إدريس ولد القابلة: من هو محمد سعيد الريحاني؟ محمد سعيد الريحاني: إنسان مغربي وُلِدَ لِيَعِيشَ ويُرَفْرِفَ بين مرحلتين هامتين من تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال: الأولى هي المرحلة المعروفة ب"سنوات الرصاص"(1961- 1998)، والثانية هي المرحلة التي سُمِيَتْ ب"مرحلة التناوب والتوافق"(1998-...). ولأن محمد سعيد الريحاني تملكته روح الكتابة، فقد صار بديهيا أن ينخرط في الكتابة عن "المرحلتين" معا إما بالدراسة الرصينة أو بالإبداع القصصي، نقدا أو وصفا أو تحليلا... إدريس ولد القابلة: لمادا التفكير في إصدار كتاب خاص عن "تاريخ التلاعب بالامتحانات المهنية في المغرب"؟ محمد سعيد الريحاني: في مقدمة كتاب "تاريخ التلاعب بالامتحانات المهنية في المغرب"، وهو بالمناسبة كتاب إلكتروني لا زال ينتظر فرصة الخروج للقارئ في حلة ورقية، نقرأ التقديم التالي الذي نعتقد انه جواب فصيح على السؤال المطروح: "عزيزتي القارئة، عزيزي القارئ. هدا الكتاب هو ثمرة نضال حقيقي ضد أشكال الشطط والتلاعب بإرادة المهنيين وكرامة الموظفين من سنة 2003 إلى سنة 2008. وقد نضج هدا الكتاب سنة بعد سنة، بيانا بعد بيان فاستحق بدلك أن ينشر مجمعا كشهادة صارخة للتاريخ ضد كل أشكال التزوير والعبث الممنهج بإرادة المواطنين ليكون بدلك وثيقة تاريخية من جهة وشكلا من أشكال رفع سقف حرية التعبير من جهة ثانية. في زمن الحداثة وما بعد الحداثة بمقولاتها "موت الإنسان" ، "موت المؤلف"، "موت الزعيم"، "موت الإيديولوجيا"... يحز في القلب أن نجد شعوبنا وأنظمتنا ترفع شعارات الردة من قبيل "موت الشفافية"، "موت المصداقية"، "موت الكفاءة"، "موت النقابي" ، "موت السياسي"... وفي ظل موت النقابي والسياسي، صدرت هده البيانات كصرخات سنوية حرة وأبية ومستقلة دوت قوية على المستوى الوطني وحفرت حضورها عميقا في أداء الجهات الوصية على تزوير الإرادات مضاعفة الارتباك في مراكز الشطط وأطرافه". بالإضافة إلى هدا التعليل، أود أن اعترف بأنني رجل عاشق للجديد وموله بالطرقات غير المعبدة ومهووس بالتأسيس لتقاليد جديدة. وعلى هده الخلفية أصدرت "الاسم المغربي وإرادة التفرد" سنة 2001 الذي اعتبر في حينه أول دراسة سيميائية للاسم الفردي العربي، كما انتهيت قبل أسابيع من وضع اللمسات الأخيرة لكتابي القادم "عندما تتحدث الصورة" وهو بالمناسبة أول سيرة ذاتية مصورة في تاريخ الأدب والفن الإنسانيين، كما ساهمت في وضع الأسس النظرية والإبداعية ل"المدرسة الحائية" مدرسة القصة المغربية الغدوية، بالإضافة إلى الكتاب موضوع هدا اللقاء الصحفي "تاريخ التلاعب بالامتحانات المهنية في المغرب" الذي يبقى بدوره أول "كتاب موقف" يحاكم العقليات المتحكمة في رقبة التعليم بالبلاد. إدريس ولد القابلة: هل التلاعب بالامتحانات المهنية ممارسة مرتبطة بفساد القائمين على الإدارة المغربية، أم أنه آلية من آليات النهج المتبع في تدبير شؤون البلاد عموما؟ محمد سعيد الريحاني: وجهة نظري أن "فلسفة التدبير" هي المتهم الأول في موضوع الخلل الذي يعاني منه القطاع. ففي "سنوات الرصاص"(1961- 1998)، كان التعليم الوطني "معسكرا" لحصر امتداد أنصار المعارضة السياسية السابقة في قطاع شبه وحيد يُسَهِلُ عملية ترويضهم ومعاقبتهم "داخل أسواره". أما في "مرحلة التناوب والتوافق"(1998-...)، فقد صار قطاع التعليم ملحقة سرية تابعة للجلسات غير العلنية ل"هيأة الإنصاف والمصالحة" يحظى دون غيره من القطاعات بتعويض رجال التعليم المنتمين لألوان المعارضة السابقة إداريا وماليا من خلال امتحانات مهنية مشكوك في نزاهتها ومطعون في مصداقيتها. إدريس ولد القابلة: بهذا الخصوص، هل يمكن الحديث عن "الفساد" كمنظومة بالمغرب؟ محمد سعيد الريحاني: "المحاباة وإرضاء الخواطر" بدل الاحتكام لسلطة القانون ومعيار الكفاءة، و"التعيين والانتداب" محل التنافس الديمقراطي والانتخابات الديمقراطية، و"المكافأة من مال الشعب والعقاب بالحرمان من الحق فيه" هي السمة العامة لسير الأمور في البلاد. إدريس ولد القابلة: بتركيز شديد، هل أنتم ضحية للفساد؟ وكيف؟ محمد سعيد الريحاني: أنا ضحية شطط إداري وبدلك فأنا شاهد إثبات على مرحلة من تاريخ التعليم العمومي لا تشرف أحدا. وهدا ما أكسب ولا زال يكسب بيانات أكتوبر السنوية التي أصدرها مند ما يزيد عن خمس سنوات من الصمود (أكتوبر 2004- أكتوبر 2008) "قوة ومصداقية وحصانة". إدريس ولد القابلة: من أين تبدأ "الثورة" على الفساد كمنظومة؟ وعلى عاتق من تقع مسؤولية تفجيرها؟ محمد سعيد الريحاني: "الثورة" كلمة تفهم في كل المعمور بنفس الوقع ونفس الدلالة إلا في البلدان العربية لسبب بسيط وهو أنه لم تحدث ثورة واحدة في التاريخ العربي بعد ثورة المسلمين على الثقافة الوثنية قبل خمسة عشر 15 قرنا. إن "الثورة" تقتضي مشاركة جميع الطبقات الاجتماعية وجميع الفئات المهنية وكل الأعمار والأعراق في عملية التغيير الاجتماعي... وهدا ما لم يحدث أبدا في الثقافة العربية. إن ما حدث، على المستوى العربي، كان مجرد "انقلابات عسكرية" نفدها ضباط قلائل، أو هي كانت "نعرات قبلية" لا ترقى لمستوى "الثورة" التي تشمل جميع مكونات الشعب دون استثناء "مع شبه إجماع على ثقافة محددة". وهدا ما حدث مع "الثورة الفرنسية" و"الثورة الروسية" و"الثورة الإيرانية" وغيرها من الثورات الحقيقية التي لا يتسع مكان بينها لثورة عربية واحدة. إن من يسمي "الانقلاب" العسكري "ثورة شعبية مجيدة" هو نفسه من يسمي "الهزائم النكراء" مجرد "نكسات"... كما أن هدا المعجم الفريد لا يستعمله غير شخص واحد في العالم يرهن شعبا بمعجمه ومزاجه وطرق تفكيره: "الحاكم العربي". ولهدا "الحاكم العربي" سنخصص مجموعتنا القصصية القصيرة القادمة "وراء كل عظيم أقزام". "الثورة"، إذن، هي إرادة التغيير سواء استهدف هدا التغيير المستوى الشمولي أو المستوى القطاعي، المستوى المادي أو المستوى الرمزي ولكنها إرادة يُفْترض فيها أن تشمل الجميع. لدلك، وجوابا على سؤالكم، أقول بأن "الثورة" على الفساد كمنظومة تبدأ ب"إرادة" الثورة على الفساد. أما المسؤولية فتقع على عاتق "الجميع": مثقفين وموظفين وطلبة وعمال وفلاحين ومعطلين... إدريس ولد القابلة: من هم أكبر ضحايا التلاعب بالامتحانات المهنية في المغرب؟ محمد سعيد الريحاني: أكبر ضحايا التلاعب بالامتحانات المهنية في المغرب يبقى هو "الوطن" الذي سيفقد مركزه الجاذب لكل القوى والفعاليات وسيفقد معه مبررات وجوده. إن الخطر الذي يتهدد "الوطن" بعد سنة 1998 هو خطران بصيغة المثنى: الخطر الأول هو خطر تدبير الشأن العام تحت إغراء "فلسفة الحزب الوحيد"، أما الخطر الثاني فيبقى هو خطر تحويل الموظفين بشكل خاص والمواطنين بشكل عام إلى مجتمع من الانتهازيين والوصوليين وعديمي الأخلاق والقيم والحياة، إلى "مجتمع من دُمَى العرائس" يُحَرَكُونَ ب"الأصابع"! إدريس ولد القابلة: ما هي أهم انعكاسات هذا التلاعب؟ محمد سعيد الريحاني: من بين أهم انعكاسات هذا التلاعب بالامتحانات المهنية وبمصائر الموظفين الإدارية والمالية لدى رجال التعليم: تفشي ضعف الثقة بمشاريع الوزارة الوصية على القطاع، تنامي اللامبالاة إزاء الحقوق والواجبات، شيوع اليأس من شعارات التغيير التي رافقت تخريجات "التناوب والتوافق"، وربط ماضي تزوير الانتخابات الجماعية والتشريعية بحاضر تزوير الامتحانات المهنية... إدريس ولد القابلة: كيف ترون إشكالية حملة الشواهد المعطلين؟ وما مآلها في ظل الوضع القائم؟ هل هي ظاهرة عادية أم أن استفحالها مرتبط بمنظومة الفساد التي لازالت قائمة؟ محمد سعيد الريحاني: العطالة ظاهرة عادية عندما تكون اختيارا فرديا. والعطالة ظاهرة عادية عندما تكون معوض عنها. لكن أن يتعدى عدد حملة الشواهد الجامعيين سقف المائة ألف شخص دون تلقي أي تعويض عن وضعيتهم ودون تفكير رسمي جدي في حل أزمتهم، فهدا قد يهدد بطرح أسئلة جديدة قادمة قد تعصف بثوابت "التوافق" وباقي شعارات الميكروفونات وأهم هده الأسئلة: لمادا نحن هنا؟ ومادا ننتظر؟ وعمادا نخاف؟... إدريس ولد القابلة: ماذا تعنون ب "صار التعليم سوقا للاغتناء السريع"، في حين لا ينتج إلا حملة الشواهد المعطلين؟ كيف يمكن إذن الاغتناء عبر توسيع هوامش الإقصاء والتهميش؟ محمد سعيد الريحاني: في بيان أكتوبر السنوي الرابع لسنة 2007 حول التلاعب بنتائج المباريات المهنية في المغرب المعنوان "ملف التعليم وملفات هيأة الإنصاف والمصالحة" والمنشور على صفحات جريدة "الانتهازي" الأسبوعية المغربية المتوقفة عن الصدور على حلقتين، العدد 9 (الخميس 29 نونبر- 5 دجنبر 2007 ) والعدد 10(الخميس 6-12 دجنبر 2007)، نقرأ الجواب في الفقرة التالية: "لقد صار التعليم العمومي سوقا للاغتناء السريع للطابعين والناشرين الدين عبثوا تحت شعار "التعددية" بمقررات مدرسية بلا تعددية ولا جهوية ولا ديموقراطية ولا أي شيء. كما صار التعليم العمومي سوقا لترقية "النقايبية" و"الحزايبية" و"تهريبهم" إداريا عبر "تنجيحهم" في "امتحانات" تقدم للسذج من عوام الناس بأنها "امتحانات مهنية" مفتوحة لعموم الشغيلة التي تتوفر فيها الشروط الإدارية المنصوص عليها!..." إدريس ولد القابلة: ما قصة "الاسم المستعار" الذي يطابق اسمكم؟ وما طبيعة الإساءة التي لحقتكم بهذا الخصوص؟ هل سبق لصاحبه أن كشف لكم عن هويته؟ ثم لماذا يصر على ما يقوم به؟ محمد سعيد الريحاني: "كاتب" هو نص قصصي منشور ضمن مواد مجموعتي القصصية "موسم الهجرة إلى أي مكان" الصادرة في فبراير من سنة 2006وهو ، بالمناسبة، نص يلخص كيفية استقبال "العناكب" لي بعد قراري دخول مغامرة الكتابة. عندما قررت الدخول إلى عالم الكتابة والنشر والتوزيع، لم اعتقد بأن التجربة ستتطلب مني أن أصبح "غلادياتور/gladiateur" أقضي يومي أصارع الوحوش. لم أعتقد في يوم من الأيام بان العالم بأسره سيقف ضدي لمجرد أنني قررت حمل "أخف شيئين" يمكن حملهما دون كبير عناء: ورقة وقلم! فقد تعرضت لأول مرة في حياتي لحادث "اعتداء مسلح" من طرف "ملثمين" في أهم شوارع مدينتي وأعْرَضُها على الإطلاق وتحت الأنوار الساطعة. وعندما تقدمت إلى مصالح الشرطة لتحرير محضر في الموضوع في اليوم الموالي مباشرة للحادثة، اندهشت كثيرا لسير أمر التحرير: فالضابط يبتسم طول الوقت الذي كنت اسرد فيه الواقعة، كما كان يصحح لي معطياتي وتصريحاتي حول ملابسات الجريمة ... وقد كان على حق في كل تصويباته لكنني لم أفهم من أين له بدقائق الأمور في الوقت الذي كان فيه الشارع خاليا من المارة ومن الأمن!... بعد مرور خمس سنوات على الواقعة، لم أتوصل من الشرطة لحد الساعة بأي جواب في موضوع قضيتي، لا بالسلب ولا بالإيجاب. بعد اعتداء المجهولين والملثمين،جاء دور مكشوفي الوجه. وهده رسالة مكتوبة وجهتها إلى أحدهم بمناسبة توصلي بتهديد بعثه لي مع أحد الزملاء من "أقْنَانِ" نقابته: "إلى السيد ب. ب، الكاتب المحلي لنقابة... الموضوع: رد على تهديد بعد التحية تلقيت اليوم زوالا نص التهديد الشفهي بالاعتداء على شخصنا على لسان رسولكم المناضل الأستاذ (ك.ح)، وهو التهديد الذي أثار اندهاشنا لغياب علاقة تواصل أو عمل تحتم ذلك سوى لكون بياننا حول نتائج الامتحان المهني 2004 تعرض للظروف السلبية التي رافقت الامتحان المهني. ولأنني تعرضت مند قراري حمل القلم كسبيل للإسهام في النقد والتنوير الاجتماعيين لسلسلة من الاعتداءات، فإنه لا يمكنني سوى اخذ تهديدكم بعين الاعتبار وبجدية اكبر. ولذلك أشعركم إن أي اعتداء سنكون موضوعه إما من طرفكم شخصيا أو من طرف آخرين: معلومين أو مجهولين، ملثمين أو مكشوفي الوجه سيجعل من اتهامكم هذا مرجعا للاعتداء ومن رسولكم المناضل الأستاذ (ك.ح) شاهد إثبات. كما أنني أحتفظ بنسخة من هذا الرد لليوم الأسود. والسلام." حرر في مدينة القصر الكبير بتاريخ:13 أكتوبر 2004 وبعد دلك جاء دور الإشاعات والحروب النفسية، ثم جاء دور التكالب مباشرة مع انطلاق بيانات أكتوبر السنوية سنة 2004 وهي التفاصيل التي يمكن قراءتها مفصلة في بيان أكتوبر السنوي الثاني ضمن مواد الكتاب الالكتروني المجاني والمتوفر على الإنترنت تحت عنوان "تاريخ التلاعب بالامتحانات المهنية في المغرب". بعد اعتداءات "الملثمين المجهولين" و"النقايْبِيَة"، جاء دور "المثاقفية" وأدعياء الثقافة. لكن رغم تعدد ألوان الاعتداءات، فقد كانت الأصابع واحدة: أصابع السياسي الذي يحرك الجميع ويقتل الجميع ويحيي الجميع. فقد سمعت في وقت جد متأخر سبب كل النار التي لاحقتني ولا زالت تلاحقني: "ما تجيش من عندو!"