نجاة 32 شخصا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان    حافلة "ألزا" تدهس شابًا وتُنهي حياته بطنجة    الداخلية الإسبانية تكشف عدد المهاجرين الذين تسللوا إلى سبتة منذ بداية 2024    "حماس": شروط إسرائيلية جديدة تؤجل التوصل لاتفاق بغزة    المغرب التطواني يكشف حقائق مغيبة عن الجمهور    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    الحصيلة السنوية للأمن الوطني: أرقام حول الرعاية الاجتماعية والصحية لأسرة الأمن الوطني            بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    بعد تتويجه بطلا للشتاء.. نهضة بركان بالمحمدية لإنهاء الشطر الأول بطريقة مثالية    الوداد يطرح تذاكر مباراته أمام المغرب الفاسي        التوحيد والإصلاح: نثمن تعديل المدونة    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي        الرباط: المنظمة العربية للطيران المدني تعقد اجتماعات مكتبها التنفيذي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    قياس استهلاك الأجهزة المنزلية يتيح خفض فاتورة الكهرباء    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    ونجح الاتحاد في جمع كل الاشتراكيين! .. اِشهدْ يا وطن، اِشهدْ يا عالم    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    إمزورن..لقاء تشاركي مع جمعيات المجتمع المدني نحو إعداد برنامج عمل جماعة    ‬برادة يدافع عن نتائج "مدارس الريادة"    "ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    الاعلان عن الدورة الثانية لمهرجان AZEMM'ART للفنون التشكيلية والموسيقى    العلوم الاجتماعية والفن المعاصر في ندوة بمعهد الفنون الجميلة بتطوان    الدورة العاشرة لمهرجان "بويا" النسائي الدولي للموسيقى في الحسيمة    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : البحاثة محمد الفاسي : مؤرخ الأدب والفنون ومحقق التراث        ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أذواق صوفية في دعم للوحدة الوطنية
نشر في هسبريس يوم 28 - 12 - 2009


( رمزيات ومطابقات)
أولا :المواطنة عند الصوفي ورمزيات التعريف
يبدو أن تناول قضية التصوف في علاقته بالمواطنة كأنه تكلف في غير محله وبضاعة مزجاة،وذلك لما غلب على وعي عامة الناس بل علمائهم وذوي التفكير السطحي في نظرتهم إلى التصوف ومنهجه من اعتباره مجرد نزعة فردية وانزواء خلوي وذاتية معزولة عن العالم والواقع وتفاعلاته وعن الحياة وتوازناتها.
وهذا رأي خاطئ ومغالطي إلى حد بعيد و قد لا يتطابق كليا أو جزئيا مع محور التصوف والصوفي كشخص عالمي النزعة ووحدوي إلى حد اعتبار وحدة الوجود عقيدة بمفهومها الإسلامي المقبول وكقاعدة مؤلفة لعناصر الوجود المرئي وغيره على سلم واحد واعتبار غير مميز.
من هنا وكبيان للحقيقة ومن داخل الحقل الصوفي مباشرة سيكون لزاما علينا أن نبرز أهم معالم المواطنة في تعريفات وسلوك الصوفية قديما وحديثا حتى تنجلي الأمور ويتسامى مفهوم المواطنة بتسامي ملتزميها ومنظريها.
فمن تعريفات التصوف البارزة والمتناسبة مع واقعه قد نجد الصوفي محمد بن علي القصاب يقول :"التصوف أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام"[1[
ومن مظاهر هذه الأخلاق عند الصوفية وارتباطها بالزمان تنصيصهم على أن لا يخرج الصوفي إلى عنف المعارضة للواقع السياسي والاجتماعي بمجرد هوى النفس وتطلعات الذات للإشباع الغريزي المحض ،وبالتالي فيكون الصوفي مسايرا للقدر بشعور ذوقي ومراقبة روحية للتصريف الإلهي في الوجود،كما عبر بذلك ابن عطاء الله السكندري في حكمته:"ما ترك من الجهل شيئا من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله فيه".
ومن نتائج هذه المراقبة للتعاقب الزمني قد تكون الحكمة كما يقول أيضا:"العاقل حين يصبح ينظر ماذا يفعل الله به والغافل حين يصبح ينظر ماذا يفعل بنفسه".
وبما أن هذه الأخلاق لها بعد توحيدي في رؤيتها للزمان أو العصر وتفاعلها معه إيجابا وتناسبا فإنها ستترتب عنها تدرجات وترقى على شكل مستويات معرفية ووجدانية متسامية وهي التي سيبني عليها الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش تعريفه للتصوف كأحدث تعريف وآخره في عصرنا هذا ،وهو:"التصوف أخلاق وأذواق أشواق".
فلولا الأخلاق لما كانت أذواق ولولا الأذواق لما كانت أشواق ،والمسألة هنا دورية ومتناسبة تناسب الألوان في الفن التشكيلي الرفيع المستوى،كما أن علاقة الذوق بالشوق قد تبقى ضرورية في تحقيق المسيرة نحو طلب المعالي عند الصوفية :" وأن إلى ربك المنتهى"،ولقد قيل من قبل عند الصوفية "ما لا يحصل منه ذوق لا يعظم إليه شوق"إذ لولا ذوق النعيم الدنيوي من لذات وشهوات لما حصل للناس شوق وتطلع إلى عالم الآخرة الذي شوق الله به المخلوقات من خلال القياس على لذات الدنيا.
