قرر المركز السينمائي المغربي عدم الترخيص للمخرج الإيراني مجيد مجيدي بتصوير بعض مشاهد فيلمه المقبل عن الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، في المغرب. وقد علل المركز هذا الموقف بقوله «إن المغرب حسم الأمر منذ زمن، حيث هناك عديد من المواضيع التي لا يتم التطرق إليها ولا يمكن السماح بتصويرها في المغرب». ولا يسعنا هنا إلا أن نشيد بهذه الخطوة الجبارة التي اتخذها المركز ونفتخر بها، لأننا ما لبثنا نطالب باحترام التراث والثوابت الدينية والمشاهد المغربي. ولم يقدم المركز السينمائي أي دليل مادي عن هذا الرفض واكتفى بالعمل على «حديث الناس»، الذي يروج للتخوف من تشخيص الرسول الأعظم ولِما للأخير من مكانة عالية ومنزلة عظيمة في نفوس المسلمين وفي تاريخ البشرية. فعمل مجيد مجيدي هذا، الذي لم يصور بعد، والذي ساهم في كتابة نصه علماء دين مغاربة، أثار الكثير من الجدل، كما وقع مع أفلام ومسلسلات تلفزيونية إيرانية أخرى، مثل النبي يوسف، عليه السلام، في السلسلة الإيرانية «يوسف الصديق»، و«مريم المقدسة» و«أصحاب الكهف» و«النبي سليمان»، حيث جُسِّد فيها الأنبياء والرسل. ولعلماء السنة مواقف واضحة وفتاوى كثيرة تحرم تجسيد الأنبياء والملائكة من خلال التمثيل واستهدفت مسلسل «يوسف الصديق» تحديداً. نحن لا نريد هنا الدخول في معترك الحجج والقرائن العقلية والنقلية ولا الغوص في الحكم الشرعي أو إبداء الرأي في الفتاوى أو مقارعة رجال الدين والعلماء وموقفهم من الإبداع السينمائي، لأن ذلك ليس من اختصاصنا. لكن ما يهمنا هنا هو موقف المركز السينمائي المغربي، الذي لا يحظى بأي شرعية دينية ولا يتوفر على الإرث الثقافي اللازم، إنْ لم نقل على أبسط المستجدات الفكرية ليَفْصِل في مسألة بالغة الحساسية ومن صلاحيات الفقهاء والعلماء. العجيب في الأمر أن يستفيق فجأة نفر من الواعظين من سباتهم العميق ويخرجوا من فتحة جحرهم الخلفية وتنطلق عقد ألسنتهم لتتفوه بهرطقات وخزعبلات بعدم جواز كذا أو كذا. فقد قام «المصلحون الجدد»، أصحاب الأرواح النقية والأنفاس الزكية، قومة رجل واحد للدفاع عن «الثدي» الذي رفضوا أن يرضعوا منه. إنهم، هم أنفسُهم، من وظفوا أسلحة الدمار «الفنية» في السينما المغربية وجعلوا منها شغلهم الشاغل، لضرب الإسلام في العمق وللزحف على القيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية داخل المجتمع المغربي، واتهموا كل من وقف ضد هذا المشروع التخريبي ب«الظلامية». ليست هذه هي المرة الأولى التي يثار فيها موضوع تشخيص الرسول الأكرم عليه السلام. فالكل يعلم قصة فيلم «الرسالة»، للمخرج السوري الكبير مصطفى العقاد، والجدل الذي دار حوله والضغط السعودي لتوقيف المشروع، بدعوى أنه «يسيء إلى الإسلام وإلى الرسول محمد»، صلوات الله عليه. وقد توقف المشروع في المغرب، بالفعل، تحت وطأة الضربات القاصمة للسعودية، رغم موافقة علماء السنة في «الأزهر» وعلماء المجلس الأعلى الشيعي على تصوير الفيلم. ورحل مصطفى العقاد