... لقد كان لهده الكلمة "ما تجيش من عندو!" فعل السحر في فتح تفكيري على آفاق لانهائية لفهم سير الأمور في البلاد. الحقيقة، أنني لم أكن اعرف أنني أمشي على "طابو الطابوهات". وأعترف بأنني لم أكن أعرف أنني أنسف مبرر وجود الإطارات الحزبية والنقابية ودورها الخطير في "تحييد المثقف عن المجتمع" باقتلاع أنياب المجتمع عبر فصله عن المثقف. إن عبارة "ما تجيش من عندو!" تعني "ما تجيش من عند المثقف!". إن الصدر يكون رحبا مع انتقادات "الموظفين" لكنه يصير أضيق عندما يتعلق الأمر ب"المثقفين"... إنهم يرحبون بالبيانات وكل أشكال الاحتجاج لكن شريطة أن تكون مذيلة بتوقيع "الموظف" وليس "المثقف"... إن الاحتجاج عندما يكون موقعا باسم "موظف" أو أسماء"موظفين" يكون "احتجاجا صغيرا قابلا للاحتواء" ولكنه حين يكون موقعا باسم "مثقف" فإن "الاحتجاج لا يمكن التكهن بتبعاته". هدا هو الفرق بين احتجاج "الموظف" و احتجاج"المثقف". وهده هي دلالة "ما تجيش من عندو!". وهدا هو سر "القيامة" التي رافقت "بيانات أكتوبر السنوية" لمدة خمس سنوات (أكتوبر2004- أكتوبر2008). أتساءل: "ما جدوى الثقافة إن لم تكن مساعدة من لا يمتلك ملكة التعبير على التعبير، ومساعدة من لا يجرؤ على قول مواقفه على قولها؟"... "ولمادا هدا التكالب على المجتمع من خلال تحييد المثقف عن جراح مجتمعه وآلام مواطنيه؟" في بحر هده الصراعات، ظهرت أزمة الاسم المستعار الذي يطابق اسمي ويتناول بالنقد المتحيز للمخزن أحداث وأزمات حدثت بمدينتي. لدلك، بادرت إلى تحرير بيان في الموضوع بتاريخ 16 مارس 2008 ووزعته بيدي في الشارع كعادتي مع كل البيانات الأخرى، وهي طريقة سبقني إليها جون بول سارتر الذي كان يوزع بنفسه جريدته "قضية الشعب" كما صرح بدلك في إحدى حواراته لمجلة "الأبله الأممي" الفرنسية عام 1970. بعد دلك، راسلت اليومية المغربية المعنية. خلال هده الأزمة، هرول شخصان من مدينتي، وهما بالمناسبة من رواد المقهى الذي أرتاده عند نهاية الأسبوع، متوجهين إلى مقر الجريدة اليومية المعنية بأمر نشر موادها الصحفية بالاسم المستعار الذي يحيل على هويتي، فوصلا قبل وصول البيان الذي أرسلته بريديا للجريدة وأوقفا نشره وأقنعا هيأة التحرير بالاكتفاء بنشر "مسودتهم" التي حملوها معهم من المقهى وهي بالمناسبة خطاطة طفولية تثير الشفقة من حيث الركاكة والأخطاء ولو أن حجمها لا يتعدى خمسة أسطر من مساحة ورقة من القطع الكبير. ولأنهما لا يعرفان عن العالم غير المقهى ولا يفكران سوى في القهوة والمقهى فقد أكدا في "الكلمة" التي نشراها على صفحات الجريدة اليومية المغربية المعنية بالأزمة على أن الاسم غير مستعار