فكل هذه المعاني لها ارتباط بموضوع الوطنية، إن من قريب أو بعيد ،كما يقول ابن الرومي عن سبب حب الناس للأوطان ونعم ما قال على حد تعبير الغزالي:
وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالك
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فحنوا لذلكا[2[
والأوطان عند الصوفي، بحسب الذوق، هي ذات مستويات ومقامات من أهمها وطن التجريد في عالم الذر والذي قد يبقى هو المحرك لكل الأشواق عند الصوفي لحد التواجد والانجذاب بالروح والجسد ،وهذا ما قد عبر عنه أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى لما سئل:"ما بال الإنسان يكون هادئا فإذا سمع السماع اضطرب ؟فقال:إن الله تعالى لما خاطب الذر في الميثاق الأول بقوله:"ألست بربكم؟قالوا:بلى !استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواح،فلما سمعوا السماع حركهم ذكر ذلك"[3[
فذوق المعايشية وتذكرها إذن، قد يؤدي بالضرورة إلى شوق المعاودة والمؤانسة ،وهذا الذوق حينما يكون مشتركا فسيكون الشوق إليه بحسب قوة الشعور به،وهو الذي قد يتولد أيضا بحسب الملازمة والتلازم والاعتدال الغريزي الذي قد يجعل من الشخص ابن بيئته وعوائده والذي قد عبر عنه الصوفية بلغة بليغة وذات أبعاد معرفية سامية بقولهم:"الصوفي ابن وقته"والذي قد نفرع عنه ضرورة هذه القاعدة الثانية وهي :"الصوفي ابن وطنه" لأنه من حيث اعتبار قوانين الوجود وتلازم عناصره فإن الزمان قد لا ينفك عن المكان وأعراضه،والوطنية هي نتيجة تراكمات زمانية في واقع مكاني قد توحد بين الماضي والحاضر والمستقبل وبين السهول والصحاري والجبال والوديان والبحار والإنسان وحتى الحيوان والجان...وبهذا فقد يوظف العرف كأحد أهم مصادر التشريع في الفقه الإسلامي وخاصة لدى الإمام مالك الذي قد تفطن بذوقه ووطنيته الفائقة لهذا المعنى من حيث اعتباره أحد أقطاب الصوفية وأساتذتهم ،فيما ذهب إليه الغزالي في الإحياء ،خاصة وأن الإمام مالك قد جسد مفهوم الوطنية بمعناها الصلب والغيور لحد أنه لم يغادر المدينة المنورة ومحورها قط في حياته،وبالتالي فقد قَُلد ،نظرا لهذا الحرص الشديد وليس المتشدد ،وساما علق على صدره في التاريخ وهو أنه:عالم أهل المدينة ومذهبه بمذهب أهل المدينة...َ
فالصوفي الحقيقي من خلال هذا الذوق والشوق قد تكون أخلاقه هي الارتباط المكاني والزماني بالوطن تلازما ذاتيا،لأنه فيه ذكر الله تعالى وفيه حصل له الفتح وبأهله قاس نفسه وتربى واعتبر حتى ارتبط بالمكان وحن المكان إليه كما حن الجذع إلى فراق النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لما فقد من الذكر كما في الحديث الصحيح، حتى إنه مهما ساح وسرح في العالم فلا بد من أن يعود إلى وطنه لكي يتم مسيرة عمره متناسبة مع سيره الروحي، وذلك بالجمع بين السير العمودي والأفقي في آن واحد ،والمثال على ذلك قصة أبي الحسن الشاذلي ومعه الرحالة ابن بطوطة باعتباره صوفيا لعدة أوجه من المغرب وأبو حامد الغزالي من جهة المشرق وغيرهم كثير...
من هنا وبحسب هذا الارتباط فقد كان وما يزال أهم خلق عند الصوفي وتميزه عن غيره ظاهرا وباطنا هو خلق الكرم - كما سبق تعريفه - والذي قد يتسامى نحو الإيثار كمظهر للتضحية بمصلحة الذات في سبيل مصلحة الغير ،وهذه الخصلة قد تعد من أهم متطلبات الوطنية الحقة والتي ينبغي تربية النشء بل كل مواطن وكل جيل على سلوكها.
يقول القشيري عن بعض صور الإيثار هاته وخصوصيته عند الصوفية :"ومن أخلاق الصوفية الإيثار والمواساة ،ويحملهم على ذلك فرط الشفقة والرحمة طبعا وقوة اليقين شرعا،يؤثرون بالموجود ويصبرون على المفقود.
قال أبو يزيد البسطامي :ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ:قدم علنيا حاجا ،فقال لي:يا أبا يزيد ما حد الزهد عندكم؟قلت:إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا.فقال:هكذا عندنا كلاب بلخ ! فقلت له :وما حد الزهد عندكم؟قال:إذا فقدنا شكرنا وإذا وجدنا آثرنا"[4[.
وفي نفس السياق والخصوصية يقول السهروردي :"فما حمل الصوفي على الإيثار إلا طهارة نفسه وشرف غريزته،وما جعله الله تعالى صوفيا إلا بعد أن سوى غريزته لذلك ،وكل من كانت غريزته السخاء والسخي يوشك أن يكون صوفيا"[5[.
