كثيرون رأوا في عودة فؤاد عالي الهمة إلى الظهور مجددا، بعد «غطسة» قصيرة تزامنت مع رفع صورته إلى جانب صورة «بلطجية» آخرين في مسيرة عشرين فبراير، شكلا من أشكال التحدي. فالرجل أراد أن يرسل إشارة إلى كل من كانوا ينتظرون انقراضه من المشهد السياسي، مفادها أن انسحابه لن يكون غدا. ببساطة، لأن انسحابه من الساحة السياسية سيكون بمثابة رصاصة الرحمة التي ستأتي على مشروعه الكبير الذي سوقه وبناه على فكرة ساذجة وخطيرة في الآن ذاته تقوم على أن أمن المغرب واستقراره يمر بالضرورة عبر محاربة مظاهر «الأسلمة» داخل المجتمع. ولهذا، فأغلب الأسماء التي تصل على يده إلى كراسي المؤسسات الاستشارية والمؤسسات الدستورية تأتي مباشرة من صفوف «نادي اليساريين التائبين» الذين يكنون عداء فطريا لكل ما هو إسلامي. أن يستمر حزب الأصالة والمعاصرة كفاعل سياسي أمر يعني الأحزاب السياسية في المقام الأول. فزعماء ومناضلو هذه الأحزاب هم خصومه ومنافسوه السياسيون المباشرون، خصوصا بعد التحدي الكبير الذي لوحت برايته حركة شباب العشرين من فبراير في وجوه هذه الأحزاب وجعلتها تفهم أن الوقت حان لرفع سراويلها التي أنزلتها أمام المخزن، حتى قبل أن تفكر في تشمير أكمامها استعدادا للعمل. فالأحزاب السياسية اليوم أمام خيار واحد لا ثاني له، إما أن تستعيد صوتها وتعود إلى قواعدها وتتصالح مع شبيبتها، وإما سيدوسها الشباب بالأرجل وسيأخذ الراية منها وسيتقدم للدفاع عن مطالب الإصلاح في الشارع. لكن استمرار حزب الأصالة والمعاصرة كحزب مشروط بثلاث نقط ضرورية وحاسمة: أولا، يجب على الحزب أن يقوم بعملية تطهير لصفوفه من الانتهازيين والفاسدين ولصوص المال العام الذين دفع بعضهم أموالا إلى أشخاص نافذين في الحزب لشراء الحصانة والاحتماء من المتابعة. ولعل «خبطة الهراويين» التي أسقطت بها الداخلية، بتوصية من الهمة، مسؤولين ومستشارين وانتهت بالبعض منهم إلى السجن، كانت درسا مفيدا لكثير من المنتخبين الذين فهموا أن ملفات جرائمهم ومخالفاتهم موجودة لدى وزارة الداخلية ولا تنتظر سوى عرضها على القضاء. ومباشرة بعد تلك «الخبطة»، بدأت الهجرة الجماعية لهؤلاء المستشارين والمنتخبين الوسخين نحو الأصالة والمعاصرة، إلى درجة أن الحزب أصيب بالتخمة وهو لا يزال رضيعا. ثانيا، على الحزب تطهير صفوفه من بقايا اليسار الراديكالي المتطرف الذين حولوه إلى آلة جهنمية لإرهاب وتصفية حساباتهم القديمة مع خصومهم الإيديولوجيين، أولئك الذين لم يجدوا سبيلا لتصفيتهم سياسيا وفكريا على الأرض فشرعوا يصفونهم اعتمادا على نفوذ فؤاد عالي الهمة داخل وزارة العدل ووزارة الداخلية. ثالثا، يجب على فؤاد عالي الهمة أن يختار بين أمرين، إما أن يقدم استقالته من هذا الحزب ويتبرأ منه، وإما أن يظل فيه وبالمقابل عليه أن يحل شركته «مينا ميديا كونسيلتين» التي تحتكر صفقات الوزارات والمؤسسات العمومية، لأن وضعه كصديق