غريبة مفاجئة هي المتغيرات التي طبعت أداء وعمل حركة المقاومة الإسلامية خلال الثلاثين شهراً الأخيرة، صعود إلى الهاوية هذا هو العنوان العريض لمسيرة الحركة منذ الفوز المفاجئ في الانتخابات التشريعية إلى التصرفات البوليسية والهمجية ليس فقط تجاه آل حلس، وإنما أيضا تجاه المليون ونصف مليون مواطن فلسطيني في غزة الذين باتوا رهائن لدى حماس كما هم رهائن لدى الاحتلال الإسرائيلي، ليس فقط من أجل إطلاق سراح جلعاد شاليت إنما من أجل التنازل الفلسطيني عن القضايا والملفات الكبرى، وأهمها طبعاً الوحدة السياسية والجغرافية بين قطاع غزة والضفة الغربية اللذين يمثلان 22% من مساحة فلسطين التاريخية، وباتا الحد الأدنى المتفق عليه فلسطينيا لإقامة الدولة الموعودة، والذي لا يتطابق مع الحد الأقصى الممكن تقديمه إسرائيلياً، أيا كانت الجهة الحاكمة، يمين أو يمين الوسط، حيث لا يسار الآن في إسرائيل. لفهم واستيعاب وتوضيح المتغيرات أو السقوط المريع لحماس في بئر القمع والاقتتال والحرب الأهلية، لا بد من أن نأخذ بعين الاعتبار عاملين رئيسيين، العامل الأول موضوعي ويختص بالسياسات الفلسطينية وربما العربية بشكل عام، والعامل الثاني ذاتي ويختص بتصرفات حماس خلال السنوات الماضية، وتحديداً خلال الشهور الثلاثين الأخيرة. الشق الموضوعي يتعلق بالنظرة الفلسطينية، سواء عند فتح أو حماس للسلطة بمعناها العام، ناهيك عن بعدها الفلسطيني الخاص كسلطة ذاتية أو حكم ذاتي موسع يفترض أن يكون خطوة باتجاه الاستقلال والدولة، أقله من وجهة النظر الرسمية، عندما كانت فتح في السلطة لم تؤسس لنموذج سلطوي نزيه شفاف وعادل وهي -تحت رئاسة الشهيد أبو عمار- حولت السلطة إلى مزارع خاصة وإلى مرتع للفساد ونهب المال العام، ولم يتم العمل الجدي على وضع نواة صلبة وأساس متين يتيح الانطلاق نحو الدولة المستقلة كاملة السيادة، أما حماس فمن جانبها لم تؤسس لنموذج سلطوي سليم من الموقع المقابل، أي من المعارضة، فهي تعاطت مع السلطة بمزيج من المنطق الإخواني التقليدي التكفيري والتخويني، ومن وجهة النظر هذه اعتبرت السلطة كافرة أو على أحسن الأحوال سلطة عميلة أو لحديين جددا، حسب التعبيرات الشائعة آنذاك. لم تتصور حماس نتيجة للعمى الاستراتيجي وغياب التفكير طويل المدى الذي يضرب بجذوره عميقا فلسطينيا وعربيا، أنه من الممكن أن تصل إلى السلطة يوما ما، وعلى ذلك فإن ممارساتها، خاصة في السنوات الست الأولى من القرن الجديد، ترتد عليها الآن، فهي استخدمت السلاح لمواجهة تصرفات بعض أجهزة السلطة، وتمردت عليها، ثم عمدت بعد -استشهاد الرئيس ياسر عرفات- إلى حملة اغتيالات بحق قادة الأجهزة الأمنية، وإلى كسر ممنهج لهيبة ورموز السلطة. محمود الزهار قال إن مرحلة أو حقبة أو ممارسات 1996 القمعية والهمجية بحق حماس لن تتكرر، فقد ولى ذلك الزمن، حسب تعبيره، هو لم يقصد طبعاً التأثير على ممارسات وقرارات السلطة بشكل سلمي وعبر حزمة من الوسائل السياسية والإعلامية والجماهيرية، إنما قصد أن موازين القوى تحولت، وباتت حماس تملك القدرة على المواجهة العنفية المسلحة لفرض إرادتها ونقطة على السطر. أما الأمر الذاتي المتعلق بحماس، فيتمثل في غياب إطار أو سياق استراتيجي لقرار الذهاب إلى الانتخابات التشريعية -ورغم أن القرار نفسه كان صحيحاً ومهما برأيي- حماس شاركت في الانتخابات وناقشت كل الاحتمالات -على فرض أنها فعلت ذلك- إلا احتمال الفوز في الانتخابات، وبالتالي فإنها لم تناقش بشكل هادئ وعميق استراتيجي، والأسئلة الخاصة بالسلطة واتفاقية أوسلو وفرضية وصول حركة مقاومة للسلطة الذاتية في فلسطين الخاضعة لسيطرة الاحتلال، ناهيك عن فرضية ذلك