بعد أن استفحلت الأزمة بين الرئيس الموريتاني السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، ومجموعة من النواب المطالبين ببعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية العاجلة، وحين وصلت الأمور عنق الزجاجة، تحركت القوات المسلحة الموريتانية، صبيحة السادس من غشت 2008، لتصحيح المسار، وتغيير رأس النظام، الذي يعتقد معارضوه أنه انحرف عن المسار الصحيح. هذا الحدث، وإن كان مفاجئا للجهات الدولية والعالمية، فإنه بدا مستساغا ومتوقعا في الداخل، وذلك لأسباب عديدة، ومؤشرات كثيرة. فبعد استقالة أول حكومة في عهد الرئيس السابق، شعر المراقبون بحالة الاحتقان، التي بدأت ترخي بظلالها على العلاقة بين الحكم ومعارضيه، حين ضمت ثاني حكومة في عهد ولد الشيخ عبد الله، بعض العناصر المعروفة بأنها من رموز الفساد، كما لم تراع تلك التشكيلة التوازنات السياسية في البلد، ولم تستجب لطموحات الأغلبية التي أوصلت ولد الشيخ عبد الله إلى هرم السلطة. ثم إن البلد، حسب المتتبعين، أصبح يعيش أزمة خانقة، منذ الأيام الأولى لوصول ولد الشيخ عبد الله إلى السلطة، فقد انهار الأمن، وشهدت موريتانيا أحداثا قاسية لم تشهد لها مثيلا منذ الاستقلال، حيث استطاعت الجماعات الإرهابية أن تتقوى وتزداد شوكتها حدة وقوة، فانقضت على مجموعة من السياح الفرنسيين في عمق المنطقة التي ينحدر منها الرئيس السابق. وتوالت صولات وجولات هذه الجماعة في طول البلاد وعرضها قتلا وتنكيلا، حيث اغتالت جنودا موريتانيين في حامية عسكرية قرب مدينة أطار، وتم الاستيلاء على مبالغ مالية كبيرة استخدمت لتنفيذ هجمات إرهابية ضد الأبرياء. وهو ما أدى إلى احتقان أمني حقيقي، دخلت بسببه قوات الأمن الموريتانية في مواجهات مباشرة مع الجماعة السلفية، مما أدى إلى سقوط قتلى في صفوف قوات الأمن، التي استطاعت بعد معارك شرسة إلقاء القبض على قادة المجموعة. ورغم أن ولد الشيخ عبد الله وعد بإصلاحات اجتماعية كثيرة، فإن الأيام الأولى بعد تنصيبه شهدت ارتفاعا مذهلا لأسعار المواد الغذائية، وأسعار المحروقات، وشح الماء وارتفاع سعر الكهرباء، فانطلقت المظاهرات المنددة من عمق المنطقة الشرقية التي تأثرت أيما تأثر بالارتفاع الصاروخي للأسعار، وفي هذه المواجهة سقط مواطنون بين قتلى وجرحى. ولم تفتأ تلك المظاهرات تستفحل حتى شملت معظم مناطق البلاد، والعاصمة نواكشوط، مما اضطر نظام ولد الشيخ عبد الله إلى اتخاذ إجراءات يواجه بها موجة الغضب العارمة، فتم إطلاق خطة استعجالية للتخفيف من وطأة الأزمة الاجتماعية المتصاعدة، وأعلن عن زيادة 10 في المائة على رواتب الموظفين، ولكن كل هذه الإجراءات، لم تنفذ في غالبيتها، ولم تسهم في تغيير الوضع. وعلى المستوى الاقتصادي، ظلت الوعود التي أعلنها الرئيس السابق ولد الشيخ عبد الله في برنامجه الانتخابي، معطلة دون تنفيذ، فلم يسجل أي تطور اقتصادي ولا تنموي، وظل الاقتصاد الموريتاني يعاني اختلالات هيكلية عميقة، وظل سوء التسيير منتشرا، يرافقه نهب منظم للمال العام، وممتلكات الدولة، من طرف المحيطين بولد الشيخ عبد الله، وبعض مقربيه الذين أوغلوا في استخدام النفوذ لكسب المزيد من المنافع، وجمع الأموال. وفي ظل هذا الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتأزم، اشتعلت الأزمة السياسية، بين الرئيس السابق ومجموعة البرلمانيين، لتدشن مرحلة من التوتر وعدم الاستقرار. في البداية، طالبت مجموعة من نواب الجمعية الوطنية، بحجب الثقة عن ثاني حكومة في عهد ولد الشيخ عبد الله، بحجة أنها تضم عناصر من رموز الفساد، وأنها لا تستجيب لإرادة الأغلبية التي أوصلته إلى السلطة، وقد أثار هذا التحرك حفيظة الرئيس السابق، مما دفعه إلى الوقوف بشدة ضد البرلمانيين