ولنتأمل في هذا السلوك الرفيع لهذا الصوفي ذي الارتباط بالتضامن الوطني ووحدة الشعور بما يجري فيه على الممتلكات والأفراد:"يحكي السري السقطي أنه قال:منذ ثلاثين سنة أنا في الاستغفار من قولي الحمد لله مرة.قيل:وكيف ذلك؟فقال: وقع ببغداد حريق فاستقبلني رجل فقال لي:نجا حانوتك،فقلت :الحمد لله،فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم على ما قلت،حيث أردت لنفسي خيرا مما حصل للمسلمين !!! "[6[
فأية وطنية أجمل وأصدق وأرق من هذا الشعور المتسامي، والجامع بين أحداث الزمان والمكان وبين النظرة الأفقية والعمودية وبين الفرد والمجتمع وبين الإيمان والأوطان"؟.
فهل مثل هذا الصوفي المواطن قد يتوقع منه أن يحرق ولو كوخا ببغداد أو القاهرة أو الرباط باسم الطائفية والانتقام والانتصار للذات والنزعة العشائرية على حساب وحدته الوطنية ولحمته الاجتماعية؟وهل مثل هذا الصوفي الوطني قد يخطر بباله أن يخرب أيا من الممتلكات في الوطن العربي والإسلامي في العالم رغم الصراع العقدي السائد فيه لمجرد الهوى والانتصار للعبة كرة القدم أو أية حوافز صبيانية واهية كما قد نجده في عصرنا ولدى شعوبنا الفارغة روحيا وفكريا وأخلاقيا ،بقاعدتها وقمتها وأطرها وغوغائها،المتخلفة مدنيا وغير المتخلفة... !؟ .
وهل مثل هذا الصوفي المواطن قد يتوقع منه أن يبيع وطنه رخيصا للعدو وهو يعلم بالذوق والشعور أنه ابن وقته وفي نفس الحين وتلازما كما بينا ابن وطنه وبيئته،كما قد يدرك أن انتزاع وطنه منه بمثابة انتزاع روحه من جسده واقتلاع مكانه من زمانه.
في هذا السياق وعلى مستوى تنظيري وتقعيدي لمفهوم المواطنة والحماية الروحية والخلقية للثروة الوطنية المشتركة يقول أبو حامد الغزالي باعتباره صوفيا ممارسا ومنظرا في آن واحد:"فمن كسر غصنا من شجرة من غير حاجة ناجزة ومن غير حاجة غرض صحيح فقد كفر نعمة الله تعالى في خلق الأشجار وخلق اليد ،فأما اليد فلم تخلق للعب بل للطاعة والأعمال المعينة على الطاعة ،وأما الشجر فإنما خلقه الله تعالى وخلق له العروق وساق إليه الماء وخلق فيه قوة الاغتذاء والنماء ليبلغ منتهى نشوه فينتفع به عباده،فكسره قبل نشوه لا على وجه ينتفع به عباده مخالفة لمقصود الحكمة وعدول عن العدل ...ومن أخذ من أموال الدنيا أكثر من حاجته وكنزه وأمسكه وفي عباد الله من يحتاج إليه فهو ظالم وهو من الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ،وإنما سبيل الله طاعته وزاد الخلق في طاعته أموال الدنيا.."[7[
ثم يذهب إلى تحديد العدل في تناول الأموال بقوله:"بل الحق الذي لا كدورة فيه والعدل الذي لا ظلم فيه أن لا يأخذ أحد من عباد الله من مال الله إلا بقدر زاد الراكب،فكل عباد الله ركاب لمطايا الأبدان إلى حضرة الملك الديان،فمن أخذ زيادة عليه ثم منعه عن راكب آخر محتاج إليه فهو ظالم تارك للعدل وخارج عن مقصود الحكمة وكافر نعمة الله تعالى بالقرآن والرسول والعقل وسائر الأسباب..."[8[
فالثروة الوطنية وحمايتها معيار للمواطنة ،وإهدارها بغير وحق وعلى غير ميزان العدالة وترشيد التوظيف تعبير شعوري وغير شعوري عن انعدام الحس الوطني وطغيان مظاهر الأثرة الهادمة عوض الإيثار الذي عرضنا لبعض أوجهه عند الصوفية.
كما أن السير التنموي واستغلال أو الاستثمار الوطني لا ينبغي أن يكون إلا في ظل المواطنة والشراكة العامة التي قد تعود بالنفع على كل مواطن بالسوية واعتبار قيمة العمل والمجهود كأهم مقومات الاقتصاد السليم والتكاتف الاجتماعي القويم.
ثانيا:المسيرة الخضراء وذوقيات الوصول الصوفي
ومن هنا فقد يجرنا الموضوع نحو مسألة السير والمسار والمسيرة في الفكر الصوفي وعلاقته بالمسألة الوطنية وتحقيق المطالب العليا للأمة والأفراد.
يقول ابن عطاء الله السكندري :"الفكرة سير القلب في ميادين الأغيار "،"ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كسف لها إلا ونادته هواتف الحقيقة الذي تطلبه أمامك ولا تبرجت ظواهر المكونات إلا ونادتك حقائقها إنما نحن فتنة فلا تكفر ".
ويقول أيضا :"لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين"
فالطموح السياسي لدى المواطن للوصول إلى الأهداف المتوخاة لديه مسألة غير مذمومة بالكلية طالما أنه يريد منها تحقيق الصالح العام قبل الخاص،لكن إذا كان العكس فذلك هو الالتفات وانبهار بالمقدمات التي ربما قد يكون فيها هلاكه حينما يقف معها ويبدأ بالمساومة ضدا على مصلحة وطنه العليا.
