كم هي دالة صورة الشيخ التونسي الذي تورده قناة «الجزيرة» في إحدى وصلاتها وهو يشكر الشباب التونسي، والذي بتعبيره «قدم لتونس ما لم نقدمه نحن»، ويقول عن جيله الذي لم يصنع الثورة «هرمنا.. هرمنا»، ماسحا رأسه الأبيض بيديه، والدموع تتساقط من عينيه... إنها صورة واضحة الدلالات، عما ينبغي أن يكون منذ زمان، فالثورات العربية صحّحت وضعا كان غير منطقي، حيث سيطر الشيوخ على كل السلط باسم الحكمة، لنلاحظ مثلا كيف استمرأ حسني مبارك وصف ساركوزي له بكونه «حكيم العرب»، أو باسم الثورة أو الحركة التصحيحية أو المصالحة الوطنية، ف«ثورة الشباب» في العالم العربي ليست فقط ثورة على الأنظمة الفاسدة أو مكامن الفساد فيها، بل هي أيضا ثورة جيل على جيل، ثورة جيل ينتمي إلى الحاضر على جيل ينتمي إلى الماضي، جيل ينتمي إلى العالم الرقمي والإلكتروني والتواصل بلا حدود، في مقابل جيل ينتمي إلى عالم الشعارات العتيقة والإيديولوجيات الميِّتة، جيل يرى كل يوم، من خلال العالم الافتراضي، ما استطاعت الأمم الأخرى إنجازه في مجال المؤسسات والحياة العامة في العالم الواقعي، ضد جيل يعتبر الشباب أرانب سباق يتم توظيفهم للتصفيق والاصطفاف على الأرصفة لرفع الشعارات المؤيدة للزعماء «الأبديين»... فإذا كان الحديث عن الشباب في السابق يحيل على مقولة «صراع الأجيال»، فإن هذا الصراع أضحى محسوما اليوم.. إلا عند المُكابرين، محسوما لصالح الجديد على حساب القديم، التغيير على حساب الركود، الإبداع على حساب الرتابة والتكرار... كم يصعب على الحس السليم أن يقبل شيوخا كبوتفليقة وزين العابدين بنعلي والقذافي وحسني مبارك، يحكمون شعوبا تشكل فيها فئة الشباب الثلثين.
يعتبر الشباب، دون شك، العصب الأساس الذي تقوم عليه الكثير من التحولات، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية، شريطة أن يكون له دور ملموس فيها، سواء بطريقة مباشرة، حين يكون الفاعلَ الرئيس فيها، أو بطريقة غير مباشرة، حين يكون محفزَها ومادتها ومُلهمَها. إن المجتمعات التي تُهمّش شرائحها الشبابية غالبا ما تظل مجتمعات ميتة وجامدة، فاقدة للروح الحقيقية، غيرَ قادرة على دفع الناس إلى خلق بدائل وطرح تصورات خارج ما هو سائد. ينبغي للشباب أن يكونوا في صلب التحولات التي تمس الشأن العام، لا خارجها أو على هامشها. الشباب وراء كل الأحداث يكفي النظر في التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية الكبرى التي حدثت في القرن العشرين أو الوقوف عند بعض نماذجها على الأقل للقول إن الشباب، أحيانا كثيرة، يكونون، كحركة جماعية، خلف أحداث كبرى يتجاوز تأثيرها الفضاء الذي تمت فيه، ليؤثر في العالم ككل. من ضمن هذه النماذج الدالة في هذا السياق، ثورة الشباب والطلبة في ماي 8691 في فرنسا، والتي أتت في لحظة تاريخية حاسمة كرد فعل ثوري على النظام الديغولي، بل وأدت في النهاية إلى زواله. لم تكن ثورة ماي 68 ثورة سياسية فقط، بل فكرية وثقافية أيضا، انخرط فيها الكثير من الكتاب والفلاسفة، أمثال جون بول سارتر، وتبنوا أطروحاتها، حتى الأكثر تطرفا منها. يمكن الإشارة، أيضا، إلى دور الشباب في التحولات الكبرى التي عرفتها أوربا الشرقية، وخصوصا في ذلك الحدث الحاسم، المتمثل في إسقاط جدار برلين (9891). معنى هذا أن الشباب يلفي نفسه، في لحظة ما، غيرَ قادر على التوافق مع طبيعة السائد اجتماعيا وسياسيا، ولا يجد نفسه في طبيعة المشاريع التي يتم التخطيط لها، والتي قد تظل معاقة وفاشلة أحيانا كثيرة، غير قادرة على التماهي مع حركية التاريخ، مثل تلك التي أفرزتها العديد من الحركات والتنظيمات والأنظمة العربية على مدى العقود التي غطت القرن السابق، بكل المآسي والكوارث التي آلت إليها، والإخفاقات الكبرى التي أفضت إليها، والتي أسهمت بشكل كبير في استمرارية التأخر التاريخي وسياسة الاستتباع والجمود القاتل، الذي لا يؤدي إلى غير الانفجار. يشكل الشباب، الآن، في العالم العربي القاعدة العريضة التي منها يتشكل هرم التركيبة السكانية، إذ تتجاوز أعداده في أغلب المجتمعات النصف بكثير، لكنه ظل مُهمّشاً مدة طويلة جدا، منسيا في تلك الفضاءات التي تستغرقها البطالة وانعدام فرص الشغل وانسداد الآفاق والإحساس بالعجز والإحباط واللا جدوى، وبأنه مقصي من دوائر القرار والفعل، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا. لم يكن، على مدى عقود من الزمن، أمام الشباب غير الاختيار بين شكلين اثنين للموت: الموت صمتا وإحباطا ويأسا داخل الوطن، أو الموت في قوارب الهجرة اللا شرعية، بعيدا هناك عند الساحل الأوربي. كل المشاريع الاجتماعية والسياسية التي تم الترويج لها عربيا على مدى عقود متتالية، آلت إلى الفشل والإخفاق، لاعتبارات متعددة، فقد كانت أولا محكومة بطبيعة الظروف الصعبة والمعقَّدة التي وُلدت فيها، والتي اتسمت بالهيمنة التي مارستها العديد من القوى الأوربية الاستعمارية والولايات المتحدة بعد ذلك، في سياق توازن الرعب الذي ربطها بالاتحاد السوفياتي. أما ثانيا فأغلب المشاريع ارتبطت إما بأحزاب أو بحركات وتنظيمات ذات طابع انقلابي في الأصل، لأن همها الأساس كان الاستحواذ على السلطة واحتكارها، ولا يمكن لمشاريع وُلدت أساسا لخدمة أقليات انقلابية ارتبطت بالنظام الأمني العربي في مختلف تنويعاته، أن تنجح في دفع الشباب بمختلف شرائحه إلى الانخراط فيها، أما ثالثا، فهناك الدور الكابح الذي لعبته مسألة الصراع العربي -الإسرائيلي على مدى عقود في تغليب فهم وتصور واحد لطبيعة هذه المشاريع، منصب على أولوية المعركة أولا وأخيرا، وإقصاء كل ما عداها أسفل الأجندة. ينضاف إلى كل هذا، رابعا، أن أغلب الذين تبنّوا هذه المشاريع كانوا، في الغالب الأعم، من الكهول الذين أحكموا إقفال مجال المبادرة أمام الشباب وحالوا بينهم وبين كل إمكانية للمبادرة وللإسهام، بشكل مسترسل وفعال، في طرح بدائلهم وتصوراتهم حول مشاريع مغايرة تمس بالأساس حاجاتهم وظروفهم ورغباتهم الاجتماعية والثقافية والسياسية. مشاريع فشلت ارتبطت كل المشاريع التي آلت إلى الإخفاق بما يسمى حركة التحرر الوطني العربية، التي تعددت أشكالها ومحتوياتها الإيديولوجية، فالتيار القومي الذي ولد مع الدولة الانقلابية، ممثلة في النظام الناصري الذي سمي حينها «ثورة 32 يوليو»، جسد مشروعا اجتماعيا يروم التحرر من الهيمنة الأجنبية وتأكيد