ليست لدينا معلومات كافية عن النتائج التي تمخضت عنها الجولة الخليجية التي قام بها السيد عصام شرف، رئيس وزراء العهد الجديد في مصر، وشملت ثلاث دول هي المملكة العربية السعودية والكويت وقطر، ولكن ما لاحظناه، ومن الممكن أن نتكهن به، من خلال الاستقبال «المتحفظ»، أن النجاح كان محدودا بسبب «توجس» معظم الدول الخليجية من نجاح الثورة المصرية في الإطاحة بنظام الرئيس المصري حسني مبارك، وفشل جميع جهودها في منع محاكمته وأفراد أسرته بتهم الفساد، وإهدار المال العام، وإصدار الأوامر بقتل المحتجين الأبرياء العزل في ميدان التحرير، وباقي مدن مصر الأخرى. سبب آخر لهذا «الاستقبال الفاتر»، يتلخص في حدوث تغيير جذري في السياسة المصرية تجاه إيران، تمثل أولا في السماح لسفن حربية إيرانية بعبور قناة السويس، في طريقها إلى ميناء اللاذقية السوري، وتصريحات وزير الخارجية المصري السيد نبيل العربي الإيجابية تجاه إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية مع إيران، واللقاء مع وزير خارجيتها على هامش اجتماعات منظمة دول عدم الانحياز. السيد شرف لم يذهب إلى دول الخليج «متسولا»، وإنما لتأمين استثمارات لسد عجز طارئ في اقتصاد بلاده في حدود 12 مليار دولار تراكم بفعل حال الشلل التي أصابت الاقتصاد المصري طوال أسابيع اندلاع الثورة، مما أدى إلى ضرب الموسم السياحي، وهروب بعض رؤوس الأموال الأجنبية. مسعى السيد شرف للتوجه إلى الأشقاء في الخليج لإنقاذ اقتصاد بلاده أمر مشروع ومبرر، فإذا كان ديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا، ونيكولا ساركوزي، رئيس فرنسا، بل والمسؤولون الأمريكيون أنفسهم يتحولون إلى مندوبي مبيعات لتسويق منتجاتهم والبحث عن صفقات تجاربة وعسكرية لإخراج اقتصاد بلادهم من حال الركود التي يعيشها حاليا، فلماذا لا يفعل رئيس وزراء مصر، الشقيقة الكبرى، الشيء نفسه؟ دول الخليج تتلقى عوائد مالية من النفط والغاز ومشتقاتهما في حدود 500 مليار دولار سنويا، وتملك صناديق استثمار سيادية بقيمة ثلاثة تريليونات دولار على الأقل مودعة في دول غربية، و«فراطة» (Peanuts) هذه المبالغ لا تنقذ الاقتصاد المصري وتخلق مئات الآلاف من الوظائف للشباب المصري العاطل فقط، وإنما اقتصاديات جميع الدول العربية وفوقها عدة دول إسلامية أخرى. من الواضح أن السيد شرف عاد إلى مصر من جولته الخليجية بالكثير من الوعود والابتسامات، على طريقة القول الخليجي المأثور «أبشر»، ونأمل أن نكون مخطئين، فإذا كانت الدول الثلاث التي استقبلته (السعودية والكويت وقطر) غلفت اعتراضها على السياسة المصرية الجديدة بالحد الأدنى من المجاملات التقليدية، فإن دولة الإمارات العربية المتحدة أقفلت أبوابها في وجهه بطريقة «مهذبة» تحت ذريعة انشغال المسؤولين فيها بارتباطات مسبقة، وهذا يعني في العرفين الدبلوماسي وغير الدبلوماسي «الرفض المقنع». اندرو هاموند، مراسل وكالة أنباء «رويترز» في منطقة الخليج، أماط اللثام عن الموقف الخليجي من ثورة مصر في تقرير إخباري بثته وكالته يوم أمس الأول (يقصد الخميس) ونقل فيه شعور أحد مساعدي الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي والرجل الأقوى فيها بخيبة الأمل لسقوط نظام الرئيس حسني مبارك، وقوله، أي المسؤول الإماراتي نفسه، «كيف يفعلون هذا به.. كان الأب الروحي للشرق الأوسط.. كان رجلا حكيما قاد المنطقة دوما.. نعم الشعب يريد الديمقراطية ولكن ليس بهذه الطريقة.. هذا أمر مهين». هذا كلام خطير.. يفتقر إلى الكثير من الحصافة والدبلوماسية، وفي الوقت نفسه ربما يخلق مرارة لدى أبناء الشعب المصري في غمرة انشغالهم بترتيب بيتهم من الداخل ومكافحة الثورة المضادة التي تريد سرقة إنجازهم العظيم وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وعلينا أن نتصور، لو قيل هذا الكلام أو حتى أقل منه على لسان مسؤول مصري في حق الإمارات أو أي دولة خليجية أخرى، فكيف سيكون رد فعلها؟ وليسمح لنا هذا المسؤول أن نختلف معه، فالرئيس مبارك إذا كان قد قاد الشرق الأوسط فعلا، فإنه قاده إلى الذل والعبودية والضعف.. قاده إلى مساندة المشروع الأمريكي الإسرائيلي في تدمير العراق وإحداث خلل كبير في الموازين الاستراتيجية في المنطقة.. قاده إلى سلام مهين مع الإسرائيليين، ساهم بدور كبير في تصعيد الغطرسة الإسرائيلية وإكمال تهويد القدسالمحتلة، والعدوانين الأخيرين على لبنان وقطاع غزة. هذا «البرود» الرسمي الخليجي تجاه «مصر الثورة» يعكس في نظرنا سياسة انتحارية، ستضر بدول الخليج وأمنها أكثر مما تضر بمصر، سواء من حيث التوقيت أو من حيث المضمون. ففي مصر الآن واقع جديد يتمثل في تحرر البلد من «تبعيته» للخارج، عربيا خليجيا كان أم غربيا، واستعادة الكرامة والسيادة المصرية المهدورة على مدى أربعين عاما. مصر الآن تسير بثقة لتأسيس نظام ديمقراطي وحكم رشيد يقوم على الشفافية والتعددية والحريات والقضاء العادل المستقل.. نظام جديد يمكن أن يؤدي إلى مشروع نهضة عربي متكامل وواعد إذا كتب له الاستمرار والاستقرار. نتفهم قلق الحكومات الخليجية من النوايا، أو بالأحرى الخطر الإيراني، ولكننا لا يمكن أن نتفهم غضبها المفتعل والمبالغ فيه من عزم مصر إقامة علاقات دبلوماسية مع طهران لسبب بسيط، وهو أن السفارات الخليجية في العاصمة الإيرانية هي الأضخم والأفخم من بين جميع السفارات العربية والأجنبية الأخرى. فإذا كانت الدول الخليجية تعارض العلاقات الدبلوماسية مع إيران، فلماذا لا تكون القدوة، وتضرب لنا مثلا في قرن الأقوال بالأفعال، وتقطع علاقاتها التجارية والدبلوماسية كليا مع إيران فورا ودون تردد، ولتعتب أو تغضب في حال إقدام مصر أو غيرها على إقامة علاقات مع إيران أو اجتمع وزير خارجيتها مع نظيره الإيراني. الحكومة المصرية الجديدة قالت، أكثر من مرة، إن أمن الخليج «خط أحمر»، وأكدت على لسان وزير خارجيتها السيد نبيل العربي أن أي علاقات دبلوماسية مع إيران لن تكون على حساب الدول الخليجية.. فما هو المطلوب أكثر من ذلك: أن تعلن مصر الحرب على إيران؟ من الغريب أن نرى إيران أكثر ترحيبا من دول الخليج العربية بعودة مصر إلى دورها في هذه المنطقة الحساسة من العالم، مع أن عودة مصر إلى الخليج يجب أن تكون مصدر قوة للطرف العربي، والأهم عامل استقرار لمنطقة تعصف بها التوترات الطائفية والعسكرية. ومن الأولى بدول الخليج، ومن قبيل مصلحتها الذاتية قبل أي شيء آخر، أن تتسابق الآن إلى ضخ الاستثمارات في مصر الثورة ودعم الاقتصاد المصري بكل السبل بدلا من دفع «الإتاوات» بلا جدوى لأمريكا وأوربا. ولا شك أن علاقات مصرية إيرانية طبيعية يمكن أن تشكل شبكة أمان سياسية واستراتيجية لدول الخليج. ولتتذكر السعودية والإمارات على سبيل المثال أنهما هرعتا إلى طلب قوات مصرية فور وقوع الاجتياح العراقي للكويت، وأن إيران التي كافحت لعقود من أجل تطبيع العلاقات مع مصر نظرا إلى ما تعرفه وتقدره لأهميتها لن تفعل ما يعيد تلك العلاقات إلى خانة القطيعة والتوتر. لقد تغير الزمن واختلفت الحسابات، إلا أن البعض في دول الخليج لا يزال يعتقد أن أمريكا يمكن أن تغامر بإرسال مئات الآلاف من جنودها ليكونوا هدفا سهلا للقاعدة وغيرها كما حدث في العراق. وللأسف أيضا أن دول الخليج تبدو وكأنها آخر من يدرك الأهمية الإقليمية لتغير السياسة الخارجية المصرية رغم أنه لا يكاد يمر يوم إلا ونسمع فيه تصريحات أمريكية أو إسرائيلية تعبر عن الزلزال الاستراتيجي الذي أحدثته الثورة المصرية في المنطقة. حكومات دول الخليج التي تشهد نهضة معمارية وإدارية يجب أن تتبنى سياسة حداثية بالقدر نفسه، سياسة تتناسب مع القرن الواحد والعشرين، وتنظر إلى الإمام لا إلى الخلف. فمن الخطأ أن تكون بوصلة التحركات الدبلوماسية لهذه الدولة ممثلة برئيس مخلوع وكيفية تعاطي نظام منبثق من رحم ثورة الشعب المصري معه.. رئيس مدان بالفساد والقمع وتهميش دور بلاده وترك عصابات رجال الأعمال تنهب ثرواتها. العلاقات بين الدول لا تتمحور حول أشخاص، ناهيك عما إذا كانوا فاسدين، منبوذين من شعوبهم، بل حول المصالح الاستراتيجية المشتركة، فمصير الرئيس المخلوع بات مسألة مصرية داخلية بحتة، ومن الخطأ محاولة التأثير على سير تعاطي العدالة معها وفق المعايير القانونية النموذجية التي نراها حاليا. ترتكب حكومات دول الخليج كارثة أخرى إذا حاولت أن تعادي مصر بعدم هروعها لنجدتها اقتصاديا في مثل هذا الوقت الحرج، وعليها في الوقت نفسه أن تدرك أن عجلة التغيير في مصر انطلقت وبسرعة، وأن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء.. القيادة ستعود إلى مصر الثورة... والمارد المصري كسر قمقم الفساد والتبعية، والحكيم هو من ضبط ساعته وتحركاته وفق هذه الحقيقة ناصعة الوضوح.