كثيرة هي الدروس التي قد تُستخلَص وتُستلهَم من هذه الموجة من الثورات التي تجتاح الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولكن الحديث، بتفصيل، عن عناوين هذه الدروس وعبرها وخلاصاتها وانعكاساتها يبدو سابقا لأوانه. بلا شك، سيكون الجيل القادم من أبناء هذه المنطقة ومن أبناء العالم بأسره على موعد آخر من تاريخ البشرية، يصنعه اليوم شباب الثورة في الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط. سيلقن ذلك الجيل، بالتأكيد، كل تفاصيل دروس هذه الثورات وسيمعن في قراءة لحظاتها، بخلفياتها وصيرورتها ونتائجها وآثارها وانعكاساتها، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، على السلوك الفردي والجماعي وعلى الإلهام العلمي والإبداع الفني في الأدب، نثرا وشعرا وكتابةَ مسرح وسينما وفي الرسم والأغنية والموسيقى. لأن الثورات في كل زمان ومكان لا تلد وتُبرز قيادات جديدة في عالم السياسية فقط، بل أيضا علماء ومفكرين وأدباء وفنانين، ألهمتهم لحظات الثورة قوة استشعار آلام وآمال وتطلعات الشعوب الثائرة، فراحوا يُعبّرون عنها ويخلصون لها بكل ما أوتوه في ميادين تخصصهم من اجتهاد وتفان وإبداع وإتقان، عكسوا وترجموا معاني وغايات الثورة... في هذا الاستلهام العاجل، كما هي الأحداث والتطورات في المنطقة والعالم على عجل، ألتقط جملة دروس تبدو لي بمثابة المنارات الكبرى والعالية التي أنارت وستنير دروب هذه الثورات، لِما لها من رمزية ودلالة غيّرت الكثير من المسلّمات وأعطت بعضها مزيدا من الزخم للثورة، غذّت جذوتها بكثير من الحماسة والإصرار والثبات وكشفت عن أسرار وحكم ما كنا لندركها لولا هذه الثورات، وتنبئ الأخرى بدنو عصر جديد ليس على المنطقة وشعوبها فحسب، وإنما على العالم كله، الذي يتابع هذه الثورات ويراقب ويفهم ويصحّح نظرته ويقتنع.. وسرعان ما ستهوي أفئدة الأحرار فيه إلى معانقة كل جميل وكل كريم وكل فاضل وكل إنساني، من مبادئ وشعارات زمن هذه الثورة، لينافح عنها ويدعو إلى إقرارها.. ولِم لا غدا في معاهدات وأوفاق دولية. سلمية.. سلمية هذا هو الشعار الذي حمله الشباب الصانع لمستقبله في كل المنطقة العربية وفي شمال إفريقيا، وهذا هو الدرس الأول الذي يمكن استخلاصه على التو ومنذ الوهلة الأولى لانطلاق هذه المسيرة من الثورات في تونس ومصر، ثم في باقي البلدان... لا يسعنا أمام هذا المظهر السلمي والهادئ، الذي عبّرت عنه كل الجماهير بدون استثناء، إلا الانحناء، إكبارا وإجلالا لهذه الإرادة في التغيير السلمي ولهذا الإصرار على حفظ أمن وسلامة ودماء الناس. لقد شدّ هذا الشكل السلمي للثورات في مختلف البلدان أنظار العالم، في شماله وجنوبه، وغيَّر تلك النظرة والصورة النمطيتين اللتين انطبعتا في ذاكرة الغرب، خاصة، والتي تتلخص في كون شعوب منطقتنا «خاملة» و«جبانة»، أعطت الدنية من نفسها ومكّنت حفنة من الطغاة عديمي المسؤولية والضمير من التحكم