بعيدا عن لغة الرسالة، وعن لغة النبوة، وعن لغة الانتساب إلى الإسلام، ليتسنى الحديث عن شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم بلغة الإنسانية، والجمال البشري بكل مكوناته الأخلاقية والنفسية والعقلية والجسمية، إذ لا حرج من مدح العظماء الذين قدموا للإنسانية معالم الحياة الكريمة المشتركة تحت مبدأ «ولا تنسوا الفضل بينكم» كما أنه لا عيب في قراءة سيرتهم للاعتبار والتأمل للخروج من دائرة الاستهلاك إلى رفعة العطاء، لكن من المعيب أن نبحث عن البعيد تاركين كل الخير في سيرة القريب تحت ذريعة إيديولوجية معينة، فكثيرا ما نجد مثقفينا من شبابنا المعاصر يملأ كلامه بالاستشهادات من سيرة أفلاطون وأرسطو ودوركايم وغاندي ..... دون أن نجد قولة واحدة في استدلالاتهم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الأمر بكل صراحة له علاقة باستبطانات داخلية تحيل قناعاتهم على عدم تصنيفهم من الإسلاميين في طرحهم، أو عدم نعتهم بالرجعية والتخلف حسب ما ترسخ في بنية ثقافتهم الصورية، كما أن الأمر له علاقة بالاهتزاز النفسي حول الهوية ومتعلقاتها وكذا متطلباتها. النبي محمد صلى الله عليه وسلم عندما دخل إلى المشرحة الفكرية الغربية النزيهة جاء تصنيفه على رأس لائحة العظماء بلغة بعيدة عن العاطفة الهندية التي ملأت بعض الكتابات الإسلامية، فهو صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين قبل الرسالة، والرحمة للعالمين في النبوة وبعدها، فمن دعوته للتعايش واحترام الإنسان كإنسان وليس كمسلم، إلى دعوته لاحترام البيئة بكل مكوناتها، حاملا بحاله قبل مقاله معالم هذا التعايش تحت مبدأ «الأدمي بنيان الرب ملعون من هدمه» ومبدأ «لا إكراه في الدين» و«لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء» ومبدأ السلوك الراقي في كل منطلقاته عند وقوفه لجنازة يهودي احتراما للنفس البشرية. والكثير من المحطات التي يقف عقل اللبيب وصاحب الذوق الرفيع عليها احتراما وتسليما، وحتى لا نميل إلى استفراغ عشقنا له، نقف على حادثة جميلة منه صلى الله عليه وسلم وهي حادثة العصفور، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة (الحمره طائر) معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تفرش (أي ترفرف) فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها» ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال «من حرق هذه؟» قلنا نحن قال «إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار» حديث صحيح، ليستنتج من خلالها التساؤلات التالية: إذا كان حرصه على أحد المكونات البيئية، فكيف سيكون حرصه على الإنسان الذي اصطفاه الله تعالى على سائر الخلق في كل شيء دون النظر إلى دينه؟ هل كان صلى الله عليه وسلم في مساحة اهتماماته حتى الطير؟ لماذا جاءت كلماته مملوءة بالرحمة لحالها تعاطفا وتأنيبا لمن آذاها ؟ كل ذلك يلبسنا فهما رقيقا مفاده أن اهتمامه بصغائر الأشياء إنما يحيل على تقديره لكبائرها. فالعنف لا عنوان له في منهجه والإكراه لا أساس له في كلامه والأثرة لا وجود لها في حياته، بل حتى في قراءة رغباته الدنيوية أو الرسالية كلها تفيد خلاصة واحدة نتيجتها «ربي أمتي». فلماذا هذه النزعة الخجولة الجديدة في جيل عصرنا من مثقفينا الذين ينتسبون إلى الإسلام حالا، باعتبار أنهم المعنيون بصفة مباشرة لإبعاد أصحاب الإيديولوجيات المختلفة حتى لا نتهم بتشكيل الرقابة على حرية الآخرين تحت ذريعة فرض قيمنا عليهم. لا عيب أن نملأ كلامنا بأقواله وسيرته وأفعاله، وتجدر الإشارة إلى أن الحرج يكمن عند البعض في قول» «صلى الله عليه وسلم» حتى لايخندق، إذ كثير من الذين يستوطنون مقام الاستماع بمجرد ما يسمعون «صلى الله عليه وسلم» يصرفون استماعهم وإنصاتهم عن المتكلم حتى لو جاء بأجمل القواعد الكونية المتعلقة بالموضوع المتداول، لكن هذا أمر يمكن تجاوزه ما دام الواحد منا يمتلك في خطابه قوة إقناعية لأن الكلمة القوية الصادقة تجد صداها في النفس كيفما كانت طبيعة هذه النفس وقناعاتها حسب ما أقره علماء النفس وخبراء التنمية البشرية، كما أنه لا دافع للتنازل عن قناعاتي لإرضاء المحاور، إذ من العقول الفرعونية من لا يحكمها إلا مبدأ « لا أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد»، كما أن هناك صنفا من الناس من لا يكلف نفسه حتى للاستماع إذا ما ذكر كلامه صلى الله عليه وسلم إما تعنتا أو تهاونا. ولا يتسع المقام للتفصيل ولكن على سبيل الاستئناس، يقول المهاتما غاندي: «أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر.. لقد أصبحت مقتنعا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقته وصدقه في الوعود، وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته. هذه الصفات هي التي مهدت الطريق، وتخطت المصاعب وليس السيف. بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي أسفا لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة».