يكاد لا يمر يوم دون أن نرى صورته أو نسمع اسمه أو اسم التنظيم المنسوب إليه، «القاعدة». قليل الظهور، كثير الحضور، يهدد ويتوعد، يفجر ثم يختفي. من هو هذا الرجل الأسطوري؟ من أين أتى؟ أين نشأ وعلى من تتلمذ؟ لماذا تحالف مع الشر وعاد ليحاربه؟ ما هي تفاصيل حياته السابقة لاحتراف «الجهاد»؟ من هو أسامة الإنسان؟ استراتيجية عمل تنظيم القاعدة، منذ نشأته وفي جميع مراحل تطوره، لم تكن تقتصر على استقطاب المقاتلين وتدريبهم ومن ثم دفعهم إلى القتال وتفجير الشاحنات، بل إن استراتيجية إعلامية محكمة ومدبرة كانت تواكب عمل أسامة بن لادن، ثم حليفه أيمن الظواهري. الصحفي عبد الباري عطوان، سيكون الصحفي العربي الوحيد الذي تختاره قيادة القاعدة للقيام بحوار صحفي لحساب جريدته اليومية «القدس العربي»، إلى جانب عدد من زملائه في الإعلام السمعي البصري. بدأت المهمة في نونبر من العام 1996، حين قام خالد الفوّاز والذي كان يعتبر بمثابة سفير أسامة بن لادن في لندن من خلال ترؤسه فرع «لجنة الإصلاح والشورى»، قام الفواز بالاتصال بعطوان طالبا منه الاستعداد للذهاب إلى أفغانستان من أجل مقابلة بن لادن. الصحفي الفلسطيني أبدى بعض التردد في البداية خوفا على سلامته الشخصية. لكنه انتهى إلى الموافقة على خوض المغامرة. «وكانت محطة «الجزيرة» الفضائية قد دعتني ولحسن الحظ في الوقت الملائم إلى قطر، للمشاركة في نقاش متلفز، مما زودني بحجة مشروعة للسفر إلى المنطقة... وما كاد النقاش المتلفز ينتهي حتى أخبرت الزملاء في قطر بأنني سأذهب في إجازة قصيرة إلى دبي للاسترخاء، وكانت هذه المزاعم بالطبع أبعد ما تكون عن الحقيقة». حل عطوان ببيشاور في اليوم الموالي، وقضى ليلته في أحد الفنادق كما كان محددا في اتفاقه مع مبعوثي بن لادن، وما إن اختلى بنفسه في غرفته، حتى ركب رقما كان يحتفظ به بكل عناية، فكان الرد مقتضبا من الطرف الآخر: «كن جاهزا غدا صباحا في تمام الساعة العاشرة، لا تقل أي شيء فالهاتف غير آمن». في صباح الغد، كان ذات الشخص في انتظار الصحفي الفلسطيني، حاملا معه هنداما محليا للباشتون، يجب على الضيف ارتداؤه حتى يتمكن من اجتياز الحواجز الأمنية باتجاه أفغانستان. «وفيما كنت أرتدي ملابسي، راح فيصل يعلمني على عجل بالترتيبات: سيرافقني اثنان من الطالبان لتهريبي عبر نقاط التفتيش واجتياز الحدود بين بيشاور وجلال أباد، حيث يتولى آخرون مهمة تسليمي إلى الشيخ بن لادن...». كانت الرحلة شاقة ومتعبة ومحفوفة بالمخاطر، اجتاز خلالها الضيف الحواجز الأمنية بفضل مرافقيه، واضطر عطوان إلى قضاء الليلة في جلال أباد في أحد الفنادق رفقة جيش من الحشرات؛ «صباح الجمعة جاء سفير الشيخ بن لادن في جلال أباد (أبو حفص) إلى الفندق، واعتذر لي قائلا إن الشيخ لن يتمكن من مقابلتي هذا اليوم، وعليّ الانتظار. فأبلغته أنني على عجلة من أمري، ولديّ ارتباطات مسبقة في لندن تحتم وجودي الاثنين هناك، فتفهّم الأمر ووعد خيرا». «الطريق إلى إمارة الشيخ بن لادن كانت شاقة