مقرب إلى الملك يجعل المؤسسة الملكية تتحمل عثرات مؤسس هذا الحزب وأخطاءه. هذا دون الحديث عن استغلال الكثير من قياديي الحزب لهذا القرب الإنساني لمؤسس الحزب من ملك البلاد من أجل تخويف أو إغواء خصومهم السياسيين وإرهاب أجهزة الدولة للتغاضي عن تجاوزاتهم وأحيانا حماقاتهم. كثيرون يتحدثون اليوم عن ضرورة تصفية السكرتير الخاص للملك، محمد منير الماجدي، لشركاته الخاصة، حتى لا يكون هناك تعارض ما بين وظيفته إلى جانب الملك وتسييره لشركاته. وهو رأي وجيه أصبح يتقاسمه الجميع اليوم، بمن فيهم أولئك الذين كانوا يأكلون من شركاته كنور الدين عيوش وغيره. لكن، لا أحد سمعناه يطالب فؤاد عالي الهمة ببيع شركته «مينا ميديا» التي ظلت تفوز بصفقات وزارة الداخلية ووزارات أخرى لسنوات طويلة منذ كان فؤاد عالي الهمة وزيرا منتدبا في الداخلية. ولعل أكبر رجل يخلط السياسة بالمال في المغرب هو فؤاد عالي الهمة، والدليل على ذلك أن شركته حصلت على صفقة بدون طلبات عروض أهداها لها علي الفاسي الفهري على طبق من ذهب من أجل إعداد التصور التواصلي لإدماج المكتب الوطني للكهرباء والمكتب الوطني للماء في مكتب واحد. هناك نقطتان أساسيتان وخطيرتان في هذه الصفقة: أولا، لم يلجأ علي الفاسي الفهري إلى طلبات عروض من أجل اختيار الشركة التي سترسو عليها الصفقة، رغم أن مذكرة الوزير الأول حول قانون الصفقات العمومية واضحة في هذا الباب، وبالتالي منحها لشركة «مينا ميديا كونسيلتين» بطريقة مباشرة وهو يعرف أن صاحب هذه الشركة لديه حزب أصبح أكبر حزب سياسي ولديه أكبر فريق نيابي في البرلمان بغرفتيه. ثانيا، تم توقيع العقد بين محمد علاش وعلي الفاسي الفهري من المكتب الوطني للكهرباء وبين ممثل شركة الهمة، كريم بوزيدة، في الثاني من أبريل 2010، أي قبل أن يصوت البرلمان والغرفة الثانية بالموافقة على قرار إدماج المكتبين في مكتب واحد. إن الخطير في هذه الصفقة التي نص عقدها على أن يدفع علي الفاسي الفهري 75 مليون سنتيم شهريا لشركة الهمة طيلة عشرة أشهر، أي ما مجموعه 750 مليونا، هو أن العقد تم توقيعه وشرعت شركة الهمة تتلقى التحويلات الشهرية حتى قبل أن يعرض مشروع إدماج مكتبي الماء والكهرباء في مكتب واحد للتصويت عليه في البرلمان، مما يعني أن علي الفاسي الفهري كان يعرف مسبقا أن مشروع إدماج مكتبيه سيمر بسلام في غرفتي البرلمان، اعتمادا على الفريق النيابي لحزب الأصالة والمعاصرة الذي يستطيع بواسطته الهمة عرقلة أو تسريح مشاريع القوانين. لذلك نفهم لماذا صوت نواب الأصالة والمعاصرة بالموافقة على مشروع الإدماج، وهكذا مر مشروع علي الفاسي الفهري كرسالة في البريد، إذ كيف يمكن لزعيم حزب سياسي أن يصوت بالرفض في البرلمان ضد مشروع قبضت شركته من أجل الاشتغال عليه 750 مليون سنتيم؟ إنها فضيحة سياسية بكل المقاييس. فعندما يكون لديك أكبر فريق نيابي في البرلمان، فإن غالبية المؤسسات التي تريد تمرير قوانينها في البرلمان تأتي إليك لاستجداء العون. أما إذا كان لديك أكبر فريق نيابي في البرلمان وإلى جانبه تدير شركة للاستشارة والتواصل والخدمات، فإن مدراء هذه المؤسسات سيفوتون إليك صفقاتهم لأنهم يعرفون أن ذراعك النيابية ستمتد لكي تساعدهم عندما سيحتاجون إلى مساعدة سياسية لكي يمرروا قوانينهم في البرلمان. إن هذا اللوبي القوي، الذي يشتغل بين دهاليز البرلمان والأمانة العامة للحكومة مقابل عمولات تصل إلى ملايين الدراهم، هو الذي يعرقل إلى اليوم خروج قانون منع التدخين في الأماكن العمومية في الجريدة الرسمية، فالمسيطرون على سوق التبغ في المغرب يعرفون أن القوانين لا تصبح ذات فعالية بمجرد تصويت البرلمان والغرفة الثانية عليها، وإنما تصبح ذات فعالية عندما تصدر في الجريدة الرسمية. ولذلك كان من حق المواطنين، الذين طبقت عليهم مخالفات مدونة السير في اليوم الموالي للتصويت عليها في مجلس المستشارين، استرجاع الأموال التي دفعوها، فالمدونة لم تصبح قانونية إلا بعد صدورها في الجريدة الرسمية. ورغم تصويت البرلمان بغرفتيه بالإيجاب على قانون منع التدخين في الأماكن العمومية قبل سنوات، فإن صدور هذا القانون في الجريدة الرسمية لازال متعثرا، بمعنى أن هناك قوى داخل سوق التبغ «تبذل» كل ما بوسعها لكي يتأخر صدور القانون في الجريدة الرسمية، وبالتالي يظل تطبيق بنوده مؤجلا، فشركة «ألطاديس» التي تغتني من جيوب ورئات المغاربة المثقوبة تعرف أن تطبيق هذا القانون سيشكل بالنسبة إلى عائداتها ضربة موجعة، تماما مثلما حدث لها في أوربا عندما خرج قانون منع التدخين في الأماكن العمومية إلى حيز التطبيق، فتراجعت عائداتها بشكل كبير وأصبحت تعول على فروعها في الدول المتخلفة التي ليست فيها قوانين لحماية الصحة العامة من أضرار استهلاك التبغ. وحتى تلك التي تصدر فيها قوانين، مثل المغرب، تتم عرقلتها في الأمانة العامة للحكومة حتى تبقى حبرا على ورق. وأنا شخصيا، أستغرب كيف سارعت الأمانة العامة للحكومة إلى إصدار قانون مدونة السير وإخراج بنوده إلى حيز التطبيق مباشرة بعد التصويت عليه في البرلمان، في الوقت الذي تتكاسل فيه طيلة كل هذه السنوات عن إصدار قانون منع التدخين في الأماكن العمومية في الجريدة الرسمية. إن هذا هو أكبر دليل على أن الغاية من المسارعة إلى إخراج مدونة السير ليست هي حماية أرواح المغاربة، وإنما استنزاف جيوبهم بالغرامات الثقيلة. ولو كانت الدولة تريد حقا أن تحمي أرواح الناس وصحتهم لسارعت إلى نشر قانون منع التدخين في الأماكن العمومية في الجريدة الرسمية. فالجميع يعرف، بما في ذلك وزيرة الصحة، أن ضحايا التدخين في المغرب أكثر عددا من ضحايا حوادث السير. جربوا أن تعطوا صفقة إخراج هذا القانون من مقبرة الأمانة العامة للحكومة ونشره في الجريدة الرسمية لشركة فؤاد عالي الهمة، فربما ينجح في هذه «المهمة» على الأقل.