قبائل البدو بثلاثة فوارق والمشكلة في هذه الأجهزة الأمنية أنها تشبه قبائل البدو بثلاثة فوارق: - الأول، أن شيخ القبيلة الأمنية يلبس نظارة إيطالية، ويزركش صدره بربطة عنق أمريكية، وتحته سيارة مرسيدس ألمانية، ويحمل في يده سلكا كهربيا صينيا للضرب واللسع. - والثاني، أن من يدخل في جوار شيخ القبيلة لا أمان له ولو كتب له الشيخ كتاب أمان، لأن مضارب القبيلة غير مرتبطة بالجغرافيا؟! وكل الوطن هو مضرب شيخ أي قبيلة، فقد يقع المواطن في قبضة شيخ هذيل من المخابرات العسكرية، مع أنه في أرض الدوسي من قبائل المخابرات الجوية، وشيخ أي قبيلة يمكن أن تطال يده مضارب كل القبائل في كل الوطن. وهو قانون ساري المفعول لكل شيوخ القبائل في كرم حاتمي على حساب مواطن مستباح مركوب مثل البغل المسرج يعتلي ظهره تسعة عشر رفيقا ثوريا، وهو عرضة للاعتقال في أي لحظة على يد أي فرد من أي قبيلة في أي مكان. إنها تركيبة عبقرية أنشأها حافظ الأسد، كما نرى، تدرس في الجامعات الكندية في قسم العلوم السياسية كنموذج فذ لعبقرية عربية في ضبط الشعوب. ويمكن لفرعون أن يستدعي رئيس السحرة وهامان وقارون في أي ساعة من السحر، فيوقظ شيخ أي قبيلة للإجابة عن ملف أي مواطن. ولا يدخل على الطاغية أكثر من جنرال، فقد يتفق الثلاثة إذا جمعتهم الصدفة على أن يعتقلوا الرئيس طالما كان السلاح هو الحكم. - والفارق (الثالث)، أن هذه القبائل الأمنية في حالة حرب دائمة، فلا تعرف الأشهر الحرم بل السبق الأمني، ولا حرمة كعبة وقبلة وبيت، ولا امرأة وطفلا وشيخا مقوس الظهر، بل الكل يتنافس في اعتلاء ظهر مواطن لم يعد فيه مكان للركوب. والنتيجة التي تتولد من نمو هذه السرطانات في الأمة أنها تصبح أجهزة رعب يجب فكها، كما جاء في كتاب «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» لفرانسيس فوكوياما، حينما أرسلت الأجهزة الأمنية في روسيا زوجة مولوتوف، وزير الخارجية، إلى معسكرات الاعتقال. وكانت نظرة سيئة من ستالين إلى أحد أعضاء المكتب السياسي تكفي كي يرجف ذعرا بقية حياته. ومات شنقا وحرقا وغرقا وبالرصاص على يد (بيريا) رئيس الK.G.B، الاستخبارات الروسية، في تطهيرات عام 1938م ما يزيد على 800 ألف من أفضل مواطني الاتحاد السوفياتي، كما جاء في «الكتاب الأسود» للشيوعي المخضرم ستيفان كورتوا، حيث هيأ للهزيمة الساحقة أمام زحف القوات النازية عام 1940م. فلم يبق مواطن يدافع عن الوطن بل ستالين والعصابة. وهو ما يفسر السقوط السريع لصدام المصدوم في العراق بعد أن كون جيشا باسم فلسطين من مليون مقاتل، فهربت الجرذان والفئران إلى الجحور والبلاليع لما رأت جنود الأمريكان. وإذا صحت الرواية التي تقول إن من شفع لنظام الأسد بالبقاء هو إسرائيل نكون، فعلا، أمام نكتة كبيرة لا تضحك أحدا، مطبقة أصول الفقه فتتحمل الخطأ الأصغر من بقاء ديكتاتور ترانزستور نجاة من الهول الأعظم ويقظة الشعوب كما حصل في يناير 2011م في تونس ومصر، أن تنتقل الفوضى إلى حدود بني صهيون، فبقي نظام الرفاق يلعن بوش، وبوش من أبقى عليه، بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من قبض الروح ودنو الأجل. واليوم بلغت الدول العربية من الهشاشة الداخلية ما قد ترحب معه بأي هجوم خارجي يوحي إليها بأنه جاء لتخليصها من الطغيان. وأذكر جيدا إذاعة إسرائيل في حرب، عفوا هزيمة 1967م، حين كان جيش الدفاع الإسرائيلي يدعو المواطن العربي إلى التخلص من حكامه، وجيش الدفاع سوف يساعده في هذه المهمة. إنها حرب نفسية، أليس كذلك؟ بعد أن بدأ المواطن العربي يفكر في الخلاص ولو على يد إبليس وذريته أجمعين. واليوم كما تقول مجلة «در شبيجل» الألمانية، تحوَّل الوضع في بعض الدول، بحيث أصبح الحال أنه ليست فيها مافيات بل كل الدولة مافيا. وإذا حدثت الكوارث الاقتصادية أو تم دفن النفايات النووية، أو حلت بها الهزائم العسكرية وهي تتبجح بالانتصارات، أو انهدمت السدود فوق رؤوس الناس بأشد من سيل العرم (كما حدث في سد زيزون)، فكلها تحصيل حاصل وأمر طبيعي أمام نمو تنينات الأجهزة الأمنية. المفارقات في تركيبة الأجهزة الأمنية ثلاث المفارقة الأولى أن الحاكم يظن أن خلاصه بالإغداق عليها، وهي -كما يقول المثل العربي- سمن كلبك يأكلك، ومقتل القياصرة جاء من ضباط الحرس الإمبراطوري على يد أقرب الناس إليهم. والمفارقة الثانية أنها تمسك الناس بالرعب، وهي مرعوبة أكثر من الناس. وأستاذ المدارس سابقا كان يحرص على ضبط الصف بالتلويح بالعصا، ويعمد مروض الأسود في السيرك إلى التلويح بالسوط أو فرقعته وقرقعته في الجو بدون إيذاء الحيوان الضاري. وتضبط الأجهزة الأمنية الناس بالرعب باعتقال أقل عدد من الناس وتجميد البشر في مربع الخوف، كما تفعل الأفعى مع الفريسة، فكلها أساليب نفسية لضبط الحيوان والجمهور. مع ذلك، فهدمها سهل كما تنهدم السدود بشق بسيط. ولكن أين الخبير الذي يفجر سد الخوف هذا، فيتحرر الناس من ضغط أطنان المياه؟ والمفارقة الثالثة أن حماية شخص تحتاج إلى فرق حراسة شخصية، ولكن حماية الحاكم من كل الشعب تحتاج إلى جيش كامل من الحرس والجواسيس والإعلاميين وأجهزة تحقيق وتعذيب ومكاتب إعلامية وإذاعات وشراء أصدقاء في الخارج والداخل. إنها، كما نرى، ميزانية لا نهاية لها لدول لا يجد المواطن فيها الخبز. وهي كما يقول النيهوم «المشكلة التي تعاني منها ميزانيات الفقراء في العالم الثالث بالذات لأنها محنة تعيش بين الفقراء وحدهم كما تعيش البراغيث في فروة الثعلب المسكين». فك السحر وكسر الطلسم وفك هذا السحر يحتاج إلى كيمياء خاصة من مجموعة عناصر تمزج بشكل جيد لفك حزام الرعب. الحقيقة الأولى أن عصر الجليد انكسر وذاب، وأن عصر الديناصورات انقرض وولى، وأنهم يكافحون حتى الرمق الأخير للاحتفاظ بامتيازاتهم، وأنهم يشبهون ساحرات العصور الوسطى فيقاتلون بالمكانس الأطباق الطائرة من فوقهم التي تطير بسرعة الضوء. ومع أنهم ينفقون لمراقبة الأنترنيت أكثر مما أنفقوه لبنائه فسينفقون أموالهم للمخابرات، ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون. والحقيقة الثانية هي الاستعداد للمقاومة المدنية وعدم اللجوء إلى استخدام القوة والسلاح والعنف، فليس أسهل من إطلاق الأجهزة الأمنية بدعوى الحفاظ على الأمن عندما تندلع أعمال العنف، ولأنهم يتمنون ذلك ونكون بذلك دخلنا بطن الحوت من جديد من حيث أردنا أن يلفظنا من جوفه كما فعل مع النبي يونس. والحقيقة الثالثة أن هناك جوهرا صاعقا وسرا مكنونا في الإنسان لا يمكن إطفاء سراجه، وسحرة فرعون كانوا يريدون المال فقالوا أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين؟ والحقيقة الرابعة هي ممارسة العمل العلني وتوريط النظام في أكبر عدد ممكن من المعتقلين وتفجير السجن من داخله، لأن النظام لا يمكن أن يعتقل عشر الأمة ولا ثلثها، وهو بالتوسع في قاعدة الاعتقال يوفر المناخ لولادة العمل الديمقراطي والقيادات التي أنضجتها نار المحنة. والحقيقة الخامسة أن تكون المحنة ضمن التحدي الملائم. وفي كثير من الأقطار العربية، طحنت المعارضة بسبب أعمال العنف، فلم تأت المحنة ضمن الوسط الذهبي. والأجهزة الأمنية تتمنى أن تكرر المعارضة نفس الحماقة ليبقى وجودها مبررا ومكاسبها عامرة إلى يوم الدين. وحتى يعود الوعي من المنفى تسبح الأمة في بحر الظلمات بدون خارطة وبوصلة تسمع دمدمة جن الأجهزة الأمنية فترتعش فرقا وتتصبب عرقا.