلط في «حجر» السلطان. لهذا يمكن للحاكم العربي أن يصير «أصوليا» اليوم، ويساريا غدا وليبراليا بعد غد. لكنه في كل الأحوال سيبقى وفيا لشيء واحد هو «السلطوية»، التي تعتبر أنها مصدر «الحقيقة» في كل شيء وأنها الوحيدة المكلفة برسم خط التاريخ للمجتمعات والأفراد... لهذا فإن معركة اليوم والغد بين كل التيارات والأحزاب والاتجاهات هي زرع مناخ صحي، بعيدا عن السلطوية، قريبا من الحرية لحل الخلافات ولقبول كل طرف بالآخر ولعدم تكرار إنتاج مشروع القمع العربي تحت أي اسم أو لون أو شعار دينيا كان أو دنيويا...