الكيان القومي العروبي وتحرير فلسطين، ولكنه سرعان ما أفضى إلى نموذج الدولة الأمنية التسلطية التي تعتمد في استمرارها على سلطة القمع والمخابرات. وقد كانت نكسة 7691، إيذانا بنهاية هذا النموذج الذي أفرز نماذج أخرى مصغرة، عبر أحزاب سياسية، مثل «حزب البعث» أو «حركة القوميين العرب»... إلخ. أما التيارات اليسارية الماركسية والشيوعية فقد ظلت محنطة في إطار جثامين أحزاب لا وجود افتراضيا لها إلا في خطابات زعمائها ولم تستطع القيام بالنقد الذاتي الإيجابي الذي يسمح لها بالفعل، بخلق مشروع اجتماعي ينخرط فيه الشباب، وحتى حين تبنت شرائح هائلة من الشباب في العالم العربي إيديولوجيا اليسار، خلقت لنفسها، حينها، تنظيمات سرية بديلة وبعيدة عن الهياكل والمومياء الحزبية التي ما فتئت تعتاش على مِيتاتها منذ أمد بعيد. لم يجد المشروع الاجتماعي اليساري تجذرا في تربة تسمح له بالنجاح، لذا سرعان ما اكتفى الداعون إليه بالنقاش النظري والإيديولوجي، خصوصا في ظل القمع الشرس الذي مارسته الأنظمة. من نافل القول إن المشاريع الاجتماعية، عموما، لا تولد، إلا انطلاقا من طبقات وشرائح اجتماعية حاملة وساندة لها، إذ لا يمكن لمشروع ما أن ينجح بدون شريحة اجتماعية تتبناه وتهميش الشباب وقمعه، ظل في هذا السياق دليلا على إخفاق هذه المشاريع. ثم أتى المشروع الإسلامي مع الثورة الإيرانية 8791 وما استتبعها من حركات الإسلام السياسي، خصوصا الجهادية منها، والتي حاولت أن تستثمر ما يسمى «الصحوة الدينية»، لخدمة أجندتها، المرتبطة بالفوضى الخلاقة ومحاولة الاستحواذ على المشروع الاجتماعي، الداعي إلى «نهوض الأمة»، بوسائل العنف السياسي، لكنه كباقي المشاريع ولد معزولا ومرتبطا بعقلية تنظيمية سرية وبطبيعة الفعَلة المباشرين فيه، من زعماء ومنظرين، إذ لا يمكن الحديث عن مشروع اجتماعي يخص الشرائح الاجتماعية العربية، مولودٍ في أعالي جبال أفغانستان... أمام جمود الأحزاب والتنظيمات السياسية وتآكل هياكلها وخطاباتها وشيخوخة زعمائها الأبديين وعدم قبولها، أبدا، أن يكون للشباب دور أساس داخل هياكلها التنظيمية، وأمام استبداد الأنظمة السياسية العربية وإيغالها عميقا في اقتصاد الريع، الذي يحرم شرائح شبابية عديدة من حقها في اقتسام الثورة الوطنية والاستفادة من خيرات النمو ويقصيها، كلية، من دائرة الإنتاج الاقتصادي، وأمام عدم الإنصات إلى مطالب الشباب ورغباتهم المشروعة وحقهم في العدالة والمساواة والحرية واحترام كرامتهم وتوفير شروط عيش كريم لهم، كان من الضروري أن يضطلع الشباب بدورهم في بلورة مشروعهم الاجتماعي والتحدث باسمهم وبلورة أفكارهم. إنها الحركة التي تجعل من الشباب صوتا حابلا بالوعود وإيقاعا سريعا لتحريك البرك الراكدة وتغيير التاريخ والتماهي مع زمن من العالم، بدل البقاء أسير مشاريع لا يتعرف فيها على ذاته، لا اجتماعيا ولا سياسيا ولا ثقافيا. من الدال، هنا، التأكيد على أن الأمر يتعلق بصراع أجيال، لكنه لا ينحصر فقط في هذا المعطى وحده، إنه صراع أجيال ومشاريع، بعضها عفا عنه الزمن وتجاوزته حركية العالم المتسارعة، أي مشاريع الشيوخ من الساسة والفعَلة الحزبيين والمثقفين، الذين