«جمعة الإصرار» التي تجسدت يوم أول أمس (يقصد يوم الجمعة المنصرم) في مظاهرات احتجاجية صاخبة في مختلف المدن السورية أكدت حدوث متغيرات أساسية عدة، سواء في صفوف الشعب، أو في أروقة النظام الحاكم في سورية، يمكن أن تؤشر لهوية، بل ونوعية التطورات المقبلة في البلاد، والسيناريوهات المتوقعة بالنسبة إلى مستقبلها. السوريون المشاركون في الهبة الاحتجاجية هذه، اظهروا حرصاً واضحاً على تخلصهم من عقدة الخوف، وأنهم لا يقلون عزيمة وتصميماً عن الشعوب العربية المنتفضة الأخرى، على إسماع أصواتهم، واثبات شجاعتهم، ومواصلة الحراك السياسي والاحتجاجي حتى نيل جميع مطالبهم في الإصلاح والتغيير كاملة. النظام السوري في المقابل وصل إلى قناعة راسخة بان اللجوء إلى القتل بهدف الترهيب، وبث الرعب، ربما يعطي نتائج أخطر بكثير من التعاطي الأقل عنفا مع المحتجين، خاصة بعد أن تبين أمام العالم بأسره تمسكهم بالوسائل السلمية، وعدم الانجرار إلى دوامة العنف الطائفي، التي حاول البعض إغراقهم فيها. فما حدث في كل من درعا وبانياس وجبلة وحمص من عمليات قتل لم يتكرر بالوتيرة نفسها يوم أول أمس، وشاهدنا أجهزة النظام تستخدم، وللمرة الأولى تقريباً، خراطيم المياه لتفريق المتظاهرين، وليس الرصاص الحي، باستثناء بعض الحالات المحدودة. اختفت فجأة عصابات «الشبيحة» من الشوارع، واختفى معها «المندسون» الذين كانوا يطلقون النار عشوائياً، كما أننا لم نسمع مطلقاً عن مقتل رجال أمن بالعشرات مثلما سمعنا في الأيام الماضية، الأمر الذي يلقي بظلال الشك على كل الروايات التي جرى ضخها عبر وسائل الإعلام الرسمية في هذا الشأن. الأمر المؤكد أن مراجعة شاملة حدثت لنهج الإفراط في استخدام القوة من قبل قوات الأمن ضد المتظاهرين السوريين، خرجت من خلالها القيادة السياسية بحصيلة مفادها أن سفك الدماء يؤدي حتماً إلى تأجيج الاحتجاجات لا تخفيف حدتها، وان الجنازات هي دائماً مهرجانات تعبئة وتحشيد من اجل الثأر والانتقام. ولعل النقطة الأهم التي دفعت القيادة السياسية السورية إلى التعاطي «السلمي» مع مظاهرات الأمس هو خوفها من التدخل الخارجي، الإقليمي، أو الدولي، خاصة بعد بيان الخارجية الأمريكية الذي تحدث عن وجود معلومات تؤكد إرسال إيران قوات لدعم النظام السوري في مواجهة الاحتجاجات. لا نعتقد أن النظام السوري بحاجة إلى مساعدة إيران، أو غيرها، لقمع المتظاهرين المنتفضين، فلديه فائض من الأجهزة القادرة على أداء هذه المهمة، يمكن تصديره إلى دول الجوار، والهدف من هذا التسريب الأمريكي هو تحذير النظام من عواقب تكرار تجربة النظام الليبي المؤسفة في هذا المضمار. يراودنا أمل ضعيف باقتناع القيادة السياسية في سورية بفشل الحلول الأمنية للأزمة المتفاقمة في البلاد، وهي الحلول التي اتبعتها طوال الأربعين عاماً الماضية، فلم يفلح أي نظام سياسي استخدم هذه الحلول سواء كان في الغرب أو الشرق بما في ذلك أمريكا (في العراق وأفغانستان) وبريطانيا (في إيرلندا)، وصربيا (في كوسوفو والبوسنة) ناهيك عن مصر وتونس والقائمة تطول. حتى التهديد بورقة «الفتنة الطائفية» سواء من قوى خارجية أو داخلية في سورية، لم تعط أكلها، فمظاهرات «جمعة الإصرار» أكدت على قوة الوحدة الوطنية والتلاحم بين مختلف الطوائف والأعراق، بل سمعنا العديد من الشعارات التي تحرص على التعايش، وتؤكد عليه، كرد واضح وجلي على هذه «الفزاعة». المجتمع السوري تسامى دائماً على الاعتبارات الطائفية، وتجاوز كل إفرازاتها، بل وذهب إلى ما هو أبعد من الإقليمية