فسير الصوفي هنا قد يعني العودة إلى الوطن الأصلي في عالم الذر والذي كله أخلاق وأذواق وأشواق كما عرف به الشيخ سيدي حمزة التصوف،وكما فسر أبو القاسم الجنيد سابقا سبب حدوث تلك الانفعالات المحمودة لدى مقابلتها لملك الملوك وتلذذها بحضرته واستعذابها لخطابه.
في حين أن سير المواطن في سلم خدمة وطنه ينبغي أن ينبني على هذه المبادئ للوصول إلى حضرة السلطان في البلد ،من أجل تحقيق الصالح العام ،لأن المهم في السير ليس ألقاب الأشخاص وإنما هو روح المواطنة التي يندرج في الاستسعاد باستقرارها كل من الحاكم والرعية على حد سواء.
ولهذا فالسير متبادل بين القمة والقاعدة ،بل ينبغي أن تكون القمة أكثر تقربا إلى القاعدة في سير المواطنة وخفض الجناح وتأليف القلوب كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم معلما إياه منهج الوحدة والمحبة في العلاقات العامة:"ولو كنت فضا غليظ القلب لانفضوا من حولك"،"واخفض جناحك للمؤمنين".
بل إن الله رب العالمين قد يتقرب إلى عباده أضعاف ما يتقربون إليه كما في الحديث القدسي :"من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة"الحديث
فعلى هذه المبادئ ينبغي أن تنبني علاقة الحكام بالمواطنين لكي يؤسسوا المواطنة الصحيحة والوحدة المنشودة ظاهرا وباطنا ،لسانا وحالا وأفعالا.وهذا ما قد نراه مجسدا عمليا، وبدون مجاملة أو إطراء في غير محله، لدى ملك المغرب سيدي محمد السادس في تقربه لعامة شعبه على نحو عاطفي وتلقائي وسجي من غير تكلف أو تصنع ،لغاية أن ينحني تقبيلا ومعانقة لكل مستضعف ومحتاج من مواطنيه،وهذه عملة ناذرة في عصرنا الحالي ،وحتى إن توفرت لدى بعض الحكام فهي قد تبدو مصنوعة ولغاية استهلاك إعلامي لا غير،أما جلالة الملك محمد السادس فإجراؤه خلقي ووجداني يشعر به كل مواطن حر وسليم النظرة و لا ينكره إلا حاقد أو حاسد وغير واع بمفهوم المواطنة والمصلحة العليا للبلد.
وبهذه المناسبة أتذكر حادثة ذات ارتباط بموضوع الوطنية والوحدة الترابية للمغرب في قضية صحرائه العادلة وذلك من خلال تصريح أحد رجال الفكر والفلسفة الإسلامية المشهورين (أحتفظ باسمه).
فلقد كان هذا المفكر فلسطينيا وأستاذا بجامعة محمد الخامس ودرسنا عنه الفلسفة الإسلامية على أحسن وجه،كما كان من أكثر الأساتذة تعلقا بالفكر الصوفي ،ومن ثم فقد كانت لي به علاقة وطيدة في باب دراسة المناهج وتحليل النصوص وإعداد البحوث...
لكن وفي ظرف عابر بعدما انزلق بعض الزعماء الفلسطينيين في مكيدة الجزائر ،العدو التقليدي والجار العاق والمؤذي للمغرب بمجانية مجونية ،وبعدما حضر مرتزقة البوليساريو الانفصاليون مؤتمرا متآمرا بتدبير وإيعاز جزائري حقود ضدا على مصلحة المغرب والفلسطينيين معا،وحيث أنه قد كان حول الملك الراحل -الوطني حتى النخاع- الحسن الثاني رحمه الله تعالى رجال ومستشارون دهاة و راسخوا القدم في الوطنية والوعي السياسي أمثال المستشار أحمد بن سودة رحمه الله تعالى،فقد وصل الخبر ساخنا لحد الغليان إلى العاهل المغربي في لحظة البرق وتم انسحاب الوفد المغربي من المؤتمر.بعده مباشرة جاء الإجراء الملكي الحسني صارما لا هوادة فيه ولا مساومة على قضيته الوطنية-كما يعلمه ويتذكر الجميع- من حيث تحديد علاقة الدولة المغربية بالسلطة الفلسطينية آنذاك.
في هاته الفترة سينتقل الأستاذ المذكور من المغرب للتدريس بالجزائر اضطرارا بسبب التغيرات السياسية وانتهاء عقدته مع المغرب،وبعد مرور السنين سيحضر أحد أساتذة كلية أصول الدين ندوة بالجزائر في إطار علمي محض وسيلتقي بالأستاذ الفلسطيني المذكور وبعد تقاسم الحديث وسؤاله عني شخصيا سيقول له باختصار:إذا لقيت الأستاذ محمد بنيعيش فبلغه سلامي وقل له:لقد انتقلت من بلد رحيم إلى ملك عضوض- يعني الجزائر- !!! .فكانت هذه الرسالة تعبيرا عن الحسرة ووصفا بليغا للفارق بين واقع الحياة والنظام السياسي بالمغرب وبين ما هو عليه حال الجزائريين وسياسييهم...وهي شهادة صادقة من شخص بعيد كل البعد عن المناورات السياسية والمساومات الفكرية على حساب المبادئ كما أعرفه جيدا !!!كما أن فيه درسا لكل مغرر به من طرف أعداء وطنه ومستلبيه كل تصور جميل وواقعي عما يجري في المغرب بالمقارنة مع البلدان العربية وغيرها ممن تحتسب ضمن دول العالم الثالث وغيرها...
