اختيار السيد نبيل العربي، وزير الخارجية المصري، بالإجماع أمينا عاما لجامعة الدول العربية خلفا للسيد عمرو موسى المنتهية ولايته يأتي تأكيدا جديدا لعودة الدور المصري بقوة، وبسرعة غير متوقعة، إلى قيادة العمل العربي المشترك برؤية جديدة و«تحرير» الجامعة العربية من حال الشلل التي عاشتها طوال العقود الثلاثة الماضية بسبب ضعف أمنائها العامين أولا، ورضوخها، وخاصة في السنوات الأخيرة، للهيمنة الأمريكية ودعمها لعملية سلام عبثية مهينة. نعترف بأن شعورين ينتاباننا منذ إعلان هذه النتيجة، الأول بالفرح لأن الأمانة العامة للجامعة ظلت محصورة في مصر دولة المقر، وفي هذا الوقت بالذات الذي تشهد فيه حالة انتقالية من مرحلة الخنوع والتبعية إلى مرحلة النهوض والبناء والتغيير الثوري الشعبي الشامل. والثاني الشعور بالقلق، لأننا سعدنا كثيرا بوجود شخصية فذة معروفة بمواقفها الوطنية المشرفة مثل السيد العربي على رأس وزارة الخارجية المصرية في مصر الجديدة، وانتقاله إلى الجامعة العربية -التي تجسد الفشل القومي العربي في أبشع صوره وأشكاله، وبعد فترة قصيرة من رئاسته للدبلوماسية المصرية بشر خلالها بحدوث تحول جذري نحو استقلالية واعدة بالكثير- هو خسارة كبيرة دون أدنى شك. أمام السيد العربي، وقد قبل بهذه المهمة مكرها مثلما لاحظنا من كلمته الافتتاحية الأولى أمام وزراء الخارجية العرب قبل يومين، مهمة شاقة للغاية، فقد ورث مؤسسة متهالكة ينخرها العجز والفساد معا، وباتت مأوى للمتقاعدين من دبلوماسيي الأنظمة وأبناء الذوات الباحثين عن الراحة والامتيازات وبدلات السفر. الجامعة العربية تحولت إلى عنوان للارتجالية، والفساد الإداري، وتجميل الهوان الرسمي العربي، وتبرير سياسات التطبيع مع الإسرائيليين، وتيئيس الشارع العربي، والتبخيس من شأن القضايا القومية لمصلحة أجندات غير عربية بل وغير إسلامية أيضا. وربما يجادل البعض بأن الجامعة العربية ما هي إلا مرآة للأنظمة الرسمية التي تمثلها، وأمينها العام لا يستطيع أن يكون ملكيا أكثر من الملك، وهذا الجدل نصفه صحيح ونصفه الآخر هو استمرار للعجز وتبرير لسياسات «الفهلوة» والرغبة في الاستمرار في المنصب لأطول فترة ممكنة وإبقاء الأوضاع على حالها. سمعنا طوال السنوات الثلاثين الماضية عن العجز المالي ونقص الإمكانيات، ولكن هذا العجز لم يمنع الأمناء العامين من السفر طوال أشهر السنة، بل إن بعضهم كان يقضي في رحلاته الخارجية أكثر مما يقضي من أوقات في مكتبه في مقر الجامعة. وهذا العجز لم يؤد إلى إغلاق مكتب واحد من مكاتب الجامعة في العواصمالغربية باهظة التكاليف أو دفع رواتب جيش جرار من الموظفين الكبار والصغار. في العاصمة البريطانية لندن، على سبيل المثال لا الحصر، مكتب للجامعة، أتحدى أن يعرف اسمه واحد على مائة من أبناء الجالية العربية أو نصف في المائة من الصحافيين والإعلاميين العرب والأجانب وأنا واحد منهم، ولم أسمع أو أقرأ مطلقا أن هذا المكتب نظم نشاطا سياسيا أو دبلوماسيا أو إعلاميا لخدمة القضايا العربية، أو نشر مقالا أو تصحيحا أو دفاعا عن هذه القضايا في الصحف البريطانية طوال السنوات العشر الماضية على الأقل. وما ينطبق على مكتب لندن ينطبق على العديد من مكاتب الجامعة في عواصم عالمية أخرى، وإذا كانت هناك استثناءات فهي محدودة للغاية. الغالبية الساحقة من القرارات التي اتخذها السيد عمرو موسى، الأمين العام السابق، لتطوير عمل الجامعة جاءت بنتائج عكسية في معظم الأحيان، وأضافت أعباء إدارية ومالية ضخمة على كاهل الجامعة، فقد عين الدكتورة حنان عشراوي مفوضة للإعلام، فلم تعمر في المنصب إلا أشهرا معدودة، وأصدر فرمانا بتعيين السيد طاهر المصري، رئيس وزراء الأردن السابق، مفوضا سياسيا ولم نسمع عن أي نشاط قام به، ولا أعرف شخصيا ما إذا كان يتولى هذا المنصب أم إنه هرب مثل السيدة عشراوي إيثارا للسلامة. ولعل البرلمان العربي هو ثالثة الأثافي، فقد جاء تشكيله مثالا بارزا على الارتجال، فالغالبية الساحقة من أعضائه كانوا يمثلون أنظمة قمعية ديكتاتورية عربية، بل يمثلون برلمانات مسخا تضم المطبلين والمزمرين لأنظمة تحتقرها شعوبها، وتثور على معظمها لتغييرها بأخرى ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان والانتقال السلمي للسلطة في إطار من