في مصائرها وفي ثرواتها ومقدراتها، وأنها إذا قامت إلى التغيير، فإنها لن تفعل ذلك، بالضرورة، إلا بالعنف والفوضى. لقد قدم الشعب المصري، الذي اعتصم في «ميدان التحرير» في القاهرة وفي غيرها من المحافظات لمدة 18 يوما، للعالم، الذي كان حاضرا بإعلامه في هذه الميادين، مَشاهدَ رائعةً وغاية في الإبداع، عبَّر من خلالها عن سلمية ثورته بالدرجة الأولى. وكم كان مُصرّاً الشعب المصري، برجاله ونسائه، بشبابه وشيوخه، وحتى أطفاله.. كم كان مصرّا وملحا ومتمسكا بألا ينفلت من يده هذا المظهر السلمي لتحركه، فقد تحمَّل الكثير من أجل تثبيت وتأكيد اختياره السلمي، تحمّل الشهادة والجروح والاعتقال والإهانة، تحمَّل أكثر مما يمكن أن نتصور، لكنه استرخص كل ذلك، ليس فقط من أجل نجاح وانتصار ثورته، لكنْ، أساسا، من أجل أن تظل هذه الثورة حاملةً لواءَ السلم والرفق والحلم. حتى وهم يودعون شهداءهم، كانوا حليمين، حتى وهم يداوون جرحاهم، ظل الرفق لباسَهم والحمد والشكر خطابَهم ودعاءهم... أبهرت هذه المَشاهد الكثير ممن عايشوها عن قرب، لحظة بلحظة، من الصحافيين والصحافيات الغربيين، وأثرت فيهم بالغ التأثير وغيرت اقتناعاتهم وأعادت تشكيل تلك الصورة التي طالما رسخت في أذهانهم عن شعوب المنطقة بأنها عنيفة وفوضوية وبأن مجتمعاتها هي منبع لكل أصناف الحقد والإرهاب، وبأنها خطر محدق بالإنسانية، يهدد أمنها ويعد بالزوال نمط الحياة الغربي!... لقد عُقدت ندوات، وألقيت محاضرات كثيرة، هنا وهناك، منذ عقود محاولةً، قدْرَ الإمكان، أن تثبت أن العنف والإرهاب ليسا خاصيتين ملازمتين لشعوبنا. لكن الإعلام كان يصُمّ سمعه ويغمض عينه عن هذه الحقيقة، فجاءت هذه الثورات لتعطي الدليل ولتقدم البرهان على أن خصال الرفق والسلم والنظام والنقاء والمسؤولية هي الأصل في شعوبنا وأن ما وُصفنا به من فوضى وعنف استثناء أُرغِم عليه بعض المغرَّر بهم من أبنائنا، في غفلة وتقصير منا، تحت مختلف الذرائع والضغوط، في الداخل ومن الخارج. نفس هذه المشاهد الناصعة قدمها وعبّر عنها، بأبهى ما يكون التعبير، الشعبُ اليمني، المعروف لدى العام والخاص، في الداخل وفي الخارج، بأنه شعب مسلّح حدَّ التخمة. لكنه شعب سعيد، كما أن يمنه سعيد، فقد استلهم، بنجاح كبير، «درس» ثورتي تونس ومصر وعلم أن سبيل انتصار ثورته هو نفسه السبيل الذي سلكه الشعبان التونسي والمصري، فألقى عن كتفه رشاشه وبندقيته ونزل إلى الشارع والى ميادين التحرير، أعزل إلا من إرادة التغيير السلمي، لتتلقفه الآلة القمعية لنظام علي صالح بالقمع والاعتقال والقتل، محاولة إثارته واستفزازه ودفعه إلى التقهقر والعودة إلى حمل السلاح والوقوع في اقتتال داخلي يفسد ثورتَه، وإن نجحت في إسقاط النظام... ثورة سلمية ترددت شعارا في كل ميادين «التحرير» في الشرق الأوسط وفي شمال إفريقيا. شعار قلب تلك القاعدة الذهبية التي كانت تقول: ما أُخِذ بقوة لا يُنتزَع إلا بقوة. لقد أسقطت