فعلا، غير معبدة، نصفها يمر وسط قرى جبلية ووديان، ونصفها الثاني حلزوني صخري مرعب جدا. ومن سوء حظنا أننا سرنا إليه بعد حلول الظلام، فكنا نسير إلى المجهول، مع سائق يستعجل الموت، ويقود السيارة كما لو أنه على إحدى طرق ألمانيا السريعة الفسيحة، ولا يفوته بين حين وآخر استعراض مهاراته بطريقة بهلوانية تتأرجح معها السيارة ذات اليمين وذات اليسار... خلافا للصحافيين القليلين الآخرين الذين جرى اصطحابهم لمقابلة الشيخ أسامة بن لادن، لم يعصب رجاله عيني لدى اقترابنا من طورا بورا. وقد رأيت في ذلك دلالة على أن الشيخ يعتبرني جديرا بثقته. وسرعان ما بدأت أجهزة الاتصال تخرج عن صمتها، فقد أعطى مرافقي إشارة عن قرب وصولنا. وهنا استقبلتنا سيارة مدججة بالمسلحين، وقاذفات آر بي جي ومدفعية تحمي ظهرها. ولم أشعر بالاطمئنان على الرغم من أن الهدف كان طمأنتنا، والله أعلم». قابل عبد الباري عطوان أسامة بن لادن قبل منتصف الليل في الثالث والعشرين من نونبر 1996، وجده جالسا القرفصاء على بساط وقد وضع في حضنه رشاشا من نوع كلاشينكوف. إحساس بالغرابة جعل عطوان يتسمر أمام رجل بات يعرف صورته من خلال وسائل الإعلام، وبات المطلوب الأول لعدد من وكالات الاستخبارات عبر العالم. ليخرج أسامة ضيفه من ذهوله بوضعه البندقية أرضا، وقيامه مبتسما من منظر عطوان في ملابس أفغانية، وعانقه بحرارة. «الرجل، أي الشيخ بن لادن، طويل القامة، نحيل البنية من دون ضعف، أطلق العنان للحيته، يرتدي الملابس الأفغانية ويتقي البرد بسترة مرقطة من ذلك النوع الذي ترتديه الفرق الخاصة (كوماندو)، وإن كان غالبا ما يضع فوقها بطانية صوف أفغانية تتدلى من كتفيه. وكان يعتمر عمامة بيضاء، أو في بعض الأحيان يحيط رأسه بشماغ أحمر. كان الشيخ بن لادن لطيف المعشر متواضعا إلى أبعد حدود، حتى إنني اكتشفت خلال اليومين اللذين أمضيتهما برفقته أن صحبته قد تكون ممتعة. كان يتحدث بصوت خافت إنما مسموع، وترتسم دوما على شفتيه ابتسامة توحي بالطمأنينة وتختصر المسافات بينه وبين ضيفه، خصوصا إذا كان يقابله للمرة الأولى، كما هو الحال معي. خلال أول حديث لنا، رحت أشكو المشقة التي خبرتها في رحلتي، والآلام المبرحة التي شعرت بها في الظهر والعنق والمعدة. فضحك وقال لي إنه هوّن عليّ الأمر بأن قرر مقابلتي في منتصف الطريق. فقد كان في قاعدة أبعد وأعلى، شكرت له هذه المبادرة مضطرا. في منتصف الحديث، سمعت صراخا وجلبة وإطلاق نار وقصفا مدفعيا وصاروخيا. وشاهدت مضيفي يهرع بسرعة إلى خارج الغرفة، ويتركني وحدي، فقلت في نفسي إنها النهاية، وقرأت آية الكرسي. فقد اعتقدت أن هجوما وقع. فالرجل مطلوب رأسه من دول عظمى من بينها أمريكا وروسيا، ومن عدة قوى غير عظمى ولن تكون، ومعظمها عربية... بعد لحظات عاد الرجل، واعتذر إلي موضحا أن ليس هناك ما يزعج، مجرد استنفار يحدث بين حين وآخر تحسبا للطوارئ وإبقاء حالة الاستعداد في أقصى درجاتها. ارتحت قليلا، ولكنني لم أطمئن، ولعنت حظي وما جلبته إلى نفسي».