التسونامي السياسي الذي يكتسح الساحة العربية من المحيط إلى الخليج يؤسس لواقع جهوي وكوني جديد، مما يقتضي التعامل مع المستجدات من خلال مرتكز الجواب الملائم عن السؤال الملائم. رافع المسلسل تمثل في غضب الشارع الذي أسقط رئيسي دولتين عربيتين نموذجيتين، من حيث اندماجهما في التوجهات الدولية المعاصرة، ولازال يؤسس لتهديد باقي عناصر المنظومة الرسمية العربية على الأقل. إنه زلزال مفاجئ أفرز قانونا تاريخيا مفاده أن مصير الأجهزة الحاكمة المتشبثة بوصفات الماضي هو التشطيب عليها من القاموس السياسي، إن عاجلا أو إلى حين. إن الشارع العربي أصبح يتجاوز، إلى حد كبير، الكثير من خيوط اللعبة السياسية القديمة القائمة على إقصاء الجماهير. من هنا يتضح أن مصلحة كافة الفرقاء، وعلى رأسهم الدوائر التقدمية، تنطلق أساسا من الإدراك العميق للبنى المتحكمة في تطلعات الفئة الشابة على الخصوص، دون إقصاء الفئة المتقدمة سنا، الشابة آمالا. وهذا يقتضي وضع المستجدات ضمن السياقات العامة والخاصة، والقديمة والجديدة، باعتبارها مدخلا للبحث عن ميكانيزمات بلوغ الأهداف المنشودة. وحيث إن المغرب يمر من مرحلة انتقالية حسب جل الفرقاء، فإن هذا الوضع يستلزم إبراز جدوى منظوره الجديد المتضمن في جوابه عن الأسئلة المطروحة. 1 الحمولة الجديدة للغضب العربي بتزامن مع قرب فصل السودان عن جنوبه نتيجة التدخل الخارجي الذي طبع النزاع بصبغة دينية، انطلقت في أواخر 2010 حركة احتجاجية من مخيمات « تندوف «ثم من مخيم «أكديم إيزيك» بالصحراء المغربية. وبعد اندلاع شرارة الغضب بتونس وامتداد طوفانها إلى مصر، ثم الجزائر والأردن، واليمن والبحرين وعمان، والمغرب في ظرف متقارب، وانتقال عدواها إلى باقي البلدان العربية لاحقا، تأسيسا على مطالب تجمع بين الخطين الاجتماعي أولا والديمقراطي ثانيا، تمت الإطاحة يومي 14 يناير و11 فبراير 2011 في تونس ومصر بالرئيسين ابن علي ومبارك. في هذا السياق، انضافت - للبلدان الغنية بثرواتها النفطية - مبررات أخرى عمقتها الأنظمة المحلية من خلال استثمار البعدين القبلي والمذهبي لإضفاء المشروعية على القمع. وقد أدركت الفئة المظلومة الأهداف المبيتة، مما اضطرها إلى توحيد الشعارات المرفوعة لالتئام اللحمة الاجتماعية من خلال التركيز على الإصلاحات السياسية الجوهرية التي تعتبر المدخل الرئيس لباقي المطالب. وانتهى الوضع المأساوي ببعض البلدان إلى درجة المواجهة المسلحة كما يجري حاليا في ليبيا، والذي انتهى إلى التدخل الأجنبي نتيجة الوضع الشاذ. ومما يثير الاستغراب تحول المشهد السياسي العربي في وقت وجيز، لا يتجاوز بضعة أسابيع، من وضع هادئ ظاهريا استغرق عدة سنوات إلى وضع قلب المعادلات، إذ أصبح يتوخى التغيير الجذري. وهذا أمر ممكن إذا أتيحت له الظروف المساعدة، ويمكن أن تحوله الالتفافات إلى مجرد صيحة في واد، إن لم يؤد إلى واقع أسوأ.. تقسيم جغرافي. وعلى هذا، يبدو جليا أن الاستشراف المستقبلي لغضب الشارع العربي يتسم إلى حد الآن بالغموض، ففي ليبيا نجد العقيد القذافي قد استند إلى مرتزقة لاستعادة سلطته الفاقدة للشرعية، مما فتح المجال للتدخل الأجنبي بعد أن طلب أبناء ليبيا أنفسهم توفير منطقة حظر جوي تحت غطاء الجامعة العربية نتيجة التصرف الهستيري للقذافي، مما فتح المجال لاستغلال ورقة حماية المدنيين بامتياز. وباليمن يستفيد علي صالح إلى حد الآن من كونه يحمي أمريكا ولواحقها من الإرهاب. وفي البحرين تم تحوير جذري للمطالب بدعوى مواجهة المد الإيراني بسبب الوجود الشيعي، وهي ورقة تستثمر لحماية التمركز الأمريكي وحماية النظام المحلي، مما جعل بعض البلدان المتوجسة من المظاهرات، كالسعودية والكويت والإمارات وقطر، تبادر إلى التدخل في المشاكل الداخلية لبلد مجاور تحت غطاء الدرع الخليجي، علما بأن قطر تناصر الثوار الليبيين لإسكات جماهيرها بدعوى مناصرة التوجه الديمقراطي، وفي نفس الوقت ترضي الهيمنة الأمريكية بتدخلها لتغض الطرف عنها إذا مارست قمع الغضبة الجماهيرية، وهذا يبرز ازدواجية المواقف. وبالمغرب العربي تكتفي الجزائر بإعلانها رفع حالة الطوارئ التي دامت عقدين، في حين نجد المغرب يفتح ورش إصلاحات دستورية لازالت حركة 20 فبراير تريد الدفع بها في اتجاه ما يحقق مزيدا من التشارك المجتمعي. وعلى كل، فغضب الشارع المشروع والمتولد من نار مزمنة تحت الرماد قد برز إلى السطح بفعل أربعة عوامل وفق علم النفس الثوري: الظلم الوعي الشجاعة الاستعداد للتضحية. وعموما، فالغضبة الجماهيرية اصطبغت ببعدين بارزين: فمن جهة تجاوزت المطالب سقف التنديد بالفساد، وتحولت إلى مواجهة من أجل التغيير الجذري، ومن جهة أخرى سقطت الرؤوس الكبيرة نتيجة عدم قدرتها على التكيف مع المستجدات نتيجة عدم فهمها طبيعة التحول.. ومما يثير الاستغراب نهاية صلاحية من كان يعتبر نموذجا لحماية مصالح الدول المستعمرة، باعتبار أن معظم دول العالم العربي لازالت تحت أسر استعمار مقنع، وبالتالي أقصي من كان يروج له على أنه استطاع التأقلم مع النظام العالمي الجديد، ولذا كانت بعض الشعارات المرفوعة في مصر تعلن الرفض التام للتبعية وتراهن على مكسب الكرامة، مما يؤكد أن التحرك الجماهيري لا ينحصر في المطالب الخبزية فحسب. والحقيقة أن ما يثير الاستغراب هو أن مجريات المرحلة الانتقالية محفوفة بمخاطر المواجهة المعاكسة التي تريد الالتفاف على ركائز المواطنة الحقة. وبناء على ما ورد في تدخل الوزير الأول التونسي «باجي القاضي السبسي» مباشرة بعد تسلمه مهامه في أوائل مارس 2011، فإن القطيعة مع الماضي تظل صعبة، إدراكا منه لتداخل المحلي والخارجي في اللعبة السياسية.