أكثر من هذا وذاك فقلد حكى لي هذا الأستاذ الفاضل ،والذي قد كان أبوه إماما بمسجد الخليل في القدس،أنه حينما كان يذهب إلى فلسطين المحتلة بسيارته المرقمة برقم مغربي أصفر وعند اعتراض طريقه من طرف الجنود الصهاينة وبمجرد ما يعرفونه آت من المغرب حتى يفتح له الطريق بعض الجنود اليهود من أصل مغربي ...في ذات الحين فقد كان يجري معهم حوارا حول وضعيتهم البائسة في الأراضي المحتلة ،وبهذه المناسبة- كما حكى لي شخصيا - فقد كان يؤنبهم على ما اختاروه من شقاء في فلسطينفي مقابل ما تركوه من رخاء وأمن في المغرب ،حتى لقد قال لهم بالحرف فيما أتذكره جيدا ومن دون مبالغات:تركتم الجنة بالمغرب وجئتم إلى الجحيم هنا.فكانوا لا يزيدون على أن يعترفوا بهذه الحقيقة المرة ويتمنون لو عادوا من حيث أتوا... !!!
وهذا المثال فيه درس لكل صحراوي مغربي حر وأبي لكي يعود إلى رشده ويعترف بالحق لأهله وخاصة في عهد الملك محمد السادس الذي قد اتصف- وما شهدنا إلا بما علمنا- بأخلاق الرحمة والعفو كما يلحظه الجميع وخاصة فقراء ومساكين وبسطاء هذا الوطن الغالي قد نحتفظ ببعض تصريحاتهم التلقائية والمؤثرة حول شخص الملك وتقديرهم له لوقت آخر.في حين إذا كان اليهود المغاربة الذين هاجروا من المغرب تحت وهم أرض الميعاد قد يحنون إليه ويعترفون بفضله فالقياس ينبغي أن يكون أولى وأقوى عند كل صحراوي بل كل أبناء هذا الوطن أن لا يختاروا بديلا لوطنهم ولا لملكهم ودولتهم ومجتمعهم المتنوع الأعراف واللهجات والألوان والقسمات...ولا ينبغي الالتفات مع هذا إلى رواد الفتنة ومرتزقة العداوة المصطنعة حينما يسعون إلى تخويف أهل الصحراء من مزاعم القمع أو التمييز العنصري من طرف النظام المغربي حينما قد يصبحون تحت السيطرة الكاملة وتكتمل السيادة المغربية على الصحراء ،والتي هي كاملة وتامة بحكم الواقع والتاريخ والجغرافيا والولاء السياسي والروحي.
فالحقيقة واضحة وضوح الشمس وظاهر الحياة في الصحراء مستقرة والناس يتعاملون بتلقائية وسلم في ربوع الصحراء من غير دم ولا سيف مهراق كما يقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق[9[
ونعم الاستيلاء كان وعن طريقة المسيرة الخضراء تمكن واستبان...وبحكمة السلطان توحد الأصل والفرع على موعد مع التاريخ و سعد الزمان.
يقول أبو حامد الغزالي في تصور العلاقة بين القوى الوطنية لتأسيس الوحدة ورمزية ميادين النفوس و السير السليم للقلب نحو الله تعالى على هذه الوتيرة:"اعلم أنه قيل في المثل المشهور:إن النفس كالمدينة،واليدين والقدمين وجميع الأعضاء ضياعها والقوة الشهوانية واليها والقوة الغضبية شحنتها ،والقلب ملكها والعقل وزيرها ،والملك يدبرهم حتى تستقر مملكته وأحواله، لأن الوالي، وهو الشهوة، كذاب فضولي مخلط ،والشحنة وهو الغضب شرير قتال خراب .فإن تركهم الملك على ما هم عليه هلكت المدينة وخربت ،فيجب أن يشاور الملك الوزير ويجعل الوالي والشحنة تحت يد الوزير ،فإذا فعل استقرت أحوال المملكة وتعمرت المدينة ،وكذلك القلب يشاور العقل ويجعل الشهوة والغضب تحت حكمه حتى تستقر أحوال النفس ويصل إلى سبب السعادة من معرفة الحضرة الإلهية ،ولو جعل العقل تحت يد الغضب والشهوة هلكت نفسه وكان قلبه شقيا في الآخرة"[10[
فلقد كان الملك الحسن الثاني رحمه الله تعالى – ومعه وارث سره ورفيق دربه في سياسة البلد الملك محمد السادس- وطنيا ووحدويا بكل ما تحمله الكلمة من معنى،ومن ثم فقد كان هاجسه الأمني كله منصبا على وحدة التراب والهوية والمجتمع والمذهب بالمغرب...ومن ثم فقد كان أعظم تتويج وتجسيد لهذه النزعة هو تلك المسيرة الخضراء المظفرة والتي أخذت بعدا روحيا قبل أن تناله سياسيا ،خاصة وأنها قد انطلقت بكتاب الله تعالى والاقتداء بسيرة النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في تحقيق الفتح - فتح مكة- من غير حرب أو استعمال سلاح...
ولا أريد أن أسترسل وصفا لهذه المعلمة التاريخية والسياسية كتابة في هذا المقام وذلك لأنه قد سالت حولها الأقلام من قبلي كما أن موضوعي الآن محدد في هذا المقال المتواضع وهو البعد الروحي للوحدة الوطنية عند الصوفية .