أو المناطقية، عندما «صدّر» الأفكار القومية إلى مختلف أنحاء المنطقة العربية، وفتح أراضيه لكل إنسان عربي بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو قوميته. وهذا ما يفسر استقبال أكثر من مليون ونصف المليون عراقي تدفقوا إلى سورية هربا من الحرب الأهلية الطائفية في بلادهم، أو حوالي ربع مليون فلسطيني قبلهم، وجدوا جميعا حرارة الاستقبال، وكرم الضيافة، والمعاملة على قدم المساواة مع أبناء البلاد، دون أي تمنن. الرئيس بشار الأسد التقى عددا كبيرا من قادة العشائر ووجوه المناطق، وتحاور معها بكل صراحة وبقلب مفتوح، وتعهد بتلبية جميع مطالبهم المحلية (المناطقية) بمن في ذلك وجهاء مدينتي درعا وبانياس، ولكنه كرر وعوده بالإصلاح على مستوى الدولة. هذه الخطوة جيدة، وان كنا نعتقد أنها جاءت متأخرة ومنقوصة في الوقت نفسه، فما يريده الشعب السوري هو البدء فورا في الإصلاح والمصالحة الوطنية في الوقت نفسه، فالفجوة بين النظام والشعب تتسع بشكل متسارع مع كل قطرة دم تسفكها قوات الأمن، وكنا نتمنى لو أن الرئيس السوري الشاب اعتذر، وهو المسؤول الأول، لأهالي الشهداء والجرحى، وفي خطاب عام، وما زال هناك بعض الوقت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. الخطأ الأكبر الذي ارتكبه النظام وعلى مدى السنوات العشر الأخيرة انه لم ينقل البلاد وشعبها من مرحلة حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى حكم نجله بشار من خلال إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية جذرية، وما نراه اليوم من هبات شعبية غاضبة هو التجسيد الحقيقي له، فما كان يصلح قبل أربعين أو عشرين عاما من استخدام للقمع وأدواته لا يمكن أن يصلح اليوم، فالزمن تغير، والشعب تغير ولكن النظام لم يتغير، بل استعصى على التغيير بفضل سيطرة الحرس القديم ونهجه الأمني المتخلف. الانتفاضة الشعبية السورية تدخل اليوم أسبوعها الخامس، ومن المحزن أن النظام لم يقدم تنازلا واحدا، ولم يتجاوب مع أي مطلب من مطالب المتظاهرين، وما زال يدرس إلغاء حالة الطوارئ، وقانون التعددية الحزبية، وقانون الإعلام الجديد، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تؤكد هيمنة حزب البعث. كيف يقبل بالتعددية السياسية وهو يعتقل كل رأي مخالف، وكيف يسمح بقانون جديد للإعلام يكرس الحريات التعبيرية وهو يقيل رئيسة تحرير صحيفة رسمية (تشرين) لأنها طالبت بالتحقيق في تجاوزات قوات الأمن لتوجيهات الرئيس وإطلاق النار على المتظاهرين، ولم يشفع لها تأكيدها على تربية أولادها على حب الرئيس بشارالأسد؟ حتى الحكومة الجديدة التي شكلها السيد عادل سفر جاءت مخيبة للآمال، فقد ضمت نصف الوزراء السابقين، ولم تضم وزيرا واحدا من المعارضة الشبابية، أو الشخصيات الوطنية، وهي حكومة تذكرنا بحكومة اللواء احمد شفيق التي شكلها الرئيس حسني مبارك قبل رحيله. السوريون يريدون أن يكونوا أحرارا، وان يستعيدوا كرامتهم وعزة أنفسهم، في ظل إصلاحات تكرس الديمقراطية والعدالة والمساواة، وحكم القانون، وأعلى سقف ممكن من الحريات، والتحرك في هذا الاتجاه بدأ ومن الصعب أن يتوقف أو حتى يتباطأ، والأمور لن تعود إلى الوراء مطلقا، وما زالت هناك فرصة ولو ضئيلة للإنقاذ، وإن كنا لسنا متفائلين كثيرا باستغلالها من قبل القيادة السياسية في البلاد. الشعب السوري شعب كريم يحمل في عروقه جينات الحضارة والريادة، ولن يتوقف في منتصف الطريق، ومن يقول غير ذلك لا يعرف هذا الشعب، ولم يقرأ تاريخه، والأيام بيننا.