إلى ليبيا، مُصرّا على أنجاز ما بدأه. ويشهد الجميع الآن أن الفيلم، بعد خروجه إلى النور، أحسن ما صُور عن الإسلام وعن الرسول، عليه السلام، إلى حد اليوم... ومع ذلك، ما زال «محرَّما» في المملكة العربية السعودية. وعلى المركز السينمائي المغربي، الذي انتابته «الغيرة»، فجأة، على الثوابت الدينية، أن يشرح لنا لماذا رخص لفيلم «المسيح»، الذي صوره المخرج الأمريكي الشهير مارتن سكورسيزي من أوله إلى آخره في المغرب وشخّص فيه المسيح ابن مريم من البداية إلى النهاية، من دون أن يرف له جفن؟... هل هناك خط أحمر يطبق فقط على البعض ولا يطبق على الآخرين؟ ألم يُرسَل المسيح من عند الله تعالى؟ أليس من الثوابت الدينية أن يؤمن كل مسلم بالأنبياء السابقين، من آدم، أول خلق الله تعالى إلى محمد، خاتم الأنبياء، مروراً بموسى وداود وعيسى، عليهم الصلاة والسلام؟ كفانا وصاية على عقولنا ووعينا. نحن ندرك جيدا أن الإناء ينضح بما فيه ولن ينفع التستر بالحجج الدينية ومكارم الأخلاق والمفاهيم الاجتماعية الرنانة، فالموقف قائم على أساس ثنائيات الباطن والظاهر، تحركه أياد خفية، وفق ما يتطلبه الظرف وتمليه الحاجات. يحاول بعض الانتهازيين والرجعيين، بعد إفلاسهم الفكري، أن يفهموا وضعهم انطلاقا من تحريفهم للماضي، على ضوء الحاضر، وسرقة المستقبل، على ضوء مغالطات الحاضر... يعتمد هؤلاء على خلق التناقضات، عبر مجموعة من التفاعلات «المرَضية»، التي تتميز بالقصور أو بضيق الرؤى وتتسبب في الاضطراب الوجداني، الذي يؤثر -حتما- على روح الإبداع وعلى المستوي السلوكي والاجتماعي. كما أن شخصيتهم ليست مستقلة وتعاني من الازدواجية والانفصام وتتسم بضعف الإرادة التي تمنعهم من التعبير عما يصبون إليه، خاصة أن خطابهم يبقى ناقصا. وأهم ما يطبع هذه الشخصية النظرة الاستعلائية، حيث أصبحوا يعتقدون أنهم «رموز» وأنهم حملة «لواء» القيم الصحيحة، بينما هم، في الحقيقة، أشخاص متعددو الأوجه ومنعدمو الثقة في النفس. وقد تحولت هذه الازدواجية، بالفعل، إلى حالة شعورية واقعية تنهش جسد الفن السابع. إن تقلب الآراء والأفكار والأهواء ليس أمرا جديدا أو حتى معيبا، شرط الاقتران بمبدأ أو سلوك أو خيارات فكرية مبررة. أما المعاناة من الانفصام الشخصي فتترتب عنه نتائج خطيرة في التفكير والوجدان والسلوك وتدفع الإنسان إلى أن يتظاهر بما ليس فيه. إن الوصفة المكيافيلية قد أكل عنها الدهر وشرب، فالذين يساهمون في تشويه معالم حضارتنا وصورة ثقافتنا وينقلبون على أنفسهم بين عشية وضحاها إلى مدافع عليها لا يملكون أي فضيلة للتحدث باسم الثوابت الدينية. نحن نعي جيدا أنه لا تهمهم قيم العمل الخلاق بقدر ما يهمهم إعلاء المصالح الضيقة والتشهير لأنفسهم على حساب المصلحة العامة والوطنية. إن إحدى الصفات الأساسية التي تميز النفعيين والانتهازيين والرجعيين هي موت الضمير والانقلاب على المبادئ، ينعقون مع كل ناعق للوصول إلى الهدف، ولو بإذلال. وما أسهل أن يتفجر الدفاع من أفواه أناس لا يقيمون شأناً للمبادئ والقيم والأخلاق وميثاق الشرف على حساب النفع الرخيص والمصلحة الآنية. وإذا كانت الغيرة على التراث واحترام الثوابت الدينية هي الحجة وراء منع تصوير فيلم الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، وجب التساؤل: أين تبدأ الثوابت الدينية وأين تنتهي؟ هل السينما هي الوحيدة التي تهدد الثوابت الدينية أم إن الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، هي الأخرى، جزء من هذا التهديد؟ هل السلوكيات الفردية (التعري على غلاف المجلات الوطنية، مثلا) قيمة فاسدة وسلوك مضاد يمس الثوابت الدينية؟ أليس مثل هذا السلوك نتيجة انهيار المنظومة الفكرية لشريحة معينة وعدم الإيمان باحترام التراث الثقافي الوطني، حتى ندع جانبا الثوابت الدينية؟ وماذا عن الترويج للعلاقات الجنسية خارج الزواج الشرعي: هل هو محرم شرعا أم لا؟ وبما أننا في سجل السينما نحصر النقاش بأصل الموضوع. هل التطاول على الرسول الأعظم هو الخط الأحمر الوحيد الذي يمس بالثوابت الدينية أم إن الهجمة الشرسة على الدين الإسلامي في موجة من الأفلام التي أنتجها المركز السينمائي المغربي نفسه مس، كذلك، بالثوابت الدينية؟ هل المهرجانات السينمائية المغربية التي تروج للفساد السياحي تعد تهديدا مباشرا للثوابت الدينية أم لا؟ هل تزوير الحقائق التاريخية في السينما المغربية من طرف شرذمة «يهودا الصغير» يسيء إلى التراث الإسلامي أم لا؟ وماذا عن سينما «الإخلال بالحياء» وعن الفصل ال483 من القانون الجنائي المغربي، الذي لا يستثني السينما ويعاقب بالحبس، من شهر إلى سنتين، «كل من ارتكب إخلالا بالحياء»؟ ألا يحق تطبيقه على المخرجين المغاربة، الذين يستفيدون من الدعم ويروجون لثقافة العري والمسخ وإنزال عقوبة السجن بهم وبمن يمولهم؟ وماذا عن الفساد المالي والإداري داخل المركز السينمائي المغربي هل يتماشى ذلك مع الثوابت الدينية؟ ألم يثبت المجلس الأعلى للحسابات بالحجة الدامغة المخالفات المتعلقة بالاستفادة غير المبررة لبعض الأشخاص غير العاملين في المركز السينمائي؟ ألا يريد نفس المجلس جر الصايل إلى القضاء بتهمة إهدار المال العام؟ نحن، إذن، أمام لغز تصرفات وسلوكيات عكس ما عهدناه. فالمركز السينمائي المغربي، بعد إقصائه المخرجين الموهوبين الذين بوسعهم أن يسْمُوا بالذوق العام ويرفعوا من ثقافة المشاهدين، فتح المجال أمام مخرجين من أمثال نور الدين لخماري ونرجس النجار ونبيل عيوش وعزيز السالمي وليلى المراكشي وعبد القادر لقطع ولطيف لحلو وحسن بنجلون ومحمد إسماعيل وأحمد بولان وغيرهم ممن يخلطون بين «الجرأة والوقاحة». فجلست هذه الزمرة، بعد أن تخلت عن ضميرها وأنكرت ذاتها، فعلا وممارسة، على طاولة «البغاء» لإخراج أفلام «كأس وغانية»، ليتحول الفن السابع من «ينبوع أخلاق» إلى «دعارة سينمائية» تسيء إلى الثوابت الدينية بالأساس. وما فيلم «الجامع»، الذي أخرجه داوود أولاد السيد مؤخرا، بدعم المركز السينمائي المغربي، إلا دليل قاطع على ذلك. وأين غاب «حراس الفضيلة»، الذين موّلوا فيلم نبيل عيوش «لحظة ظلام»، والذي يروج للشذوذ الجنسي والدعاية إلى «المسخ» بشكل فاضح؟ وماذا عن فيلم «حجاب الحب»، لعزيز السالمي، و»ملائكة الشيطان»، لأحمد بولان وأفلام أخرى لا يتسع المجال هنا لمناقشتها، والتي تبنّت هجوما لاذعا للنيل من الثوابت الدينية؟ أما فيلم «ماروك» للمخرجة ليلى المراكشي فهو «النموذج» الساطع وليس من محض الصدفة أن ينتجه زوجها، اليهودي، والمخرج في نفس الوقت ألكسندر آجا، حتى يتحقق الهدف بطريقة مزدوجة. فجاء هذا الفيلم ليُتمم ما بدأه المخرج المغربي عبد القادر لقطع، الصديق الحميم لمدير المركز السينمائي الحالي، ل«يغذينا»، بكل وقاحة خدش الحياء العام والإساءة إلى التراث... فالكل يدرك أن فيلم «ماروك» يُحرّض ويمس بمقدسات الشعب المغربي ويتجاوز التقاليد التي تربّى عليها المغاربة. كيف يُعقَل أن يتعاطف إنسان مع مخرجة اختارت، عن قصد، أن تتمحور أحداث فيلمها المثقل حول «ثقافة» الخلاعة ونابي الألفاظ، وفي شهر رمضان المبارَك، ويتحول نفس الإنسان، لاحقا، إلى مدافع عن الثوابت الدينية؟... هذا غيض من فيض الأفلام التي يمولها المركز السينمائي المغربي، هدفها تغييب العقل وتسفيه قضايانا وتراثنا، تطبعها السلوكيات غير الأخلاقية والمَشاهد الجنسية الإباحية ،التي تنال من الآذان والصلاة والقِيّم والأخلاق وتتهمنا بالتعصب لديننا وتُشعرنا بالانغلاق وضيق الأفق وبعدم امتلاك النظرة الإنسانية المتسامحة. وفيلم ليلى المراكشي ليس أكثر من إشاعة حقيرة في صناعة الكراهية بكل المقاييس، ليست بالأولى ولن تكون الأخيرة، للإساءة إلى الدين الإسلامي، ومع ذلك، وجدت من «يدافع عنها» وعن «حقها» في الحصول على تأشيرة لعرض فيلمها في القاعات السينمائية المغربية، ولم يكن سوى مدير المركز السينمائي المغربي، نور الدين الصايل. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل اثبت السيد المدير، بالدليل الملموس والقاطع، أن «ماروك» فيلم «يجسد السينما التي نريد اليوم في المغرب»، بمعنى آخر: السينما التي تستهدف الدين الإسلامي، حتى يصفي حساباته مع الآخرين ويفتح الباب أمام جرافة العولمة. هكذا يُبجّل مدير المركز ما لا فائدة من تبجيله، لتنمية العداء في الوعي الجماعي المغربي ويناصر فيلما محملا بالحمولات العقائدية السلبية عن الإسلام، لتطال الجسد المغربي. دعونا من تسويق خرافة قدسية كلام غرف النوم والخداع والتضليل والاستخفاف بعقول الناس، لأن مخالفة الفعل للقول وتناقض الممارسات مع الأفكار هو نوع صريح من الخيانة للمبادئ والأخلاق الإنسانية. كفانا «زعيق» ضجيجكم المزيف وتقمصكم الفضائل في لباس الحِيّل والكذب والسطحية الفارغة والازدواجية العمياء، لكسب القلوب واستمالتها، واعترفوا أننا نعيش أزمة أخلاق حقيقية في السينما المغربية تَسبَّب فيها المخرجون المغاربة والمركز السينمائي المغربي على السواء. رياح العفة لا تخرج من الفم الكريه والبحث عن الطريق من داخل الغابة أمر مستحيل... حسن بنشليخة