بدأت التظاهرات والخروج إلى الشارع وتسجيل المطالب في الساحات العمومية، التي انطلقت منذ 20 فبراير، تعطي نتائجها، فالدولة انتقلت من الإجابات السياسية المبنية على الإشاعة أو «بالونات الاختبار» المرتبطة بتعديل حكومة عباس الفاسي والإجابات التدبيرية المحدودة (تشغيل المعطلين حاملي الشهادات العليا) إلى جواب الإصلاح الدستوري. ويبدو أن الدولة لم تكن تفكر في الإصلاح الدستوري قبل 20 فبراير، بل إن أحداث وإشاعات الأسبوع الأول لما بعد 20 فبراير لم تحمل مؤشرات تبين أنها تسير نحو هذا الإصلاح، وإنما كانت متجهة، على العكس من ذلك، نحو انتخابات 2012 بأجندة تقف عند حدود تعديل القانون التنظيمي لانتخاب أعضاء مجلس النواب، وهو ما يعبر عنه طلب وزارة الداخلية من الأحزاب السياسية تقديم مقترحات حول نمط الاقتراع والعتبة في سقف أقصاه نهاية شهر مارس الحالي. ويمكن التساؤل هنا: لماذا وقع هذا الانتقال؟ هل معنى هذا أنه لم يكن من الممكن توقع إصلاحات دستورية دون حركات 20 فبراير؟ ولكن، دعونا نتوقف في يناير من السنة الماضية، لنتساءل ما الفائدة من لجنة استشارية للجهوية اشتغلت سنة كاملة دون أن يعرف الرأي العام، إلى حدود الخطاب الملكي ليلة الأربعاء الماضي، ما هي التوصيات التي وصلت إليها؟ وكيف يمكن تفسير الصمت المطبق الذي أحيط بهذه اللجنة وأحاط به أعضاؤها أنفسهم طيلة مدة اشتغالهم؟ وكيف نفسر السكوت المطبق حول تقرير اللجنة بعد نهاية المدة الزمنية التي طلبتها منذ يونيو الماضي؟ إننا أمام إجابة واضحة الآن، وهي أن اثنين وعشرين عضوا انطلقوا في العمل في يناير 2010 واشتغلوا لمدة سنة شمسية كاملة ووصلوا بمقترحاتهم إلى سنة 1997 (سنة صدور القانون المنظم للجهات الحالية)، فهل يعقل أن تحذف اللجنة الاستشارية للجهوية أربع عشرة سنة من حياة المؤسسات في المغرب؟ أين هي مذكرات الأحزاب التي مرت إلى الجهوية عبر التعديل الدستوري؟ ومن أين أتت اللجنة بتوصياتها ما دامت لم تأخذ باقتراحات الأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية والمدنية؟ إننا لم نكن، كمغاربة، نطلب من أعضاء اللجنة أن يستشعروا مطالب مغرب جيل فضاءات الفايسبوك الموجود أمامنا اليوم، ولكن على الأقل أن ينتبهوا، وهم يشتغلون خلال السنة الماضية، إلى المد الاحتجاجي المتنوع في كل جهات المغرب والمرتبط بمحدودية المقدرات التوزيعية للدولة والحاجة إلى نقل السلطات إلى الوحدات الجهوية لتدبير المشاكل. ويبدو أن الوقوف عند اللجنة الاستشارية للجهوية له ما يبرره، ذلك أننا أصحبنا نخاف من عمل اللجن وأمامنا اليوم لجنة جديدة عهد إليها بمراجعة الدستور (لجنة مراجعة الدستور)، مكونة من بعض عناصر اللجنة القديمة للجهوية، مطلوب منها تقديم مشروع بعد أربعة أشهر. وهنا يمكن ملاحظة ما يلي: أولا، إن أجل أربعة أشهر طويل إذا ما نظرنا إلى الحالة السيكولوجية للمجتمع وانتظاراته السياسية، فإعداد دستور بطريقة تشاورية ممكن في أجل شهرين، بمعنى خلال نهاية شهر أبريل، لكن التخوف المبني على المخاطر هو أن تتجاوز هذه اللجنة