نزول مئات الآلاف من المتظاهرين في الميادين العامة في معظم المدن المصرية يوم أمس (يقصد الجمعة) للمطالبة بإقالة حكومة أحمد شفيق غير الدستورية، يشكل إحدى الضمانات الرئاسية لاستمرار الثورة المصرية، وحمايتها من أي محاولة لخطفها وتوظيفها لخدمة أجندات خارجية. الشيء نفسه يقال عن مظاهرات جمعة الغضب التي اندلعت وشارك فيها عشرات الآلاف في كل من تونس والأردن والبحرين واليمن وليبيا ومختلف أرجاء الوطن العربي، فحالة الصحوة العربية المترافقة بعزيمة قوية على التغيير وإطاحة الأنظمة الديكتاتورية القمعية الفاسدة مستمرة وبزخم فاق كل التوقعات وأقلق ويقلق مشاريع الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية. وتظل لمصر مكانة خاصة بحكم حجمها وقدرتها على التأثير في محيطها، ولعدم اكتمال عملية التغيير، والخوف من إعادة استنساخ النظام فيها بطريقة أو بأخرى، خاصة أن وزارة شفيق التي عينها الرئيس المخلوع حسني مبارك ما زالت تمارس مهامها وكأنها حكومة ميدان التحرير. فما سر هذا الإصرار على بقاء شخص مثل السيد أحمد أبو الغيط وزيرا للخارجية في هذه الحكومة، وهو الشخصية التي تشكل استفزازا للغالبية الساحقة من أبناء الشعب المصري، ناهيك عن الثوار في ميدان التحرير وميادين مصر الأخرى. هذا الرجل، أي أبو الغيط، يشكل وجوده إهانة لشهداء الثورة المصرية الذين ضحوا بحياتهم من أجل مصر جديدة تستعيد دورها الإقليمي والدولي المفقود على يد أمثاله الذين شوهوا هذا الدور بسياساتهم «الذيلية» لإسرائيل والولايات المتحدةالأمريكية. هل ننسى كلمات أبو الغيط الساخرة من الثورة التونسية المشرفة، وقوله إن انتقال هذه الثورة إلى مصر «كلام فارغ»، وهو الذي يتمسح هذه الأيام بالثورة المصرية، ومع ذلك يتمسك بوضع صورة الرئيس حسني مبارك في صدر مكتبه. وإذا كنا نسينا، ولو مؤقتا، سقطات السياسة الخارجية المصرية التي لا تحصى في عهده، وأبرزها التسلل الإسرائيلي إلى دول منابع النيل وتشجيعها على إعادة النظر في اتفاقيات توزيع المياه، فإننا لا يمكن أن ننسى تهديداته المقززة بكسر أرجل جياع قطاع غزة إذا ما هم تجاوزوا الحدود المصرية بحثا عن لقمة خبز وكسرا للحصار الظالم المفروض عليهم. ثم لماذا يبقى الفريق شفيق رئيسا للحكومة، وهو الذي يتباهى بكونه تلميذا نجيبا وصديقا مخلصا للرئيس المخلوع حسني مبارك وأدى القسم أمامه؟ ولماذا الاحتفاظ بوزير عدل متهم بتزوير الانتخابات الرئاسية عام 2005 حتى يفوز الرئيس مبارك بالأغلبية وبنسبة كبيرة من الأصوات؟ ثم يتم بعد ذلك اعتقال الدكتور أيمن نور لأنه تجرأ وخاض الانتخابات منافسة للسيد الرئيس، وتصدر الأوامر للصحف وأجهزة الإعلام بتشويه صورته وللأمن بشق حزبه. نفهم أن تتم محاسبة بعض رموز الفساد في مصر مثل أحمد عز وأحمد المغربي (الإسكان) وزهير جرانة (السياحة) وأنس الفقي (الإعلام) وأسامة الشيخ (الإذاعة والتلفزيون)، ولكننا لا نفهم عدم محاسبة الرئيس محمد حسني مبارك ونجليه وهم متورطون في قضايا فساد وجمع مليارات الدولارات من قوت الشعب المصري وعرقه. فكيف