فالتصوف في مجمله وملخصه هو :سير ورحلة ووصول،وهو بداية ونهاية.وجهاد أكبر في تحديد الجهاد الأصغر.
وهذه المعاني كلها منطبقة ظاهريا ورمزيا على المسيرة الخضراء وتحرير الصحراء المغربية لمن تأمل واعتبر.
فالوسيلة التي قد تم بها تحرير الصحراء هي عبارة عن سير جماعي يؤسسه جمهور عريض من المواطنين الخلص وليس أنه مجرد نزوة سياسية لحاكم أو طغمة ذات أطماع شخصية محضة،وهذا هو مصدر القوة في تحقيق الوحدة الوطنية واسترجاع أقاليمنا الصحراوية بالسلم والتعبئة الشعبية الموحدة.بحيث أن وظيفة السير عامة يمكن اعتبارها تلخيصا بأنها "وصل الأرض بالأرض بقطع مسافة في الزمن المعقول".
وهذا الوصل قد تم بنظام وانتظام كما أمر به الملك الراحل الحسن الثاني - رحمه الله تعالى وجازاه عن هذا الوطن خير الجزاء- وهو مبني على مبادئ الطاعة والامتثال.
هذه المبادئ في التصوف قد تمثل لب صدق الطلب وصحة السير ،فالمريد المنازع لشيخه وأستاذه قد لا يأتي منه شيء في طريق القوم.ومن هنا يفهم قول الصوفية:"من قال لشيخه لماذا لا يفلح أبدا"،والذي معناه أنه قد لا يفلح في نيل أسرار شيخه وغاياته التربوية للتعارض مع مقتضيات الأمر وضرورة الامتثال، وليس أنه قد يكون من أهل النار كما قد يفسره إسقاطا بعض البلداء حينما يريدون أن يغمزوا التصوف بالنقد الجزافي والجافي.
وشعبنا المغربي في قضيته الوطنية قد كان صوفيا بأجلى معاني التصوف ،وملكه قد كان له نفس الوصف باعتباره أستاذا وطنيا ومسئولا عن مصالح العباد والبلاد،بل كان صلبا لا ينثني ولا يتراجع .ومن هنا فقد وصل إلى المراد وحرر الصحراء من غير التفات إلى مناورات الأعداء وتهديداتهم بضرب أو مهاجمة أهل المسيرة .لكن إرادة الملك والشعب قد كانت أقوى من كل تهديد ولم يتم الالتفات أو الرجوع من نصف الطريق حتى تحقق الوصول كاملا كما حدده الأستاذ رحمه الله تعالى ونعمه في جنات الخلد إن شاء الله تعالى.
يقول صوفي في نظم متناسب مع هذا الموضوع:
و لا تلتفت في السير غيرا فكل ما سوى الله غير فاتخذ ذكره حصنا
وكل مقام لا تقم فيه إنه حجاب فجد السير واستنجد العونا
ومهما ترى كل المراتب تجتلي عليك فحل عنها فعن مثلها حلنا
وقل ليس لي في غير ذاتك مطلب فلا صورة تجلى ولا طرفة تجنى[11[
وبخصوص عدم التراجع يقول أحد الشيوخ:" ما رجع من رجع إلا من الطريق ولو وصلوا ما رجعوا...".وهذا ما يؤكده بصرامة وثقة تامة بقضيتنا الوطنية العادلة صاحب الجلالة محمد السادس حينما يرسل مبادرة الحكم الذاتي ويتشبث بها كبديل لحل النزاع المفتعل ورأب الصدع وتوسيع دائرة المواطنة على قاعدة الوفاق والتراضي مع مبدأ أن لا تراجع عن قضيتنا العادلة أو التنازل عن حبة رمل من صحرائنا،وذلك التزاما بمبادئ الوطنية الصحيحة و علما منه بنفسية أهل الصحراء وطبائعهم العشائرية ورهافة إحساسهم وحدة مشاعرهم ،وأنهم لا يمكن نيل الولاء منهم إلا بامتلاك قلوبهم عن طريق المحبة والمودة والعفو والتواضع،وهذا هو عين الصواب والسياسة الحكيمة ،وهي كلها أخلاق صوفية سياسوية قد يقبلها الصحراويون الأصليون بكل ترحاب رغم أنفهم ،لأنهم أهل عشيرة ومن تربية شيوخ وبيئة قد لا تعرف النفاق في الغالب إلا من كان مريض القلب ،وقليل ما هم.
ثالثا:بناء النتائج على المقدمات وحتمية ارتباط نسب المواطن بالوطن
فهذا الوصول المحقق بالنجاح التام قد يربطنا بأحد أهم مبادئ الصوفية المتفائلة دائما وهي هذه الحكمة العطائية :"من أشرقت بدايته أشرقت نهايته".