في عملها شهر يونيو وتطلب التمديد كسابقاتها. ثانيا، إن المكونات السوسيولوجية ذات التأثير في لجنة مراجعة الدستور، هي نفسها التي كانت موجودة في اللجنة الاستشارية للجهوية. وهنا يثار التخوف من السقف الذي يمكن أن تقترحه في مشروع الدستور. ثالثا، الطريقة التي ستلتقط بها لجنة مراجعة الدستور المرتكزات السبعة الواردة في الخطاب الملكي، هل ستفهم دلالتها على أنها إشارة أولى نحو بناء الملكية البرلمانية؟ لأنه من الصعب أجرأة المرتكزين الثالث والرابع منها دون تقييد بعض السلطات التنفيذية والتشريعية للملك في المقابل. رابعا، منهجية العمل والطريقة التي ستلتقط بها اللجنة الإشارات الواردة في مضمون الخطاب الملكي، المتمثلة في بناء دستور من ثلاثة مداخل: تنظيم العلاقة بين السلطات، صك الحقوق، والأدوات الدستورية لبناء المقدرات التوزيعية للدولة نحو الجهات. إن لجنة مراجعة الدستور ولجنة التتبع، التي يقودها المستشار الملكي محمد معتصم، مدعوة إلى أن تضع أمامها منطلق حركات 20 فبراير المتمثل في كون الدولة بدأت في فهم الحركة الاحتجاجية وتشخيص مضمون مطالبها لإنتاج إجراءات بهدف التجاوب معها واستيعابها قبل فوات الأوان، فالأمر لا يتعلق -كما يعتقد بعض السياسيين- بمطالب الشارع التي يمكن أن تختفي في أية لحظة، لأن هذه الحركة لها إيديولوجيتها المتمثلة في أفكار وتمثلات إجرائية وعملية. فالدولة، بالإعلان عن الإصلاح الدستوري، تقدم إجابات سياسية، لكن هذا الإصلاح الدستوري لا يجب فهمه بالمنطق الذي قدمته إلينا كتب وأطروحات القانون الدستوري التقليداني المغربي للسبعينيات والثمانينيات المبنية على فكرة وظيفة التعديل كمورد رمزي لإعادة تأطير المخيال السياسي والاجتماعي، فالبنية الديمغرافية المغربية تغيرت وبات الشباب حاملا لإيديولوجية عملية تؤمن بالملموس والنتائج الميدانية. إن سقف المستشار محمد معتصم سيكون مسؤولا عن مشروع الدستور لكونه رئيسا لآلية تتبع لجنة مراجعة الدستور، ولكون تركيبة اللجنة الأولى (الاستشارية حول الجهوية) والثانية (لجنة مراجعة الدستور) حاملة، في شق مكوناتها من القانونيين الدستوريين، لبصماته الجيلية وفكره الدستوري التقليداني المنتمي إلى مدرسة السبعينيات والثمانينيات من القانون الدستوري المغربي، وبالتالي فالمجال الدستوري المغربي تغير بباحثيه وأساتذته. وبحكم أننا أمام سابقة للجنة استشارية اشتغلت لسنة كاملة وارتأت إقامة جهوية متقدمة بقانون، ورأت أن الظروف لم تكن ناضجة لاستيعاب الجهوية دستوريا، وبحكم أنني أنتمي إلى جيل جديد من الدستوريين الذين هم قادرون على فهم الأبجديات الأولى للقانون الدستوري إلى حدود الآن على الأقل، فإنني سمعت الخطاب الملكي مرات متعددة وقرأت فقراته على الورق ووجدت أن سقفه مرتفع، وأن سقف محمد معتصم ولجنة مراجعة مشروع الدستور لا يمكن أن ينطلقا في بناء مشروع الدستور الجديد من خارج فكرة وضع الأدوات الدستورية لبناء ملكية برلمانية، إننا ننتظر مشروعا دستوريا شهر يونيو، لنرى سقفكم، وكيف تعاملتم مع سقف الخطاب الملكي.