لم تعد خطاباتهم تستجيب لمتطلبات اللحظة الراهنة والقادمة أيضا، والمشروع الاجتماعي للشباب الذي يعبر عن نفسه بمصطلحات وشعارات بسيطة مرتبطة، ارتباطا وثيقا، بالحياة اليومية، مثل الشغل والتعليم، والعدالة والحرية وحقوق الإنسان، وغيرها من المطالب الكونية... إنه صراع أجيال سياسي وثقافي، يروم عبره الشباب، تجاوز الوصاية الأبوية التي مارستها الزعامات الحزبية والفعلة السياسيون، وتجاوز الفكر الصدامي العنيف مع الغرب، الذي يقسم العالم إلى مركز ومحيط. لقد رأينا كيف أن جسد البوعزيزي، الذي وهب نفسه كبش فداء، أتى من محيط المحيط، لكنه سرعان ما صار عنوانا دالا، انطلاقا من فضاء لا وطن له، وهو فضاء المدونين الافتراضي، الذي جمع حول الجسد الضحية وانطلاقا منه الآلاف من شباب تونس، ليهزوا أس نظام دكتاتوري جامد ويحولوا المحيط إلى مركز. إنها، نوعا ما، عودة المقصي والصامت والمُهمَّش، الذي ظل، على مدى سنوات وعقود، خارج أجندة المشاريع الاجتماعية لقوى وأجهزة ظل الشباب بالنسبة إليها دائما، مشكوكا فيه وغيرَ موثوق منه وعديم الفعالية. لقد اكتشف الشباب مواطنتهم وحقهم في الحديث باسمهم وصوغ مشاريعهم البديلة. إنها حركية الشباب المواطنين، الذين يريدون حل مشاكلهن بطريقة مستقلة غير مهتمة بالهواجس الإصلاحية التي يمكن أن تطال الدولة بغتة، أي خلق نوع من المشاريع البديلة والخاصة جدا، التي لا تغرق تحت أمواج الشعارات وعموميتها. إنها، أيضا، مسألة متعلقة بتبادل النخب، أكثر من تجديدها، لأن الشباب الذين اضطلعوا بدورهم الأساس في صياغة مشروعهم المجتمعي لا يهمهم أصلا تجديد نخب ما، يتم في أغلب الأحيان من داخل الهياكل والمشاريع المتقادمة ذاتها ويقدمون أنفسهم، في أغلب الأحيان، كاحتلال لمناصب لا أقل ولا أكثر... إن دور الشباب في خلق بديل، عبر مشروع مجتمعي مغاير، يرنو إلى خلق نوع من العيش المشترك، بالرغم من العوائق والإكراهات وأخطاء الخطوات والتمرينات الأولى، وهذا العيش المشترك هو الشكل الوحيد الذي يضمن بالنسبة إليهم تعداد الآراء واحترام الاختلاف في إطار العقل. لقد كان دالا جدا قول ذلك الشاب المصري في ساحة التحرير إنه لم يعرف طوال عمره غيرَ مبارك، أي لم يعش طيلة السنوات التي قضاها من عمره خارج مشروع الدولة الاستبدادية الأمنية، التي تتبنى النهب الاقتصادي وتغلق المنافذ الممكنة أمام أي بديل محتمل... وقد كان دالا، أيضا، أن شباب الساحة ذاتها لم يرفعوا أيا من الشعارات البارانوية الكبرى، التي ظلت المشاريع المجتمعية التي آلت إلى الفشل والإخفاق ترفعها أنظمة وأحزاب، على مدى عقود، دون أن تحقق أي خطوة في مجال الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية وتجاوز التأخر التاريخي. لنلاحظ أن وسائط التواصل المتاحة للشباب، لكي يلعب دوره في بلورة هذا المشروع المجتمعي البديل، تختلف، جذريا، عن تلك المألوفة، إذ لم يعد التنظيم الوسيط الوحيد لتلقي مقترحات الشباب وتصوراتهم، بل وسائط التواصل المرتبطة بالشبكات الاجتماعية، حيث يمكن، بكل حرية، خلق الاهتمام المشترَك بين العدد الأكبر من المنخرطين، بلا زعماء ولا تيارات ولا أجنحة. الشباب