وتحرير الصحراء المغربية قد تم بإشراق البدايات ونجاح السياسة المغربية من خلال النهج الذي سلكه المغرب بقيادة الملك الحسن الثاني رحمه الله تعالى،وهو مبدأ المسيرة السلمية، وهذا كله فأل ورمز على أن ما ينتزع سلما قد يبقى محفوظا وثابتا وراسخا.والعالم كله يشهد بأن الصحراء المغربية قبل المسيرة الخضراء قد كانت أرضا مغصوبة من طرف المستعمر الإسباني وأن انسحابه منها لم يتحقق إلا بعد هذا الحدث مباشرة وهو ما يعطي للمغرب شرعا وواقعا حق امتلاك الأرض وتحديد الحدود لأنه هو صانع الحدث وهو الطارد للمستعمر بالضغط السلمي الذي لا يوجد أقوى فعالية منه عند تحكيم العقل والتاريخ والمواثيق...كما أنه لم تكن سواء قبل الاحتلال الإسباني أو بعده أو عنده أية دولة تسمى بالدولة الصحراوية على امتداد الخط إلى السينغال أو موريتانيا.ومن هنا فتاريخا وجغرافية وشرعا وعقلا لاحق لأي صحراوي في أن يزعم امتلاكه الجماعي أو الشخصي لأقاليم الصحراء التي استرجعها المغرب سلما ،لأن الامتلاك يقتضي السيادة ،وهاته السيادة قد كان يمتلكها غصبا المستعمر في حين قد كان يمتلكها المغرب قبله وبعده شرعا واستحقاقا وامتدادا وطنيا وتحقيقا فعليا متجددا من خلال المسيرة الخضراء... ولهذا فمزاعم الانفصاليين من أجل تأسيس دولة صحراوية وهمية هي اختراق لمفهوم السيادة وترامي على ملك الآخر ،واستحداث دولة لا تمتلك أية مقومات علمية أو قانونية أو لوجيستية أو سكانية أو إدارية تحقق أطماع أصحابها،وكل ما تأسس على باطل فهو باطل ،هذا هو العقل والعلم والشرع والقانون...
ومن هنا فاللقاء بين الشمال والجنوب قد تم على بصيرة وبالتحام شهد له المستعمر بانسحابه وشهد له التاريخ بوثائقه ومحكمة العدل الدولية بتقريرها، وشهد له الشعب بولائه وشهدت له العوائد بتوافقها وتطابقها والعوائل بأنسابها والطرق الصوفية بفروعها وزواياها...
وحيث أن البداية قد كانت مشرقة فالنهاية ستكون حتما مشرقة ،سنة الله في خلقه قد يدركها أهل التحقيق ذوقا وشوقا .
ولقد زرنا جنوبنا المغربي مؤخرا في إطار ندوة نظمتها فروع الطريقة القادرية البودشيشية بالصحراء المغربية بمناسبة المسيرة الخضراء المظفرة ،انطلاقا من مدينة كلميم حتى مدينة العيون وذلك في قافلة روحية بهية وسلمية سامية المعاني والأهداف والتي مافتئت الطريقة بتوجيه شيخها سيدي حمزة تعنى بقضية الصحراء المغربية منذ اليوم الأول من المسيرة إلى يومنا هذا على شكل تعبئة روحية وفكرية وإنسانية عز نظيرها في باب الوطنية والمواطنة،ورأينا من خلال رحلتنا البرية هاته كل تلك الربوع التي مررنا بها،فلم نلحظ إلا الأمن والاستقرار والترحاب والتلاحم وكلمات الولاء المعبر عنها من طرف الصحراويين لأمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس.كما لم نلحظ أية فوارق بين سكان كلميم والعيون-التي تجولنا في ربوع مهمة منها- من أي وجه كان،بل إن من يمد سكان العيون بالمئونة والخضر والفواكه هم أهل كلميم كما أن أهل طانطان قد يمدون العيون بالماء الصالح للشرب .وبين هذه المدن كلها لم نلحظ أي مظاهر للتوتر أو الانفلات الأمني الذي قد يزعمه الانفصاليون والمرتزقة من أعداء الوحدة الترابية للمغرب.وبهذا فقد كان لأهل الشمال فضل على أهل الجنوب من عدة وجوه كما لأهل الجنوب فضل على أهل الشمال من وجوه أخرى قد يعرفها المتعاونون والتجار هنا أو هناك.
ومن هنا فلقد كان،ومن باب القياس بالخلف، الأولى أن تشكك المنظمات الدولية والسياسيون الموضوعيون في امتداد التراب الجزائري والطعن في انتماء صحرائه إليه لأسباب سياسية وتاريخية وجغرافية وبيئية،طالما أن حكام الجزائر لم يستحيوا من طروحاتهم الصبيانية العنترية والخالية من كل لياقة سياسية وحضارية وثورية كما يصفون أنفسهم غلطا.
بحيث أن الجزائر تاريخيا وقبل سقوط الدولة العثمانية وعند استعمارها من طرف الفرنسيين لم تكن دولة مستقلة وذات حدود جغرافية قارة ،ومن هنا فحدودها هي من صنع المستعمر لا من صنع شعبها ولا ساستها.إذن فهي كوحدة ترابية ذات ترقيع استعماري لا وراثة تاريخية أو نتيجة مقاومة .بل حتى مقاوتها قد كانت مدعمة من طرف المغرب مباشرة وكذا مصر،حيث التنكر لكلا البلدين بمجرد مواتاة الفرصة لذلك ولو بسبب كرة القدم المهزلة.في حين أن صحراء الجزائر لم يكن لها موقع في المقاومة لأنها كانت وما زالت أرضا خلاء ومطمعا استعماريا من أجل استكشاف آبار النفط واستخراجها للاستهلاك لا غير.في حين أن الطوارق قد لا يمتون بأية صلة لسكان الجزائر في الشمال سواء في عوائدهم أو ألوانهم وحتى لهجاتهم،ومن ثم كان الصراع دائما منصوبا بينهم وبين الدولة المركزية قد يشترك في هذا الصراع الماليون والنيجريون وغيرهم بحسب المجاورة.
