أياّ كانت الأمور، سواء اتفقنا مع تلك التصنيفات أو لم نتفق، فإن هناك شبه إجماع بين علماء اللسانيات والدارسين للغات الأمازيغية على عدم وجود شيء اسمه «لغة أمازيغية موحدة» إلا في أذهان البعض، فقد اتفق الجميع على أن الفرع اللغوي الأمازيغي ينقسم إلى عدة لغات مستقلة ومختلفة. ورغم أنهم اختلفوا بدورهم في عدد هذه اللغات وفي المجموعات الفرعية التي تنتمي إليها كل لغة على حدة، فإنهم لم يختلفوا أبدا في عدم وجود لغة أمازيغية موحدة لأن القول بذلك يتعارض مع أبسط الحقائق الواقعية الواضحة للعيان. ولأن نخب القومية الأمازيغية تعي جيدا عمق هذه الاختلافات بين اللغات الأمازيغية المتعددة والتي تصل إلى درجة القطيعة التواصلية بينها، فإنها -شأنها شأن بقية النخب القومية الأخرى- تلجأ إلى الاحتيال للقفز على واقع التعدد اللغوي ومحاولة تجاوزه، كما قامت بذلك من قبلها نخب القومية العربية في شمال إفريقيا، حيث ادعوا جميعا أن اللغات الأمازيغية القائمة ليست سوى «لهجات» لا ترقى على مستوى اللغة، لتبرير واقع تهميش وإقصاء هذه اللغات وتعويضها بلغة أخرى «أسمى». وإذا كان موقف نخب القومية العربية في شمال إفريقيا تجاه اللغات الأمازيغية مفهوما على اعتبار أن الاعتراف بها كلغات قائمة بذاتها يشكل تهديدا للشعارات القومية عن «عروبة شمال إفريقيا» وعن «وحدة اللغة العربية والوطن العربي من المحيط إلى الخليج»... فإن من غير المفهوم تماما أن تقوم نخب الحركة الأمازيغية (التي تحولت هي الأخرى إلى نخب قومية) بمحاولة استهداف تعدد تلك اللغات وهي التي كانت، ولزمن طويل، ترفع شعارات التعددية اللغوية والدفاع عن اللغات الأمازيغية من خطر الانقراض حينما يتعلق الأمر بالعلاقة باللغة العربية، لكنها ترفض تلك التعددية حينما يتعلق الأمر بالواقع اللغوي الأمازيغي ذاته، وتدافع بغرابة عن لغة أمازيغية موحدة لا توجد إلا في أذهان بعض النخب! فما الذي تغير الآن حتى صارت هذه النخب تعيش التناقض الصارخ وتطالب بإعدام هذه اللغات تحت مسمّيات وحدة اللغة الأمازيغية؟ وهي التي لطالما رفعت ذلك الشعار الشهير عن «الوحدة في التعدد». الجواب بسيط للغاية: إنها النزعة القومية ذاتها والتي ترى في أي تعدد أو تنوع خطرا عليها وعلى مقولاتها عن وحدة اللغة والعرق والثقافة والتاريخ. ومن بين المشاريع العديدة لاستهداف واقع التعدد اللغوي الأمازيغي ما يعرف باللغة الأمازيغية «المعيارية» (أو الأمازيغية الفصحى!) التي تعرف بكونها اللغة الأمازيغية «الموحدة» والتي يراد منها تجاوز هذا التعدد طالما أن «الأمازيغية كيان لساني موحد ومشترك يتجاوز اللهجات المحلية...» (أحمد بوكوس، في اللغة الأمازيغية. الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، أيام الثقافة الأمازيغية 1990)، على حد تعبير أحمد بوكوس (رئيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في المغرب) والذي يرى أن تقسيم الأمازيغية إلى عدة لغات مختلفة -كما هو واقع الحال منذ آلاف السنين وحتى اليوم- يحول دون تعييرها، وبالتالي يؤدي إلى إضعافها. ومن ثم يجري الدفاع عن لغة معيارية موحدة تحت غطاء ضرورة التنميط والتقعيد اللغوي للأمازيغية حتى يسهل تدريسها ودمجها في الحياة العامة وفي جميع أنشطة المجتمع. لكن هذا الرأي وإن كان يتضمن جانبا من الحقيقة في ما يتعلق بنقل اللغات الأمازيغية من مستوى الكلام (الثقافة الشفوية) إلى مستوى اللغات المقعّدة التي تعبر عن حاجات المجتمع والتي تواكب تطوراته (اللغة المدونة)، خاصة وأن معظم هذه اللغات ما تزال في مستوى التعبير عن الأشياء ولم تخضع بعد لعملية انتقال إلى مستوى التعبير عن المفاهيم المجردة وذلك بسبب استمرار ارتباطها بالواقع الاجتماعي في مستوياته الدنيا واستمرار إقصائها عن المجالات الحيوية التي ستضمن تطورها ورقيها كالتعليم والاقتصاد والقضاء والإعلام (والتي تسيطر عليها، للأسف الشديد، اللغة الفرنسية تزاحمها في ذلك وباستحياء شديد اللغة العربية، وهو واقع موروث عن الفترة الاستعمارية خاصة في المغرب والجزائر وتونس...)، فإن هذا الرأي يحمل مضامين خطيرة أخرى على اللغات الأمازيغية نفسها. فبدل محاولة تطوير هذه اللغات المتعددة وتعييرها انطلاقا من المعطيات الموجودة على الأرض والتي يتداولها الناس في حياتهم اليومية، يراد تصفية تعددية تلك اللغات التي ظلت حية لزمن طويل ومقاومة لكل الظروف المعادية، وتذويبها في لغة واحدة معيارية توصف بكونها اللغة الأمازيغية الفصيحة في مقابل اللهجات الأمازيغية العامية. هذه اللغة الافتراضية التي لا وجود لها في الواقع ولا يفقهها أحد، لغة اخترعتها قلة قليلة من نخبة ذات نزوع قومي لا لشيء سوى لتعبر عن أوهام نفسية مرتبطة بإرادة الاستعلاء النخبوي واحتقار لغة العامة التي ليست سوى «لهجة» لا ترقى إلى مستوى اللغة، رغم أن تلك النخب نفسها تستخدم تلك «اللهجات» في التواصل مع بعضها البعض. ومن المفارقات العجيبة ما قاله أحمد عصيد ذات مرة وهو ينتقد العلماء الأمازيغ في سوس -وعلى رأسهم المختار السوسي- الذين كانوا يحرصون على تعلم العربية والكتابة بها، ووصفهم بأنهم كانوا يحتقرون لغتهم الأم وأنهم إنما فعلوا ذلك بحثا عن «امتياز ورفعة مقام» تمنحهم إياهما «المعرفة بلغة سرية لا يعرفها العوام» (أحمد عصيد، الأمازيغية في خطاب الإسلام السياسي. منشورات الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، الطبعة الأولى 1998)، فصار هو نفسه ومعه بقية النخب الأمازيغية الجديدة القابعة في أروقة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية يدافعون عن لغة سرية (يسمونها الأمازيغية المعيارية والموحدة) لا يفهمها العوام من أبناء شعبهم والذين يتداولون مجموعة من اللغات المتعددة والمختلفة التي تعلموها عن آبائهم وأجدادهم على امتداد آلاف السنين، في موقف من التناقض المؤسف الذي يفضح المستور في أذهان هؤلاء الذين يبحثون كغيرهم عن امتيازات نخبوية ورفعة مقام. يتبع....