كان هذا الكاتب من أول من احتفوا بالتحول الديمقراطي الذي بدأ منذ سنتين في موريتانيا. وحتى الشارع المصري، خرج إلى ميدان التحرير، أكبر ميادين القاهرة يهتف هتافاً مسجوعاً، هو: «موريتانيا... موريتانيا... إحنا معاكي... ثانية ب ثانية»، وكان الهتاف يعكس إعجاباً بالتجربة الموريتانية في الانتقال السلمي من الدكتاتورية العسكرية إلى الديمقراطية التعددية، ولكنه كان يعبّر أيضاً عن الحسرة من الجمود الاستبدادي الطويل في وطنهم مصر. ثم أجريت الانتخابات على المستويات المحلية والوطنية والرئاسية، وتحت رقابة عربية وإفريقية وأوروبية. لقد كان مشهداً عربياً فريداً، في محيط من الدكتاتوريات، الممتدة من المحيط إلى الخليج. وأصبحت موريتانيا، البلد العربي الإفريقي المسلم الفقير، هو سندريلا الديمقراطية، ولو إلى حين. وللتذكير، كان عدد من شباب ضباط الجيش الموريتاني، بقيادة العقيد اعلي محمد ولد فال، قد قاموا بانقلاب أبيض على نظام معاوية ولد سيد أحمد طايع الذي كان واحداً في سلسلة مشابهة من الدكتاتوريات العسكرية، في يوليو 2005، ووعدوا بأن يجروا انتخابات حرة نزيهة، في ظل رقابة دولية، خلال ستة عشر شهراً، كذلك وعد هؤلاء الضباط بألا يرشح أي منهم نفسه في تلك الانتخابات. وأدهش الموريتانيون عوالمهم العربية والإفريقية والإسلامية، بحفظ الوعدين. فعُقدت الانتخابات في موعدها، باليوم والساعة، كما امتنع الضباط جميعاً عن الترشيح لأي منصب في تلك الانتخابات. وكما احتفى المصريون بالتجربة الديمقراطية الوليدة في موريتانيا، وفعل القطريون والنشطاء العرب التواقون والمتطلعون إلى التغيير والإصلاح نفس الشيء. ففي المؤتمر التأسيسي الأول للمؤسسة العربية للديمقراطية في الدوحة (27-29 مايو 2007) دعوا العقيد محمد ولد فال، العسكري الذي صدق وعده، إلى الانضمام إلى أمناء مؤسستهم الوليدة أيضاً، وكرّمه الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، حاكم قطر، بمنحه هو وعسكري سوداني سابق، كان قد فعل نفس الشيء عام 1985، عبد الرحمن سوار الذهب، أعلى النياشين القطرية. وكما انتكست تجربة السودان الديمقراطية عام 1989، بعد انقلاب عسكري قاده العقيد عمر البشير، فإنه يبدو أن تجربة موريتانيا قد انتكست أيضاً بانقلاب عسكري مشابه في مطلع شهر أغسطس عام 2008، وبعد ستة عشر شهراً فقط، قاده العقيد محمد ولد عبد العزيز، الذي قام بخلع الرئيس المنتخب، وهو محمد ولد الشيخ عبد الله. ويطرح ما حدث في موريتانيا والسودان، وقبلهما في سوريا (1949)، ومصر (1952)، والعراق (1958)، واليمن (1962)، والجزائر (1966)، وليبيا (1969)، والصومال (1976)، وتونس (1989)، أسئلة عديدة عن العرب وثقافتهم، وعن موقع العسكريين ودورهم السياسي في مجتمعاتهم المعاصرة. وما هي مسؤولية السياسيين المدنيين في هذه الانتكاسات الديمقراطية؟ فهل، كما قال الشاعر العربي، «سيظل السيف أمضى قولاً من القلم»!؟ وهل هناك دور للقوى والعوامل الخارجية في هذا القفز المستمر للعسكريين العرب على السلطة في نصف بلداننا العربية على الأقل؟ وماذا عن النصف الآخر من بلداننا العربية، وكيف تجنب مثل هذه الانقلابات العسكرية؟ ثم قبل هذا وبعده، كيف كان أداء العسكريين العرب في السلطة؟ هل أساؤوا أو أحسنوا مقارنة بالمدنيين في السلطة؟ لا أدعي أن لدي إجابات شافية عن هذه الأسئلة، التي هي جديرة بحوارات عربية واسعة، يشارك فيها كل من يهمه مستقبل شعوب هذه الأمة، من المحيط إلى الخليج. وسأقدم، أنا، في هذا الصدد اجتهادات أولية، علها تشجع آخرين على مواصلة الحوار وتعميقه. * الاجتهاد الأول، عن تقسيم العمل الاجتماعي. فكلما تطورت المجتمعات فإنها تنحو إلى مزيد من التخصص في توزيع الأدوار الاجتماعية المهنية بين أبنائها ومؤسساتها، ومن ذلك أنها خلقت مؤسسة عسكرية، وظيفتها الأساسية حماية التراب الوطني، أي الدفاع عن أرض الوطن على حدوده مع أوطان أخرى مجاورة. وبنفس المنطق التخصصي أنشأت المجتمعات مؤسسة أمنية (شرطية بوليسية) للحفاظ على الأمن الداخلي واحترام القانون. واستمراراً مع نفس المنطق التخصصي في تقسيم العمل الاجتماعي، استحدثت مؤسسات تشريعية وقضائية وتنفيذية، ومؤسسات خدمية وإنتاجية عديدة ومتكاثرة. المهم لموضوعنا، أن ممارسة السلطة، أي حُكم البلاد، ليس من