وأنه اسم حقيقي لصحفي من دم ولحم وطلبوا مني التأكد من الأمر بالحج إلى مقر الجريدة ل... شرب فنجان قهوة معه. هوس المهرولين الاثنين بالقهوة والمقهى، يذكرني بحديث سائح فرنسي التقيته سابقا. فقد تحدث لي هدا السائح عن تصور العامة من الناس ل"الجنة" وخلص إلى أن بيئة الناس وما يحيط بهم من علاقات وملكيات وملذات ومتع هي ذات الصورة التي يعكسونها وهم يتحدثون عن "الجنة" بحيث يتصور الصحراوي الجنة واحة خضراء تتدلى فوقها أصناف البلح بألوانه الشهية، ويتصورها الإسكيمو فضاء جليديا يعج بالفقمة والبطريق، بينما يتصورها قزم الأدغال الإفريقية غابة من المانغا والأفوكا والموز... ترى كيف يتصور المهرولان "الجنة"؟ أتراها في عينيهما مجرد فناجين قهوة أيضا؟... إدريس ولد القابلة: باختصار شديد، كيف يمكنكم تقييم المنظومة التعليمية ببلادنا؟ محمد سعيد الريحاني: تقرير البنك الدولي للتنمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تقرير مؤسسي يعتمد أدوات لا يمكن توفرها للأفراد وهو، في تقييمه السنوي للمنظومة التعليمية ببلادنا، يصنف تعليمنا الوطني في "ذيل" القائمة الدولية. وعلى إثر هدا الإعلان، "تفاجأ" القيمون على القطاع، كما تفاجأ ساسة عام 1994 بتقرير صندوق النقد الدولي الشهير ب"تقرير السكتة القلبية"، بهول الصدمة فسارعوا إلى إلصاق التهمة بالموظفين في قطاع التدريس وكان الموظفين "خصوما" لا "أدوات تنفيذية" في يد وزارة التعليم... إدريس ولد القابلة: كيف يمكن وصف الأستاذ ب "صانع الأجيال" والأغلبية الساحقة من التلاميذ يكون مآلهم عرض أجسامهم للهراوات الأمنية أمام البرلمان ومنظومتنا التعليمية تساهم في توسيع دوائر الاقتصاد والتهميش؟ محمد سعيد الريحاني: هده مجرد أسطورة. الأستاذ لا يمكنه صناعة جيل لوحده. كلنا صناع جيل الغد وكلنا نساهم في صناعة أجيال الغد: صحفيين وأدباء وفنانين ومفكرين ورياضيين وعلماء... ولكن حين يتم، على أعلى المستويات، التواطؤ على تهجير أبناء الوطن من العلماء إلى الخارج والتخلي عن الحق في الاستفادة منهم ومن خبراتهم، وحين يتم تغييب الكُتاب عن المقررات الرسمية وعن التواصل مع النشء، وحين يتم التضييق على حرية الصحافة للحد من نفوذها على الرأي العام، وحين يتم تكميم أفواه الفنانين الأحرار وحرمانهم من الظهور على الشاشة العمومية... بعد كل هدا، مادا بإمكان الأستاذ أن يصنع من الأجساد المصطفة أمامه في طاولات خشبية بين جدران قسم بلا صور ولا خرائط ولا وسائل إيضاح؟... إدريس ولد القابلة: اعتبارا لما وصلت إليه الآن منظومة التعليم، ألا تعتبرون أن من واجب رجال التعليم الأحرار إعلان "ثورة" من داخل هذه المنظومة؟ محمد سعيد الريحاني: رجل التعليم هو "موظف" وليس "مثقفا". إنه يتكون في مراكز التكوين ليتخرج "موظفا" وعند نهاية التكوين ينال دبلوما يخول له دخول عالم "الوظيفة" (على اعتبار أن "الدبلوم"، من الناحية القانونية، يُشَغلُ حاملَهُ بينما "الشهادة" تبقى مجرد اعتراف لا يملك صلاحيات تشغيل حامله). ولأن رجل التعليم هو "موظف"، أولا وقبل كل شيء، فقد صار تابعا "للنقابة المهنية" ، لا تابعا لقطاع الثقافة والمثقفين. وما دامت النقابة مجرد "واجهة عمالية" للحزب السياسي المنخرط حتى العنق في "التوافقات والتناوبات"، فلا يمكن التفاؤل بخلاص الموظف من القبضات السياسية/النقابية الممسكة برقبته. إدريس ولد القابلة: بكل صراحة، هل منظومتنا تنتج "جهلة" و "أميين" بمفهوم الأمية في القرن 21 ؟ محمد سعيد الريحاني: الأُمية أُمِيَاتٌ لا حصر لها وتتطلب من المرء العمل، طول حياته، على إنضاج شخصيته ومعارفه وقدراته ومهاراته وأذواقه... لكنني سأحدد من بين كل هده المستويات اللانهائية من الأمية ثلاثة فقط لكونها الأهم في سلم الأسبقيات. المستوى الأول من الأمية هو الأمية الأبجدية وينعت بها العاجزون عن القراءة الأبجدية والكتابة الأبجدية. التقارير الدولية للتنمية البشرية تعتمد حصريا على هدا المستوى من الأمية دون غيره. والمغرب، بعد أزيد من خمسين عاما على نيل الاستقلال، لا زال أزيد من نصف سكانه أميون بالمعنى الأبجدي الأولي... المستوى الثاني من الأمية هو أحادية اللغة وينعت بها من تلقوا تعليمهم وتكوينهم بلغة واحدة وحيدة. وجيل ما بعد قرار تعريب التعليم في المدرسة العمومية المغربية سنة 1986 جيل مهدد بالانضواء تحت هدا الصنف من الأمية، بطلبته وأساتذته. المستوى الثالث من الأمية هو الأمية المعلوماتية وهي أمية جديدة لكونها، حسب إحصائيات رسمية، تشمل حتى المُدَرسِينَ وَالقَيمِينَ على دروس ومخططات مَحْوِ الأُمِيَاتِ الدَُنْيَا الأُُخْرى!... إدريس ولد القابلة: مادا تعنون ب "موت الشفافية" بالمغرب؟ محمد سعيد الريحاني: الموت والنهايات هي أهم سمات فلسفة "ما بعد الحداثة": "موت الإنسان" ، "موت المؤلف"، "موت الزعيم"، "موت الإيديولوجيا"، "نهاية التاريخ"...ولكم اندهشت لسماع "عناكب" النقابات والأحزاب تتبنى خطاب "ما بعد الحداثة"!ولكم حيرني اكتشاف "عناكب" النقابات والأحزاب التي تعيش حياتها "مختفية" في انتظار الانتخابات بعد الانتخابات معتمدة، خلال مدة تخفيها، على ما ستجود عليها شباكها من طرائد، وهي تبشر بموت "العمل" وبحياة "اللعب"! فتراها تغير ثوابتها ومبادئها لمواكبة التطورات، وتؤيد قوانين الطوارئ بحجة الإرهاب والخطر الخارجي ثم تفتح، عند الفشل والهزيمة، إمكانية العودة إلى خطاب المعارضة للتقرب من الجماهير... "موت الشفافية" يقابله "ميلاد اللعب" بكل أشكاله بما في دلك "اللعب بمصائر الناس". إدريس ولد القابلة: وماذا عن "موت السياسي"؟ محمد سعيد الريحاني: "موت السياسي" هو استعداد لوضع الذات الحزبية ،فردية أو جمعية، رهن إشارة قوة تتجاوزها بحيث يصبح الفاعل السياسي مجرد "لاعب" ويصبح معه الإطار السياسي مجرد "أيقونة" بينما يبقى الفاعل الحقيق والوحيد هو "المخزن". وربما كان هدا هو التصور العام لدى المغاربة عن الفعل السياسي والحزبي بالبلاد بعد 1998، سنة "التناوب والتوافق"، وما العزوف عن المشاركة في الانتخابات إلا دليل على دلك.