أصدر المجلس العلمي الأعلى أول أمس بيانا بشأن الإصلاحات الدستورية، أكد فيه أن التغيير «يجب أن يكون نابعا من تمثل جيد لحاجة المجتمع وانتظاراته، ومن جملة هذا التمثل معرفة ما هو صالح أو ضروري تنبغي المحافظة عليه»، وأعرب علماء المجلس عن اعتزازهم واطمئنانهم «لإعلان أمير المؤمنين أن كل الإصلاحات المرتقبة ستأتي متوافقة مع ثوابت الأمة المتعلقة بالدين وإمارة المؤمنين»، كما أيدوا الإصلاحات التي أعلن عنها الملك محمد السادس في خطاب 9 مارس الذي وصفه البيان بالخطاب التاريخي، وأشادوا بروح التبصر والإقدام «اللذين يميزان الإمامة العظمى بالمغرب كلما تطلب الأمر اتخاذ القرارات التي تحفظ للأمة ثوابتها وتتجاوب مع طموحها إلى مزيد من الكرامة والعزة والإنصاف». وتطلب البيان اجتماعات استمرت ثلاثة أيام بين الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى محمد يسف ورؤساء المجالس العلمية المحلية، الذين تم استدعاؤهم على عجل يوم السبت الماضي من طرف وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق، للتداول بشأن إصدار بيان حول موضوع الإصلاحات الدستورية، وذلك بهدف تأكيد حضور العلماء في هذا التحول الذي يشهده المغرب، وللرد على بعض الأصوات من داخل حركة التوحيد والإصلاح وذراعها السياسي حزب العدالة والتنمية التي انتقدت «تغييب» العلماء من لجنة الإصلاحات الدستورية التي عينها الملك مباشرة بعد خطاب التاسع من مارس، وهو الانتقاد الذي أظهر أن صوت العلماء غائب وأن هناك أطرافا تريد الحديث نيابة عنه. وقد تضمن البيان عدة رسائل سياسية، إذ الواضح أنه كتب بنفس سياسي غير مسبوق في البيانات السابقة للمجلس العلمي الأعلى، ويرجع ذلك إلى الظرفية السياسية الحالية التي تجتازها البلاد وتزايد حدة الرهانات بشأن الإصلاحات والتغييرات المنتظرة في بنية الدولة. أولى هذه الرسائل، التي يبدو أنها موجهة إلى اللجنة الخاصة بالتعديلات الدستورية التي شرعت منذ الاثنين الماضي في الاستماع إلى مقترحات الأحزاب وباقي الهيئات، وتتعلق بالإلحاح على وزن العلماء في المغرب وعلى كونهم رقما لا يستهان بهم في معادلة الإصلاح في البلاد، حيث أكد البيان أن العلماء «من القوى المؤثرة في المجتمع ماضيا وحاضرا»، وهذه أول مرة يتم فيها التأكيد على هذا الأمر، وحدد البيان دور العلماء في ثلاث مهام، هي التبليغ والإرشاد والتوجيه، كما سجل أن العلماء ليسوا خارج هندسة التغيير المقبل بل يتوفرون على سلطة رقابية بسبب كونهم شهودا «أمام الله وأمام الناس على ما يجري حولهم»، وأنهم بحضورهم الطبيعي في الضمير الاجتماعي «يمارسون رقابة دائمة على أنفسهم أولا وعلى أحوال غيرهم ثانيا فيستحسنون ما يجب أن يستحسن ويستنكرون بأسلوبهم التربوي ما يجب أن يستنكر»، لكنهم رهنوا عملية التقبيح والتحسين أو الإنكار بالمنهج التربوي، لكن البيان، في فقرة تالية، اتسم بطابع التحدي حين قال بأن العلماء «لم يكونوا يوما من الذين هم على كل بياض يوقعون، وإنما هم ملتزمون بالنهج الذي هم به مطالبون، والذي يفرض عليهم أن يروا العمل الصالح ويشكروه، وأن يسددوا ويقاربوا ويسُدُّوا الذرائع، ويتقوا الفتنة، من أجل صيانة بيضة الدين، والوقوف سدا منيعا أمام خطر غلو الغالين». أما الرسالة الثانية، ويمكن اعتبارها هي الأخرى موجهة إلى لجنة الإصلاحات، فقد كانت ترتبط بالدعوة إلى تبني نموذج مغربي في الإصلاح دون انزلاق إلى تقليد نماذج دولية، غربية أو عربية، إذ بعد أن أكد البيان على أن «حالة المغرب السياسية والحقوقية حالة متميزة بما تم إلى الآن تحقيقه من الإصلاح والإنصاف والتنمية»، قال «وبناء عليه فلا يجوز لأحد بأي دعوى متطرفة كانت أن يدعو إلى الإنكار والجحود والاستنساخ مستهينا بوعي المغاربة وقدرتهم على إدراك ما يتميزون به عن غيرهم». ويمكن فهم هذه الرسالة على أنها تتعلق ضمنيا بالنقاش الدائر حول الفصل 19 من الدستور ومؤسسة إمارة المؤمنين. الرسالة الثالثة في البيان تتعلق بسقف وحدود الإصلاحات المطلوبة. وهنا نلاحظ أن البيان، الذي سطر بدقة بحيث تعني كل كلمة فيه شيئا، أكد بطريقة غير مباشر على أن أي تغيير يجب أن يكون تغييرا محسوبا، إذ قال بأن «الاختيار الديمقراطي الذي أجمع عليه المغاربة يتطلب رعاية ديمقراطية شاملة»، وأكد أن الدعوة إلى إلغاء الفساد «إذا كانت مشروعا وطنيا فإنها لابد أن تكون شاملة تطال إلى جانب الإصلاح السياسي والإداري، الفساد العقدي والأخلاقي عندما تكون بعض مظاهر هذا الفساد ضارة بالأغلبية الساحقة من المواطنين، لاسيما وأن للأغلبية الحق في تبني القوانين التي تجرم هذا الفساد إذ لا محل في الشرع لمواجهة كاسحة لا تأبه بسلامة المجتمع لأن الضرر في منطق الإسلام لا يزول بمثله»، وسعى البيان في هذه الفقرة إلى المزاوجة بين «الاختيار الديمقراطي»، وهو تعبير جديد في لغة العلماء، وبين شرط الارتباط بالعقيدة والأخلاق الإسلامية. واعتبر البيان أن الضمانة الوحيدة لإنجاح تلك المزاوجة هي مؤسسة إمارة المؤمنين، حين قال بأن «قيادة الإصلاحات والبلورة النهائية لمختلف صيغها ترجع إلى أمير المؤمنين بحكم وظيفته الشرعية في حراسة الدين وسياسة الدنيا، ومن ثم فهو الضامن للتوازن بين شؤون الإصلاح في أمور الحياة والإصلاح في أمور الدين، هذا الدين الذي يستمد منه المغاربة المعنى الذي يعطونه للحياة»، وقال البيان إن المؤسسة العلمية «تعتبر من واجبها الشرعي أن تقول كلمتها في كل ما يتعلق بتدين المغاربة، وكل ما يهم الحفاظ على اختياراتهم وثوابتهم، وإن من واجبها أن تتعبأ وتعبئ الناس وراء أمير المؤمنين في كل عمل إصلاحي يقتضيه اكتمال الصرح الديمقراطي، لأن في ذلك سبيل العدل الذي عليه مدار الدين». ولوحظ أن البيان لم يؤكد على أي توصية بخصوص الإصلاحات الدستورية المرتقبة، غير أنه يبدو أنه تعمد الاكتفاء بتوجيه الرسائل بدل التصريح المباشر، إذ أكد خلال الحديث عن الإصلاحات تشبثه بإمارة المؤمنين «في وجودها الشامل وتفعيلها الكامل واعتبارهم لها في الأمة بمثابة الروح من الجسد شرط وجوب نابع وسيبقى نابعا من سهرها المشهود في مجتمع آمن على القيام بأولويات الشرع، وهي حفظ الدين وحفظ الأمن وحفظ ثمرات العمل وحفظ كرامة الإنسان المعبر عنها في الشريعة بالعرض، والناس شهود في كل يوم على الأشكال المبتكرة التي تتوسل بها إمارة المؤمنين إلى تحقيق هذه الغايات النبيلة». وحملت هذه الفقرة إشارتين قويتين، لكن لغة البيان غير التصريحية تركتهما مفتوحتين على كل تأويل. الإشارة الأولى تمثلت في استعمال تعبير «الوجود الشامل» لإمارة المؤمنين، وهو تعبير قد يؤخذ على أنه رد على بعض الأحزاب السياسية التي اقترحت تقسيم الفصل 19 من الدستور إلى شق ديني يهم إمارة المؤمنين وشق مدني يهم المؤسسة الملكية، والتقليص من سلطات مؤسسة إمارة المؤمنين بحيث تقتصر على ما هو ديني فحسب، ولذلك ورد في البيان حديث عن «حفظ الدين وحفظ الأمن». أما الإشارة الثانية، فهي التي ورد فيها تعبير «الأشكال المبتكرة التي تتوسل بها إمارة المؤمنين إلى تحقيق هذه الغايات»، ويمكن أن يؤخذ هذا على أنه رد غير مباشر على اقتراحات تقدمت بها حركة التوحيد والإصلاح بخصوص دسترة المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الإقليمية والهيئة العليا للإفتاء والمجلس الأعلى للأوقاف، بحيث يمكن أن تتحول مستقبلا إلى سلط دينية مجاورة لسلطة إمارة المؤمنين تتقاسم معها المشروعية، وهنا يريد البيان أن يوضح بأن تلك المؤسسات والهيئات مجرد «أشكال مبتكرة» لجأت إليها مؤسسة إمارة المؤمنين، كمشروعية عليا فوق جميع المشروعيات، وأنها يمكن أن تخضع للتغيير كما يمكن أن تستحدث أشكال أخرى مبتكرة بحكم الظروف والمستجدات.