معني بالديمقراطية لقد أصبح الشباب الآن، وخارج الهم الآني لإسقاط الأنظمة الديكتاتورية، معنيا أساسا ببلورة صيغ لبناء الديمقراطية. إن حضورهم الآن هو أشبه ما يكون بريح سحرية تكنس عجرفة الغرب الذي ساند، لسنوات عديدة، مشاريع التسلط السياسي وتبني نموذجا للتحرر، خارج الدعوات الفاشية التي طبعت الكثير من المشاريع المرتبطة بحركة التحرر الوطني، العربية. لقد سبق لأحد زعماء الثورة الفرنسية مارا (Marat)، أن قال، مذكرا: «في ما يخص المسائل المتعلقة بالحرية والعدالة والانعتاق، فإننا ندين في كل شيء للتظاهرات الشعبية»، لننتبه إلى أن حركية الشباب تتضمن رفضا منهجيا لهيمنة الأجيال الهرمة والنخب السياسية المتآكلة، وإلى أنها تروم صنع تاريخها الخاص، انطلاقا من الأحداث والمَطالب الخاصة التي تميزها. لقد انبرى بعض الفعَلة داخل الأحزاب في المغرب إلى القول إن مطالب شباب 02 فبراير هي نفسها المطالب التي طرحناها ودافعنا عنها منذ سنوات، وهو قول لا يفصح إلا عن نصف الحقيقة، لأن الشعارات والمطالب من ابتكار الشباب وخاصة بهم، خصوصا أن الأمر لا يتعلق بكلمات واصطلاحات، بل بتصور جديد لمشروع مجتمعي بديل، تقاعست النخب الحزبية، منذ سنوات، عن الاضطلاع به. كل المشاريع المجتمعية التي تصب في خانة الحرية أصبحت ضرورية بالنسبة إلى هذه الأجيال الحديثة والعقلانية، والتي تتمرن على تعلم الفعل الاجتماعي والسياسي، بلا أوصياء ولا أباء، غير الرغبة في المصير المشترَك وبناء مشروع اجتماعي ديمقراطي وحداثي بالفعل، يهم الكل، بعيدا عن التصنيفات المتوارَثة، التي ظلت معها الساحة السياسية رهينة زعماء وفعَلة سياسيين بلا كاريزما ولا مشاريع... لم تعد التنظيمات الشبابية، المساهمة في طرح بدائل للمشاريع المجتمعية المعاقة، تتبنى تلك الهرمية العمودية التي تجعل عددا محدودا من الزعماء والقادة يقررون في تبني هذا الخيار أو ذاك، وهي البنية الهرمية التي غيّبت الديمقراطية الداخلية، كفكر وكممارسة، على مدى عقود. إن الشباب، الآن، يعتمد نوعا من البنية العرضانية (transversale) الشبكية والمتقاطعة التي تسمح لكل الخيارات والآراء بالتبلور والإعلان عن نفسها، في أفق اختيار بديل مشترَك ومتوافَق عليه. لن نتحدث عن شيخوخة الأحزاب، التي تعيد إنتاج شيخوخة الأنظمة وتكلسها، لأن الأمر صار من قبيل الوقائع المألوفة والمنتجة للكوارث والانفجارات، بل سنكتفي بالقول إن للشباب دورا أساسيا في طرح بدائل ومشاريع مجتمعية خاصة بهم وتهم مستقبلهم، لأنه -بكل بساطة- لم يعودوا يجدون أنفسهم في المشاريع التي قادت إلى الإخفاق والتيئيس والاستبداد والإقصاء، وعلى الكل الآن، أنظمة وأحزابا ونخبا، الإنصات إلى هؤلاء الشباب، لأنهم أعلنوا حضورهم الفعال بلا تردد ولا مواربة. من الضروري في المجتمعات العربية التي لم تعرف أي تداول سياسي حقيقي منذ انهيار جدار برلين وإخفاق المشاريع المجتمعية كلها منذ 8491 ونكبة ضياع فلسطين، وحتى الممارسات السياسية الاستبدادية لأنظمة كثيرة فقدت شرعيتها، من الضروري الإنصات إلى بدائل هذا الجيل من الشباب، الذين قد يزرعون روحا خلاقة أخفقت الأجيال من الكهَلة والشيوخ في إيجادها...