المطالبين بحجب الثقة، رغم أن جميع المراقبين رأوا في تحركهم ممارسة ديمقراطية سليمة، ومظهرا صحيا من مظاهر العمل الدستوري في بلد ديمقراطي. وبعد شد وجذب، ووعد ووعيد، أمر ولد الشيخ عبد الله بإقالة الحكومة، ليكلف بعد جولات من المفاوضات، نفس الوزير الأول السابق بتشكيل حكومة جديدة، فظهرت حكومة من رحم نفس الحكومة السابقة، لم تستجب لشروط النواب ولم تحمل أي تغيير. وبعد أيام، طلب النواب انعقاد دورة برلمانية جديدة، لمناقشة بعض الأمور وتشكيل محكمة العدل السامية التي ظل قرار تشكيلها معطلا، ولكن ولد الشيخ عبد الله وقف بشدة ضد هذا القرار، ورفضت حكومته طلبين للنواب بانعقاد تلك الدورة، مما دفع بمجموعة برلمانية كبيرة من غرفتي البرلمان (48 نائبا) إلى الاستقالة من حزب «عادل»، الذي شكله الرئيس السابق، خارجا بذلك عن مسطرة الدستور التي تحرم على رئيس الجمهورية تولي أي منصب سام في حزب سياسي. وبهذا القرار، تصاعدت الأزمة، وشعر ولد الشيخ عبد الله بالخطر الداهم، خصوصا أن البرلمانيين هددوا بمساءلته ومساءلة زوجته بتهمة الاستيلاء على المال العام. وحين شعر الرئيس السابق بأن المواجهة خرجت عن السيطرة، وأن مناوئيه ضيقوا عليه الخناق، أقدم على قرار كارثي، إذ أصدر في وقت متأخر من ليلة الأربعاء 6 غشت مرسوما بإقالة أربعة ضباط، يعتبرون، من خيرة قادة الجيش على رأسهم الجنرال محمد ولد عبد العزيز، قائد الأركان الخاصة حينها، والجنرال محمد ولد الغزواني القائد العام لأركان الجيش الوطني. وفي رد سريع، سيطر القادة العسكريون بشكل كامل على الأماكن الحساسة في العاصمة نواكشوط، وأعلنوا إزاحة ولد الشيخ عبد الله، وتشكيل مجلس أعلى للدولة برئاسة الجنرال محمد ولد عبد العزيز. هذه الأحداث المتسارعة، أدهشت الشارع الموريتاني، والدوائر العالمية المتابعة للساحة الموريتانية، ولم يكن الانقلاب على ولد الشيخ عبد الله، أكبر مفاجأة، من إقدام هذا الأخير على إقالة قادة الجيش، بعد أن صرح قبل خمسة أيام فقط، في برنامج لقاء خاص على قناة الجزيرة، بأنه يثق فيهم كل الثقة، وأنهم من خيرة الضباط الموريتانيين، وأنهم دعموه خلال الحملة الرئاسية التي أوصلته إلى السلطة، فلماذا أقدم ولد الشيخ عبد الله على إقالة شركائه في الحكم، ومن أعانوه على تحقيق أكبر مكسب في حياته؟ لماذا أقدم على إزاحة ضباط أقر هو نفسه بأنهم يمسكون بالملف الأمني والعسكري، وأنه منحهم ثقته الكاملة وعينهم في المناصب الحساسة؟ إذا كانت الإجابة عن هذه الأسئلة تبدو من الصعوبة بمكان، بسبب عدم وضوح الرؤية حول تشابكات الحدث، فإن القراءة المتأنية قد تعين على فهم دوافع الرئيس السابق في الإقدام على ذلك التصرف الذي لم يكن موفقا ولا واردا. فلا يخفى أن ولد الشيخ عبد الله، حاول في الآونة الأخيرة الابتعاد عن الذي أوصلوه إلى السلطة، سواء الجماعات السياسية المدنية التي دعمته، أو القادة العسكريين في المؤسسة العسكرية التي تتولى مهمة صعبة هي مهمة الدفاع عن الوطن والمكتسبات الديمقراطية والدستورية، وقد كان يسعى من خلال ذلك إلى الاستئثار بالسلطة والتحكم بشكل كلي في مفاصل الدولة بجميع مؤسساتها، وهو مدفوع في ذلك بتوجيهات بعض المقربين، وبعض الجهات السياسية الساعية إلى خلق موطئ قدم في المؤسسة الرئاسية، وهي المجموعات التي دفعت ولد الشيخ عبد الله إلى ارتكاب أخطاء كبيرة، سياسية ودبلوماسية، تسببت في توتير العلاقة مع جيران وأصدقاء موريتانيا. وأيا كانت الأسباب والدوافع لما حدث في موريتانيا يوم السادس من غشت 2008، فإنه شكل نقطة تحول كبرى في تاريخ موريتانيا، ودشن مرحلة جديدة سيكون لها ما بعدها، وقد قوبل تغيير السادس من غشت ببعض الرفض في الدوائر الدولية الغربية، في حين أنه لاقى تأييدا جماهيريا واسعا