على امتداد فترات الحكم في الجزائر الشقيقة وتعاقب الرؤساء عليها الواحد بعد الآخر، لا بد أن يتبادر إلى الذهن سؤال جامع مانع يؤرق المتتبع لما يجري في هذا البلد. من يحكم حقيقة هذا البلد؟ للإجابة عن هذا السؤال ولفهم ما يجري حقيقة بهذا البلد المغاربي، على المرء أن يعرج على عوامل مهمة تؤسس للسياسة بشكل أساسي، ألا وهي التاريخ والهوية والثقافة. إن بناء دولة الجزائر ككيان قائم بذاته كان أحد المشاكل التي طرحت نفسها بإلحاح على نخبتي المثقفين والسياسيين قبل وبعد الاستقلال. ولعل القارئ يتذكر رواية «نجمة» للكاتب الجزائري كاتب ياسين التي جسدت حينها حاضر ومستقبل الجزائر. وكان لا بد لنخبة المثقفين والسياسيين حينذاك أن تأخذ على عاتقها بناء وطن جديد ومحدد المعالم. وما يحير، فعلا، هو أن أغلب حكام هذا البلد -باستثناء المرحوم بوضياف- كانوا يظنون أن حل المشاكل البنيوية للبلد تمر عبر «الخطابات» الحماسية أو لغة الخشب. بطريقة أخرى، كانوا يظنون في قرارة أنفسهم أنه يكفيهم إلقاء خطابات هنا وهناك عن «الديمقراطية» و«الدولة» و«الاقتصاد» حتى يخيل إليهم أن كل شيء على ما يرام وأن الحلقة قد اكتملت، وأنهم أصبحوا في مصاف الدول التي يحسب لها ألف حساب، وأن الشعب راض عن النظام، في حين أن الأمر ليس كذلك. وبإلقاء المرء نظرة على الوضع العام، يتبين له أن المجتمع الجزائري مبني على «عصبيات» فسيفسائية إثنوثقافية وعلى تمايزات اجتماعية صارخة أفرزت مافيات عسكرية وسياسية فاسدة تستغل الريع وتهدد وحدة البلد بطريقة دائمة. وهذا ما أكده لي أحد الإخوة الجزائريين، أخيرا، من أن ما يسمى التعايش الذي يتحدث عنه المسؤولون في هذا البلد ليس إلا مجرد «كلام»، بحيث لا يوجد تعايش وتكافل أسري واجتماعي بين أفراد المجتمع، «فكل ولاية تغني على ليلاها». مشاكل كهذه تظهر طبيعة الأمراض الحقيقية والتي هي أمراض سوسيو- تاريخية أكثر منها اقتصادية، بل وثقافية قبل أن تكون سياسية. إن الجزائريين، بمختلف فئاتهم، واعون بأنهم يعيشون في فوضى عارمة تثبط عزيمتهم، لكنهم لا يجرؤون على اتهام من يحكمهم بذلك. فكل واحد منهم يحاول حماية نفسه وذلك بتمنيعها من المجهول أو مما هو آت. ولكن لا أحد يقبل أن يعترف بأنه هو أيضا عنصر تخلف. لا أحد مرتاح في بلد الجزائر، الكل يشكو، والكل يحني ظهره لسطوة نظام العسكر الذي فعل فعلته واستطاع «عسكرة» كل المرافق بالرشوة والفساد الإداري والمحسوبية. ف«الحكرة» -التي طالما حذر منها الشعب المنتفض والباحثون الأكاديميون الجزائريون، والتي أصبحت مفهوما جزائريا صرفا- أصبحت عملة بقاء نظام الجنرالات الجزائريين. وهنا على المرء ألا يستغرب، فطبيعة الأنظمة العسكرية تعتمد كليا على قاعدة أساسية تجعل من «الحكرة» وسيلة لفرض الهيمنة، بل وأداة أساسية للاستمرار في الحكم. وعلى المرء ألا يستغرب كذلك أسلوب التحقير والتصرفات الوحشية التي تصدر من بعض خطابات إعلامييهم الذين طبعوا وجبلوا على الكراهية العمياء لكل من يجرؤ على انتقاد نظام العسكر. ولقد كانت لي فرصة لقاء أحد الصحفيين الجزائريين، أخيرا، وفوجئت حقيقة بحجم الكراهية التي يكنها بعضهم للمغاربة، وحاولت إقناعه بأننا في المغرب لسنا مسؤولين عما يعتريهم من ظلم، فنظامهم هو المسؤول عما يحيق بهم، ف«فزاعة» الصحراء المغربية اختزل فيها نظام الجزائر كل مآسيه وإحباطاته... وهكذا يرجع المسؤولون الجزائريون كل أزماتهم إلى المغرب، ولم يبق لهم إلا أن «يصابوا بالزكام» فيتهموننا نحن المغاربة بتصديره إليهم!! إن خطاب المؤامرة الذي أصبح المرء يستشفه يوما بعد يوم غير مبرر تماما ولا يخدم حتى مصالح الشعب الجزائري المغلوب على أمره، فتارة يخرج المسؤولون الجزائريون على شعوبهم متهمين «القاعدة»، وتارة يتهمون «القبايل»، وتارة أخرى «أعداء جبهة التحرير»! إن هذه هي البيئة التي يراد للشعب الجزائري أن يعيش فيها، بيئة مسمومة ينعدم فيها الوضوح والشفافية. إن الاستقلال الحقيقي والحوزة الترابية والمكانة اللائقة بين الأمم والاحترام الدولي لا تحصل عليها الحكومات والشعوب بالخطابات الجوفاء والتضليل والبروباغندا العسكرتارية، بل بدمقرطة الحياة العامة. ولن يتأتى ذلك إلا بعد أن يقتنع عسكر الجزائر ببناء دولة المؤسسات، وخلق تنمية بشرية والاستثمار في البنى التحتية للبلد. وكم يصاب المرء بالحسرة وهو يرى عائدات البترول الجزائري تستثمر في شراء الأسلحة الروسية! وأغلبية الشعب الجزائري تعيش تحت خط الفقر المدقع. إن لعبة «الجزار والخباز» التي يتقنها عسكر الجزائر جيدا لن تبقى إلى الأبد، والشعب الجزائري لا بد أن يصحو في يوم من الأيام لكي يقول لهؤلاء العسكر: «أعطونا ما نريده، وسنعطيكم ما تحتاجونه أنتم منا»! وهنا تتساوى المعادلة. إن عجلة التاريخ تدور ولا تتوقف وذاكرة الشعوب العظيمة، كما يقال، لا تنسى من كان يحتقرها وينصب نفسه مرة «خبازا» يطعمهم، ومرة أخرى «جزارا» لا يتوانى في سلخهم سلخا في مجزرته. فإلغاء قانون الطوارئ والترويج لقانون البلديات لن يغير من قناعة الشرفاء في الجزائر العظيمة. ولن تنطلي الحيلة عليهم لأنهم أدركوا، منذ زمن طويل، أن للعسكر قاعدة تقول: «نحن نعطيكم ما نريد إعطاءكم إياه، لا ما تريدونه أنتم»...