في الظروف العربية الراهنة بشكل عام، إضافة إلى ذلك شعرت حماس بالمظلومية نتيجة الحصار غير المبرر وغير الأخلاقي والحرب متعددة الأشكال التي مورست ضدها بتورط أطراف فلسطينية وعربية ودولية، ومحصلة ذلك كله أن التمسك بالسلطة الذاتية والمحدودة تحول إلى هدف بحد ذاته وليس وسيلة أو طريقا باتجاه الآمال الوطنية الجامعة، وضمن هذا المزاج السلطوي حسمت حماس الاختلافات عسكرياً في غزة، علماً بأن المكابرة وحتى الفئوية الضيقة تمنع قيادة الخارج من القول بأن الحسم النهائي خاصة في اليومين الأسودين ما بين الأربعاء والجمعة 14-16 حزيران تم بقرار محلي من قادة كتائب القسام وبدعم من الجنرالين محمود الزهار وسعيد صيام، الحسم الذي مازالت حماس -ومعها الجماهير الفلسطينية- تدفع ثمنه حتى الآن، ويقف خلف كل التصرفات الخاطئة للنظام أو بالأحرى السلطة البوليسية في غزة وانتهاك حقوق الإنسان ثم التهدئة مع إسرائيل للتفرغ لحل المشاكل الداخلية مرة أخرى بالقوة، عبر الإيغال في ممارسات استئثارية وفئوية، إلى درجة أن حماس تقوم الآن باستنساخ ما قامت به فتح في الماضي من ممارسات سلبية، مثل تفريخ التنظيمات وهي أسست عدة تنظيمات أو بالأحرى دكاكين ومرتزقة لخدمتها، مثل تنظيم كتائب الأحرار لخالد أبو هلال وألوية الناصر صلاح الدين الأمانة العامة للجنرال أبو عبير، وجيش الإسلام للشيخ أبو محمد الأنصاري ممتاز دغمش سابقاً، وإلى ذلك تتدخل حماس بفظاظة في شؤون تنظيمات وفصائل أخرى، وهي اعتقلت في هذا السياق عضو مكتب سياسي لأحد التنظيمات بحجة قيامه بتحقيق أو إجراء داخلي ضد القانون، ورتبت زيارة لأحد مسؤولي فصيل آخر إلى إحدى الدول العربية دون علم قيادته في الداخل أو الخارج، والرسالة واضحة: إما الانصياع لتوجهات حماس وعدم الخروج عن الخطوط العريضة لسياساتها، أو دفع الثمن عبر المشاكل والانشقاقات الداخلية. في نفس السياق الفئوي، لكن بما هو أسوأ وطنيا واستراتيجيا تتبدى النظرة الحمساوية تجاه الضفة الغربية، عبر تصريحات عنجهية ومتغطرسة تهدد بالسيطرة أو الهيمنة وتكرار الحسم العسكري، مما يمثل دعوة مبطنة إلى استمرار الاحتلال هناك، ولا مانع من التذكير بالتصريح البائس للجنرال نزار ريان عن الصلاة في المقاطعة أو فتح المقاطعة بعد فتح السرايا والمنتدى في غزة، وكل ذلك بينما يستمر الاحتلال المباشر في الضفة وسط عجز وقصور في استنباط الوسائل الكفاحية والنضالية لمواجهة هذا الاحتلال، والشكوى والصراخ من تصرفات السلطة هناك غير القانونية أيضاً، والتي تعطي الانطباع بأن الصراع المركزي إنما هو مع الرئاسة وحكومة السيد سلام فياض وليس مع الاحتلال الإسرائيلي الذي تتراوح الخيارات تجاهه ما بين التهدئة القصيرة أو الطويلة المدى. في المحصلة، فإن غياب الرؤية البعيدة المدى والاجتهاد لاستشراف المستقبل يطال الجميع، ويؤدي إلى تكريس الانقسام والانفصال ونشوء حالة تمنع الحوار الوطني والالتئام السياسي والجغرافي، ولأن حماس هي الأقوى والأكثر تنظيما، فإن التداعيات السلبية لتصرفاتها ذات أثر أقوى وأعمق، أما فتح فمن الممكن إلقاء نظرة على تفاصيل اجتماعات الأسبوع الماضي في عمان من أجل التحضير للمؤتمر العام القادم الذي لا تبدو الأمور مبشرة بشأنه أو حتى قراءة –ليس بالمعنى الميكانيكي- المقابلة التي أجرتها الحياة مع القيادي صخر بسيسو من أجل أخذ فكرة عن الواقع المنهار للحركة والتنظيمات الأخرى العاجزة التي لا حول لها ولا قوة وهي فشلت في منع المحاصصة كما الاقتتال.الخلاصة النهائية هي أننا أمام سلطة بوليسية للحكم الذاتي في غزة، وأخرى ضعيفة بائسة عاجزة في الضفة الغربية، وعلى القضية والآمال الوطنية الجامعة السلام.