الشفافية والمساواة والعدالة الاجتماعية. الأمين العام الجديد يجب أن يزيل هذا العفن، وإذا لم يستطع أن يهدم هذا البيت المتعفن من أساسه، ويعيد بناءه وفق قيم ومُثل الثورة المصرية الشعبية المباركة التي جاء من رحمها، فإن عليه أن يستقيل ويترك الجمل بما حمل. ندرك جيدا أن الإصلاح يحتاج إلى صبر وتأن وضبط للنفس، وكظم الغيظ، ولكننا ندرك أيضا أن السيد العربي ليس مثل الأمناء العامين السابقين جميعا، بل هو شخص مختلف، يمثل نظاما مختلفا ويستند إلى مرجعية شعبية مشرفة، ولذلك عليه ألا يقبل الإهانات التي قبل بها الأمناء العامون من قبله، وهي كثيرة ولا يتسع المجال هنا لذكرها. خطوات عديدة ينبغي على الأمين العام اتخاذها على مدى السنوات المقبلة في إطار استراتيجية نهوض شاملة في مختلف المجالات نلخصها في النقاط التالية: - أولا: تطهير الجامعة ومكاتبها في الخارج من كل الفاشلين والعجزة واستبدالهم بوجوه شابة متعلمة مثقفة، بحيث يكون التعيين على أساس الكفاءة وليس الحسب والنسب والوساطات والمحسوبيات، وليكن العطاء والقدرة عليه هو المعيار، وليس ابن هذا الوزير أو حفيد ذلك السفير أو ابن عم أو خال ذلك الحاكم أو الرئيس. - ثانيا: طالما أن هذه الجامعة تمثل الأنظمة العربية، فليكن هذا التمثيل منطقيا، أي ليس لصالح توجهات ومواقف سياسية معينة أو انحياز إلى الدول الغنية ضد الدول الفقيرة أو المشرق العربي ضد المغرب العربي، مثلا، وهكذا. - ثالثا: التمثيل الجغرافي في المناصب والوظائف والمناصب يجب أن يكون عادلا أيضا، فمن غير المنطقي أن يكون عدد موظفي دول المغرب العربي، وهم نصف التعداد البشري العربي تقريبا أقل من عشرة في المائة من تعداد العاملين في الجامعة. - رابعا: إعادة الاعتبار إلى مؤسسة القمة العربية من خلال ترتيب مؤتمرات حقيقية بجداول أعمال مدروسة على غرار التجمعات الإقليمية الأخرى، وإلا لا داعي إلى مثل هذه المؤتمرات إذا كانت مثل الأخيرة التي اتسمت بالفشل وفقدان ثقة المواطن واهتمامه، ناهيك عن أجهزة الإعلام التي تذهب لتغطيتها. - خامسا: ضرورة وجود الحد الأعلى من الشفافية والمصارحة للرأي العام العربي حول اجتماعات وزراء الخارجية أو حتى الزعماء، ففي زمن ثورة الاتصال الحالية والإعلام البديل الذي فجر الثورات، لم تعد الأساليب البالية القديمة تصلح حاليا، وهذا التحول الاتصالي يتطلب متحدثين لبقين يحترمون عقل المواطن قبل عقل الإعلامي الذي من المفترض أن يمثله في نقل الرسالة السياسية. - سادسا: إعادة النظر في ترتيب سلم أولويات الجامعة وقضاياها، بحيث يجب أن تعود قضايا التنمية والديمقراطية والإصلاح السياسي على قمة هذا السلم جنبا إلى جنب مع القضايا العربية المصيرية ورد الاعتبار إلى الأمة العربية أمام مشاريع النهوض الإقليمي والدولي غير العربية من خلال دبلوماسية نشطة وفاعلة وعصرية. - سابعا: إقامة مراكز أبحاث علمية تقدم الدراسات الحديثة التي تفيد صناع القرار، فمن العيب أن نذكر بل ونؤكد أن الجامعة العربية لم تقدم دراسة واحدة مفيدة حول التنمية الاقتصادية والسياسية العربية، أو حتى في أي مجال آخر تحظى باحترام الأجانب قبل العرب. - ثامنا: تنظيم مؤتمرات وندوات علمية حديثة تتناول المجالات كافة، والسياسية والاقتصادية منها على وجه الخصوص، وليس مثل المؤتمرات السابقة التي جاءت شكلية وعقيمة تشارك فيها وجوه محروقة في معظم الأحيان لا تقول شيئا مفيدا يتم اختيارها من منطلق المجاملة والمحسوبية ولتوفير إجازة مريحة في دولة ما لهذا الشخص أو ذاك. لا نريد تقديم صورة متشائمة إلى الأمين العام الجديد، ولكنها الحقيقة التي لا يجب أن نتجاهلها، لأننا نعول عليه كثيرا في إصلاح هذه المؤسسة تماما على غرار ما تفعله الثورات الشبابية العربية حاليا، فليس هناك شيء مستحيل إذا توفرت الإرادة، ومن يستطيع تغيير أكبر نظامين بوليسيين قمعيين في المنطقة العربية حتى الآن ويقدم الرئيس حسني مبارك ونسله إلى المحاكمة بتهمة الفساد، يستطيع أن يصلح هذه المقبرة المتعفنة التي اسمها الجامعة العربية. باختصار شديد، نقول أصلحوها، وإذا تعذر الإصلاح أغلقوها لأنها تمثل الديكتاتوريات القمعية الفاسدة، ولم تعد تمثل بذرة الخير التي زرعتها الثورات الشبابية وتريد إقامة نظام عربي جديد مشرف يعيد إلى الأمة كرامتها وعزتها.