وحتى حينما أرادت الجزائر أن تصنع انفصاليين وهميين ممن شذوا عن الوحدة الوطنية للمغرب فقد مركزتهم في تندوف وهي صحراء مغربية وأرض متنازع عليها لم يتم ترسيم حدودها بعد.
فلو كان الانفصاليون المعسكرون في تندوف صحراويون حقيقيون لكان واجبا عليهم أن يطالبوا أيضا بصحراء الجزائر لأنها امتداد للصحراء المغربية،وإلا فالجزائر قد تقسم الصحراويين بمزاجها ومخططاتها الغبية والسخيفة لكي تنغص على المغرب مسيرته الشاملة والتي كانت متوجة بالمسيرة الخضراء وبعدها مسيرة التنمية واستكمال الوحدة.
وعلى عكس الجزائر فالمغرب قد كان دائما دولة مستقلة وممتدة حدوده حتى نهر السينغال حيث كانت المبادلة مع السودان بالملح مقابل الذهب كما يذكر التاريخ والوثائق .ومن هنا فحدوده قد لعب فيها عند الحماية الاستعمارية لتخليد النزاع بين الجيران في المغربي العربي وافتعال التوتر وخاصة من طرف الأسبان الذين يعانون من مرض حكة الخنازير الاستعمارية والتي قد تتشخص واقعيا وبشكل متخلف في استمرار استعمار سبتة ومليلية والجزر الخالدات وغيرها رغم التصاقها برا وبحرا بالتراب المغربي...
ولهذا فمهما كاد الكائدون وتآمر المتآمرون على قضية الصحراء المغربية لأطماع خسيسة قد يعرفها الجميع ولا تنطلي إلا على الغبي والمعتوه فإن النتيجة ستكون لصالح أصحاب الحق في هذه المسألة،ولا يحتاجون إلى شهادة الآخرين من خارج الوطن، وذلك لأن الوطن أم والأم في الشرع لا تحتاج إلى شهادة لإثبات بنوة ابنها رغم أنه قد ينكرها عقوقا ! إذ حملها له هو عين شهادتها ،هذا هو الفقه وهذا هو الذوق والواقع...
ولسنا نحتاج إلى شهادة صحيفة إسبانية أو أمريكية أو فرنسية لكي نثبت مغربية الصحراء، تماما كما قد لا نحتاج إلى أي مؤرخ أو جغرافي خارجي لكي يثبت لنا أن مياه البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي في حدودها الدولية هي مياه مغربية .
فالصحراء هي امتداد طبيعي ووطني للمغرب كما سبق وأشرنا ،أرضا ولغة وشعبا وعوائد وأعرافا.كما أن سكانها مغاربة جسدا وروحا وولاء وطنيا.ولو أن البعض منهم قد يتنكر لوطنيته فذلك مرضه الخاص الذي يحتاج معه إلى علاج نفسي وقانوني صارم ومن غير تنازل من طرف الحاكم ،لأن المسألة قد تؤذي عامة الأمة وتقطع أرحامها وتؤدي إلى الفساد لا محالة.
فالمنكر لوطنيته لا يحق له أو لأي احد أن يجاريه في هذا الإنكار طالما أن نسبه ثابت بالإشهاد الشرعي كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"ثلاث كفر :الطعن في النسب والنياحة على الميت والاستسقاء بالنجوم".ونكران الوطنية هو نكران لنسب الأم الكبرى وهي الأرض التي نبت فيها المواطن وترعرع وشهد له بها إخوانه وعشيرته شهادة شرعية قطعية،وهذا ما تقرره القوانين المغربية من عدم إلغاء جنسية المغربي الأصل رغم تجنسه المصطنع في بلد خارجي ،لأنه يبقى مغربيا ولو هاجر.لكنه حينما يعود يطبق عليه القانون المغربي بكل حذافيره من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب من غير تمييز أو تحيز.إذ الإنسان ابن بيئته وهو نفسه ابن وطنه ،وحين تكتمل رؤيته وتنضج على نمط صوفي ذوقي فقد يصبح كما قلنا في بداية المقال:"ابن وقته"وهذه المعاني الذوقية والفكرية كلها، صوفيها ووطنيها ،يجمعها قول النبي صلى الله عليه وسلم :"حب الأوطان من الإيمان" وقول الله تعالى :"فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم"صدق الله العظيم وهو مؤلف القلوب وجامع الأحباب...
هوامش :
-------------------------------
[1] أبو القاسم القشيري:الرسالة القشيرية .دار الكتاب العربي ،بيروت ص126
[2] أبو حامد الغزالي:الاقتصاد في الاعتقاد ،مكتبة الجندي ص146
[3] القشيري:الرسالة القشيرية ص153
[4] القشيري:الرسالة القشيرية ص135
[5] السهروردي :عوارف المعا رف ،دار الكتب العلمية بيروت ص252
[6] القشيري :الرسالة ص10
[7] الغزالي:إحياء علوم الدين دار الكتب العلمية بيروت ج4 ص83
[8] نفس ص83
[9] الغزالي :الاقتصاد في الاعتقاد ص 56
[10] الغزالي:كيمياء السعادة بذيل المنقذ من الضلال،مكتبة الجندي ص80


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.