يتعرض وزير الإعلام الفقي للمحاسبة والاعتقال بينما ما زال صفوت الشريف يتمتع بالحرية ومعه العديد من إمبراطورية رؤساء التحرير، الذين عينهم عندما كان رئيسا لمجلس الشورى لممارسة سياسات الكذب والتضليل. ولعل الإهانة الكبرى تتمثل في تعيين السيد محمد الصاوي وزيرا للثقافة، وهو التعيين الذي أثار غضب الغالبية الساحقة من المثقفين المصريين عبروا عنه من خلال بيان شديد اللهجة أصدروه احتجاجا على هذه الخطوة. أنا شخصيا أؤيد مثل هذا الاحتجاج وأضم صوتي إلى صوت هؤلاء الزملاء، لسبب بسيط هو أن هذا الرجل، أي السيد الصاوي، استفزني بطريقة أفقدتني صوابي لما كشف عنه من أفكار وآراء لا يمكن أن تصدر عن عربي ومسلم. فقد دعيت، قبل أشهر، للمشاركة في مؤتمر دعت إليه الحكومة الألمانية حول الإسلام والغرب، من خلال «مواجهة» مع الصحافي الأمريكي توماس فريدمان، تكون بداية انطلاقة المؤتمر (فريدمان اعتذر لأسباب ما زلت أجهلها واستبدل بصحافي أمريكي آخر). المفاجأة عندما قدم السيد الصاوي مداخلة في المؤتمر قال فيها، بالحرف الواحد، إنه يؤيد قرار كانتون جنيف بمنع بناء المآذن لأنه، كمهندس معماري، يرى أن منظرها منفر، وتمنى ألا تصبح جنيف مليئة بالمآذن المنفرة مثل القاهرة. ذهلت من صدور مثل هذه الأقوال عن إنسان عربي ومسلم، وفي حضور أكثر من خمسمائة شخص يمثلون نخبة المجتمع الأكاديمي الألماني، علاوة على العديد من السفراء والإعلاميين، وطلبت الكلمة ورددت عليه بكلمات منفعلة من شدة الغيظ، وقلت له إن المآذن من أجمل إبداعات العمارة الإسلامية، وإن ملايين السياح الأجانب يتدفقون على القاهرة وإسطنبول للتمتع بمنظرها الخلاب، وخاصة الجامع الأزرق التركي الشهير. فهل يعقل أن يكون الوزير المعين في مصر، التي توجد فيها مئات الآلاف من المآذن، وزيرا للثقافة المصرية في مرحلة التغيير الحالية التي رسخ أسسها الثوار الشباب بدمائهم وأرواحهم؟ هذا السؤال نوجهه إلى رئيس المجلس العسكري المصري الذي يتولى حاليا مهام الرئاسة في البلاد بعد خلع الرئيس حسني مبارك! مصر مليئة بالرموز الوطنية المشرفة، وليس من المنطقي أن يتم الاحتفاظ بوزير خارجية فاشل في منصبه، ووزير داخلية يتظاهر مئات الآلاف لعزله، ووزير ثقافة يكره المآذن ويعتبر منظرها منفرا. نحن نحيي القوات المسلحة المصرية ونعترف لها بوطنيتها، وحقنها لدماء المصريين، ورفضها إطاعة أوامر قائدها الأعلى المخلوع بالانحياز إلى نظام ديكتاتوري فاسد، وإطلاق النار على المنتفضين الشرفاء. ويكبر هذا الدور في أعيننا وقلوبنا عندما نرى بعض وحدات الجيش الليبي تطلق النار على المتظاهرين وتقتل أعدادا كبيرة منهم، ولكننا نتمنى على المؤسسة العسكرية المصرية أن «تنظف» البلاد من بقايا النظام السابق، وتفسح المجال لتولي شرفاء مصر مسؤولية قيادة المرحلة الجديدة، وهي قيادة يستحقونها عن جدارة. المظاهرات المليونية التي انطلقت في جميع أرجاء مصر بالأمس (يقصد الجمعة) تؤكد تصميم الثورة على تحقيق أهدافها كاملة، باجتثاث النظام ومحاكمة رموزه وإنهاء «دويلة» شرم الشيخ.