اختصاص العسكريين، كما أنه ليس من اختصاص الشرطة، أو رجال الدين، أو رجال الأعمال. ومع ذلك فكما رأينا، فإن العسكريين في نصف بلداننا العربية يحكمون، وقد استمر واستمرأ بعضهم ذلك لما يقرب من أربعين عاماً، كما في ليبيا القذافية. وحينما يقفز العسكريون للاستيلاء على السلطة، واغتصابها من المدنيين، فإنهم يبررون ذلك، عادة في البيان رقم (1) صبيحة يوم الانقلاب. وكانت المبررات عادة في الدول الشرقية هي «إما غسل عار الهزيمة (1948) واسترجاع فلسطين، أو إنقاذ البلاد من الفوضى أو الاستبداد أو الفساد». وقد استعار العسكريون في الدول المغاربية، ومنها موريتانيا، بعض هذه المبررات. * الاجتهاد الثاني، حول مسؤولية المدنيين في إعطاء الفرصة للعسكريين للانقضاض على السلطة. وفي ذلك يلاحظ أن انقسام السياسيين المدنيين على أنفسهم في السلطتين التشريعية والتنفيذية، مما يؤخر أو يُعطل اتخاذ القرارات، أو يؤثر سلباً على مصالح الناس أو على الأداء الاقتصادي للبلاد، هو ما يعطي الأعذار للمتربصين بالديمقراطية. وشيء قريب من ذلك هو الذي أعطى العسكريين مبرر انقلابهم على الحكومة المدنية المنتخبة شرعياً في موريتانيا. * الاجتهاد الثالث، حول طموحات العسكريين في السلطة، إن الطموح للمشاركة في السلطة أمر مشروع لكل المواطنين، بما في ذلك العسكريين. ولكن المشاركة في السلطة شيء تحكمه قواعد وقوانين وأعراف، بنصوص دستورية، والاستيلاء على السلطة باستخدام الجيش في غير وظيفته، فهو شيء آخر تماماً. وهو ما أصبح مستهجناً في مطلع القرن الحادي والعشرين، وحيث أصبح الحكم الديمقراطي المدني هو القاعدة المقبولة عالمياً، فمعظم دول العالم الآن (110 من 180) تحكمها أنظمة منتخبة ديمقراطياً. وللأسف فإن معظم الدول غير الديمقراطية (70 دولة) في العالم اليوم هي دول عربية وإسلامية وإفريقية، تحكمها دكتاتوريات عسكرية. * الاجتهاد الرابع، هو لماذا يكره معظم الناس حُكم العسكر؟ لأنهم حتى لو بدؤوا بداية طيبة، إلا أنهم بسبب تنشأتهم في المؤسسة العسكرية، فإن القيمة الأساسية عندهم هي «السيطرة»، والمعايير الحاكمة هي «الطاعة والضبط والربط». وفي هذا السياق لا مجال للنقاش، والأخذ والعطاء، والتي هي معايير العمل السياسي. وبالتالي، فإن حُكم العسكر لا يسمح بالرأي والرأي الآخر، أو بالتصويت، والأخذ برأي الأغلبية. وهم يعتبرون ذلك «مضيعة للوقت، وطريق للفوضى» «وعدم الإنجاز»، أي أن العسكر يحكمون ب»الأوامر» وليس بالقانون، ويديرون الاقتصاد بالأوامر لا طبقاً لقواعد السوق: العرض والطلب، ويديرون المجتمع بالأوامر وليس من خلال تنظيماته المدنية، وحتى القضاء، يحاولون إدارته بمحاكم عسكرية، أو أمن دولة، أو طوارئ. وفي الأجل القصير قد يكون هذا مقبولا، ولكن في الأجلين المتوسط والطويل، فإنه يؤدي إلى الاستبداد. ولغياب الرقابة والمُساءلة، فإن هذا الاستبداد يؤدي إلى الفساد. والاستبداد والفساد معاً، وكما قال ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع منذ سبعة قرون، يؤديان إلى خراب العمران. * الاجتهاد الخامس، هل هناك من سبيل لتفادي هذا كله؟ نعم، هناك أكثر من سبيل. ففي البلدان الديمقراطية العريقة، يتعلم العسكريون منذ البداية فضائل التركيز فقط على واجباتهم الدفاعية في حماية الوطن، وفضيلة الخضوع للسلطة المدنية المنتخبة. ومن يرغب من أفراد تلك المؤسسة العمل في السياسة، فعليه أن يترك المؤسسة العسكرية ويخلع زيه العسكري، ويمارس العمل السياسي كبقية عباد الله المدنيين. وفي بلدان أخرى، مازالت في طور استكمال ديمقراطيتها، مثل تركيا، فإن الدور السياسي للمؤسسة العسكرية قد تم تقنينه دستورياً، من حيث التدخل في أمور الحكم فقط، لحماية الدستور والدولة المدنية، أي منع رجال الدين، أو من يدّعون الحديث باسم الدين، من الوصول إلى الحكم. وفي الواقع السياسي التركي فقد أصبح الجيش سلطة رابعة تشارك السلطات الثلاث الأخرى (التشريعية والتنفيذية والقضائية) في الشأن العام، ولكن بلا استئثار أو احتكار. فهل يمكن لبلادنا العربية أن تسلك نفس النهج التركي؟ لقد أدانت منظمة الوحدة الإفريقية، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، الانقلاب في موريتانيا، وهذه سابقة ربما تكبح جماح العسكريين العرب مستقبلاً. وللحوار بقية.