في الداخل، إذ خرج المواطنون الموريتانيون بجميع فئاتهم تأييدا له، في مسيرات شملت العاصمة نواكشوط وكل المدن الداخلية. وعلى المستوى الإقليمي، بادر قادة تغيير السادس من غشت بفتح قنوات الاتصال المباشر مع أهم جيران موريتانيا وشركائها، حيث التقى المبعوث المغربي محمد ياسين المنصوري، وهو أحد القادة الأمنيين الكبار ورجل ثقة العاهل المغربي الملك محمد السادس، الاثنين 11 غشت 2008، برئيس المجلس الأعلى للدولة الجنرال محمد ولد عبد العزيز، ولم يتسرب أي شيء عن فحوى المحادثات، بيد أن بعض المصادر أكدت أن هذا اللقاء جاء في سياق انشغال المملكة المغربية بالتطورات الحاصلة في موريتانيا. وقد حققت الدبلوماسية المغربية إنجازا كبيرا، كان له أثر إيجابي في الأوساط الشعبية والسياسية في موريتانيا، حين تدخلت لإطلاق سراح المعتقلين على خلفية تغيير السادس من غشت، ومن بينهم رئيس الحكومة يحيى ولد الواقف، ومحمد ولد ارزيزيم وزير الداخلية، وأحمد ولد سيدي بابه رئيس المجلس الاجتماعي والاقتصادي، وموسى افال رئيس المفوضية المكلفة بملف العائدين من السنغال. وهذا يوضح إرادة القادة الجدد في موريتانيا في توطيد العلاقة مع المملكة المغربية، استجابة لرغبة الشعب الموريتاني، وسعيا إلى تحقيق الكثير من المصالح الاقتصادية والدبلوماسية لموريتانيا عبر البوابة المغربية، بعد أن فشل ولد الشيخ عبد الله في ذلك، حين ترك الملف الدبلوماسي بين يدي العابثين، الذين لعب بعضهم بالعلاقات القوية بين موريتانيا والمملكة المغربية، حين استعان ببعض رموز عصابات البوليساريو في بعض المسائل الدبلوماسية، وسعى إلى التقرب من تلك العصابة، ضاربا عرض الحائط بالعلاقات الأخوية بين موريتانيا والمملكة المغربية، دون اعتبار لموقف فئات عريضة من الشعب الموريتاني. وخلاصة القول أنه مهما ألقينا باللوم على قادة العملية التصحيحية في موريتانيا، لأن الالتفاف على السلطة بالقوة لن يكون حلا ناجعا في كل الأحوال، إلا أن إقدام الرئيس المخلوع على عزل النافذين في الجيش، وهو يعرف مكانتهم وقوتهم وتغلغلهم في أجهزة الدولة، جعل هذا القرار عملية انتحارية بالنسبة إلى الرئيس السابق، لأن قادة الجيش لن يقبلوا تحت ذريعة ممارسة الرئيس لاختصاصاته الدستورية قرار إعفائهم، وهم من ضحى بالغالي والنفيس من أجل إقامة هذا النظام الذي يعرف الجميع أنه من صنع أيديهم... إن العودة إلى الشرعية كان سيكون حلا مثاليا في ظروف أخرى غير التي آلت إليها الأمور في موريتانيا، مما أصبح يجعل من وقوف المجتمع الدولي في وجه قادة العملية التصحيحية أمرا معاكسا لرغبة غالبية الموريتانيين الذين يدعمون ما يسمونه بالعملية التصحيحية، بما في ذلك أكبر تكتل للمعارضة السابقة، التي حصل رئيسها أحمد ولد داداه على حوالي 48 في المائة من أصوات الناخبين، إلى جانب الأغلبية في البرلمان «رغم نشوز رئيسه»، وأغلبية العمد الذين باركوا العملية التصحيحية إلى جانب النقابات والغرف المهنية... فالموقف المعلن، إلى حد الآن، من قبل كبريات القوى العالمية ليس حلا ناجعا، لأن ذلك لن يأتي بنتيجة لصالح الديمقراطية في موريتانيا، ولن يرد في كل الأحوال الرئيس المخلوع إلى دفة الحكم... الحل أن يظهر القادة الجدد حسن نيتهم في تفعيل المؤسسات المنتخبة القائمة، وإعطاءها جدولا زمنيا دقيقا لإجراء انتخابات شفافة ونزيهة للرجوع إلى الشرعية الدولية بإجراء انتخابات رئاسية شفافة بحضور مراقبين دوليين، توصل إلى دفة الحكم رئيسا حكيما له خبرة واسعة وسعة نظر، يستطيع إرضاء كل الأطراف المتصارعة عسكريين ومدنيين، والتي لا يبحث كل واحد منها إلا عن قضاء مآربه الشخصية، أما المصلحة العامة فمازال رجالها لم يظهروا على الساحة السياسية في القطر الموريتاني الشقيق...