الشعوب الثائرة، اليوم، مفهوم وأسلوب العنف الثوري الماركسي، الذي طالما ألهم، وما يزال، الكثيرين، وظنوا أنه المأخذ والمذهب الوحيد لاسترداد واسترجاع الحقوق وتحقيق الثورات. فصارت القاعدة، على العكس، تقول إن ما أخذ بقوة وعنف يمكن، بالتأكيد، استرجاعه وانتزاعه، لكنْ بقوة الرفق وبقوة الإرادة وبقوة الإصرار على البلوغ بالثورة، سلميا، إلى مداها، بقوة الحكمة وقوة الصبر والمصابرة وبقوة الحِلم وقوة الثبات والمثابرة... يبقى أن أشير إلى استثناء واحد، إلى حد الساعة، في سجل هذه الثورات، خاصة في منطقتنا، شمال إفريقيا، وهو استثناء الثورة الليبية. إن ما لجأ إليه الشعب الليبي، الحر الأبيّ، من حمل السلاح، كان فعلا استثناء وحكم الضرورة أرغم الثوار الليبيين على الرد على طغيان القذافي بقوة السلاح، دفاعا عن دماء أبناء الشعب وأعراضهم. يدرك الليبيون حقيقة القذافي ويدركون ما قد يفعله بهم.. وقد شهد العالم وسمع ما توعد به الشعبَ الأعزل، بل ومنطقة حوض المتوسط كلها، من دمار وقتل، إذ أعلن أنه سيحول ليبيا والمنطقة إلى حمام دم. وهذه رسالة أوجهها إلى من يُفتون تعليقا على عموم هذه الثورات، وعلى الثورة الليبية بالتحديد، جهلا بالدين وليّا لمقتضيات ومدلولات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، بأن القاتل والمقتول في النار. فيجعلون جند القذافي، الذين طغوا وأفسدوا في البلاد في نفس مكانة ومنزلة الثوار من شباب ورجال ليبيا، الذين قاموا ليدافعوا عن أنفسهم وأعراضهم ووطنهم، وهم يحملون وصية من نبيهم الكريم، صلى الله عليه وسلم مكتوبا فيها: «من مات دون أرضه فهو شهيد، ومن مات دون عرضه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد»، رواه الترمذي. إلى هؤلاء الفتّانين، المثبطين، العاجزين أوجه هذه الرسالة وأسأل: بالله عليكم، ماذا فعلت إيمان العبيدي وغيرها كثيرات وكثيرات، حتى تختطف ويهتك عرضها بوحشية من طرف أشباه رجال نفوسهم مريضة؟ هل حملت سلاحا؟ أم إن عليها، في عرفكم وفقهكم، القاعد العاجز، أن تصبر وتحتسب وتقعد في بيتها ويقعد أبوها حِلْسَ بيته ويقعد أخوها وعمها وخالها وجارها في منازلهم، وهم يتابعون فصول ومشاهد اغتصاب حرائرهم ولا يخرجون يقفون عند مداخل حاراتهم وإلى شوارعهم لحماية أهليهم وأعراضهم.. مخافة إن قُتلوا أو قََتلوا أن يكونوا، بحكم فتواكم العاجزة المقيتة، في النار. لقد شاهد العالم، عبر الفضائيات، كيف عامل القذافي الشعب الأعزل، الذي احتمى ببيوته ولم يخرج للمواجهة، وبما قابله وألقى به إليه: عصابات ومجرمون ومرتزقة اقتحموا عليه المنازل وأثخنوا فيه قتلا وهتكا لأعراض الشريفات العفيفات، على مرأى ومسمع من أهاليهن، وما صرخة إيمان العبيدي إلا فلتة من جحيم ما يفعله جند القذافي بأهل ليبيا. أتجعلون المجرمين كالمسلمين؟ أم إنكم تجعلون الشرفاء المصلين الراكعين الساجدين كالفاسدين المفسدين في الأرض؟ ما لكم كيف تحكمون؟ يتبع