قال يحيى اليحياوي، الأستاذ والباحث في علوم الإعلام والاتصال، إن الحركات الاحتجاجية في المغرب لم تلهم «الفنان» المغربي منذ نهاية عقد سبعينيات القرن الماضي، على عكس ظاهرة «ناس الغيوان» الخالدة، التي صورت أفلاما قوية، وإن على قلتها، وروجت أغاني «راقية»، طبعت المرحلة برمتها وما تزال تعتبر من أقوى وأروع ما أبدعه فنانو المغرب. وأكد يحياوي أن المشاريع المقدمة للمركز السينمائي المغربي، والتي يتم دعمها، لا تُعبِّر -في معظمها- إلا عن حداثة «مبتسرة»، تقدم العري واللقطات «الجريئة» والمَشاهد التي قد تصل إلى درجة «خدش» الحياء في مجتمع محافظ، كالمجتمع المغربي. إلى أي حد يستجيب الفنان المغربي لتطلعات الشعب المغربي عموما وللشباب على وجه الخصوص؟ - هذا سؤال كبير وفضفاض للغاية ويستوجب تحديد ماهية الفنان والمقصود من تطلعات الشعب والشباب. ثم إن المجال، مجال الفن، واسع للغاية، أيضا، إذ يضم روافد عدة، لعل أبرزها السينما والتلفزة والمسرح والأغنية، وإلى حد ما، الريشة في الشق التشكيلي للفن. نفس الشيء بالنسبة إلى مفهوم الشعب، إذ يضم، على الأقل من الناحية العملية (ولندع جانبا الشق الفلسفي المعقد)، شرائح وطبقات وأذواقا وآمالا مختلفة ومتباينة. ومع ذلك، أقول، بداية، إن ما يروج منذ مدة في المغرب لا يمتّ للفن بصلة، فما بالك أن يكون تعبيرا عن تطلعات شعب أو انتظارات شباب. أنا أزعم أن ما يروج «باسم الفن» أو تحت ادعاء أنه فن، إنما هو أغان «ماسخة» وأفلام رديئة ومسلسلات تافهة وعروض مسرحية تبعث على التقزز أكثر مما تستنبت طقوس الفرجة والمتعة، ولوحات تشكيلية «لا نفهم» ألوانها وتعقيداتها المُبالَغ فيها قصدا، فما بالك أن نفهم ما «تُعبّر» عنه في الفكرة أو المضمون. ثانيا: أعتقد أن كلمة «فنان» في المغرب لا تنطبق إلا على عدد محدود قد لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، أعني الفنان العاشق لما يقوم به، المتمكن من أدواته والمؤمن بأن الفن رسالة قبل أن يكون «تجارة» أو مصدر رزق أو اغتناء وأبهة اجتماعية... وما عدا هؤلاء، وهم معدودون ومعروفون، فنحن إزاء أناس «مهرجين» وجهَلة ولا علاقة لهم بما يسمى «الفن»، لا يشفع لهم إلا كونهم يبحثون عن لقمة الخبز، هنا أو هناك، وهذا باعتراف الكثير منهم على أي حال، وهذا أمر قد نفهمه ونتفهمه. ثالثا: لا أعرف، حقيقة، ما المقصود بعبارة الشباب، هل المقصود هم أولئك الذين يحضرون عروض نانسي عجرم و«جذبة» الستاتي و«عبيدات الرمى» ويتماهون مع «البيغ» وغير ذلك؟... لا أعرف من هم ولا أعرف هل لهم نفس التمثل عن الفن الذي نعرف، والذي مؤداه أن يكون الفن رسالة مغلّفة بجمالية وترتقي بالذوق العام، لا بل وتطبع مرحلة من المراحل، أم يفهمون الفن ب«طريقتهم». الأكيد، في كل الأحوال، أن السياسة في المغرب لم تفرز لنا إلا شبابا ضائعين بين هذه الموجة أو تلك، مسلوبين من لدن هذا التيار أو ذاك، غير قادرين على تمييز الجيد من الرديء، وبالتالي، يتعذر علي الجواب عن هذا السؤال. هل تنعكس القضايا الوطنية والأوضاع الاجتماعية على الإبداع الفني، على اختلاف أشكاله، في المغرب؟ -لا أعرف حقيقة عن أي إبداع فني تتحدثون. أنا، صراحة، لا أراه لا في التلفزة ولا في السينما ولا في المسرح ولا في بعض أروقة المعارض في المدن الكبرى، ولا أسمعه في ما أسمع من أغان هنا وهناك. يبدو لي أن ثمة «موجة» من الرداءة «ضربت» البلاد منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، حتى بات اليوم «كل من هب ودب» إما مغنيا أو ممثلا أو «فنانا» تشكيليا» أو «نجما» من النجوم في هذا «الكباري» أو ذاك. بالمقابل، نلاحظ، منذ مدة، أن ثمة محاولات للاقتراب من المتلقي بهذا الشكل أو ذاك، لكنها تبقى أقرب إلى التصنع منها إلى الحقيقة. أقول، صراحة، إن الحلَقة المفقودة في الفن في المغرب هي الإبداع، لأن هذا الأخير هو قلب المنظومة، وما دام هذا القلب مغيَّبا، فإننا نستخدم عبارة الفن هنا من باب التجاوز... أي بحكم عدم وجود صفة معبرة ودالة، وإلا فلنترك لكل من أراد أن يلصق بنفسه «الصفة» التي تريحه يفعل ذلك... يقدم المركز المغربي السينمائي المغربي، كل سنة، دعما للإنتاج الفني، وخلال سنة 2010، أنتجت في المغرب 15 فيلما طويلا و60 فيلما قصيرا، في نظركم، هل تلبي هذه الإنتاجات حاجة المتلقي المغربي؟ - لو أردنا إعادة صياغة السؤال بدقة أكثر، لقلنا التالي: هل يقدم المركز الدعم أصلا لهذه الغاية؟ هل المقياس لديه في منح الدعم لهذا الفيلم أو ذاك هو مقياس مدى ما قد يلقاه أو لا يلقاه من استحسان لدى المتلقي؟ لست متأكدا بالمرة، على الأقل، بالاحتكام إلى طبيعة وصفة من يحصل على هذا الدعم، والذي لا يُطالَب دائما بتسليم مسودة العمل للمركز أو يقدم فواتير التكاليف التي تحمّلها في كل أطوار تنفيذ العمل. بالمقابل، فالمشاريع المقدمة للمركز، والتي غالبا ما يعتمدها هذا الأخير، لا تعبر في معظمها إلا عن حداثة «مبتسرة»، تقدم العري واللقطات «الجريئة» والمَشاهد التي قد تصل إلى درجة «خدش» الحياء في مجتمع محافظ كالمجتمع المغربي، تقدمها كتعبير عن هذه «الحداثة» المتأخرة، وكأني بكتاب السيناريو والمخرجين هؤلاء يعيشون مرحلة «مراهقة متأخرة»، لم يجدوا قناة ل«تفجيرها» إلا في أفلام من هذه «الطينة»... ثم إن هؤلاء، وبعضهم لا يتحدث العربية ولا يعرف المغرب إلا في المظهر والقشور، ولا يراهنون على المتلقي المغربي، إنهم يقدمون مادتهم ل«الغرب» وللمهرجانات هنا أو هناك، علهم يحصلون على «فتات» من هذه الجائزة أو تلك، وغالبا ما تكون للمجاملة الصرفة، أو لأن المغرب، بلد هذا الفيلم أو ذاك، هو المحتضن لهذا المهرجان أو ذاك. وبالتالي، فأنا أظن أن المنتوج السينمائي لا يخرج، بدوره، عن الرداءة المعمَّمة التي عمت المجال الفني في المغرب لأكثر من عقدين ونصف، وما تزال «تضرب الأطناب» بين ظهرانينا، دون حسيب أو رقيب، لا بل ولربما عن قصد وسابق إصرار. فتحت «حركة 20 فبراير» العديد من الملفات، في رأيك، إلى أي حد يسارع الفنان المغربي إلى التجاوب معها من خلال إبداعه؟ - 20 فبراير ليس تاريخا مفصليا من المفروض أن نقيس عليه هذا السلوك أو ذاك. هذا معطى لا يبدو كبير الأهمية، كما هو الحال مع 11 يناير في تونس و25 يناير في مصر، حيث الدلالة قوية والعبر واضحة لا تقبل «المزايدة» أو «التخفي» خلف هذا الادعاء من «الاستثناء» أو ذاك. ثانيا: أنا لست متأكدا من أن «الفنان» المغربي يلتقط كذا إشارات وقضايا ويترجمها إبداعا ويعمل على تصريفها في أعماله. الفنان عندنا، خلال السنين الأخيرة، خصوصا، «جبان»، تماما كرأس المال. عندما تأتي الشدائد، «يختبئ» ويهرب أو يشتغل على التفاهات، وعندما ينفرج الأفق، يعود ثم يدّعي «البطولة» والجرأة على تناول القضايا... والدليل على ذلك أن معظم من يسمون أنفسهم اليوم مخرجين سينمائيين لم يكتشفوا «تزمامارت» كمادة سينمائية إلا بعد رحيل الملك الحسن الثاني وانفضاح أمر هذا السجن في العالم.. ومنهم من جاهر بذلك صراحة، كحسن بنجلون، الذي اعترف بأنه لم يكن يتوفر على «الجرأة» على تناول الموضوع حينها، جراء «الخوف» من العواقب، وكذلك كان حال الطاهر بنجلون، الذي لم يأته «الوحي» للكتابة عن «تزمامارت» إلا بعد الانفراجات النسبية التي حملها عهد الملك محمد السادس في بداياته الأولى، أما ما قبل ذلك، فكان في باريس، يكتب للفرنسيين، ولم تكن لديه أدنى معرفة أو اهتمام بما يكابده المغاربة داخل هذا المعتقل الرهيب، ناهيك عما يكابدونه في معيشهم اليومي الصعب... عندما «لا يلتقط» الفنان الأحداث الكبرى ويصرفها إبداعا، وفي حينها ولا يشتغل عليها إلا عندما تمر «العاصفة»، فأنا أعتبره خادعا ومنافقا وكذابا و«مرتزقا»، وبالتالي يجب مقاطعته، بالجملة والتفصيل... أقول هذا، لأنني أعتبر الفنان حامل هموم شعبه في الزمان والمكان، المُعبِّر، لا بل والمؤرخ، بالصوت والصورة، عن المنعرجات الكبرى التي تقيد مجتمعه وترهن مستقبله. إن الفنان صاحب رسالة تدخل كل البيوت وبدون استئذان، وبالتالي فهو مربٍّ ومؤطر ومناضل وما عدا ذلك. إذا لم يكن في مستوى هذه المسؤولية، فليذهب إلى العقار والمسمار، حيث «المضاربة» شبه مشروعة، ولا مجال للأخلاق أو الدفاع عن قضايا المجتمع. ما تقييمك للتواصل الحاصل بين الفنان والاحتجاجات مقارنة مع باقي الدول، مثل مصر؟ - ما وقع في مصر لا يقاس عليه في حالتنا في المغرب. لقد كان الفنان في مصر، تاريخيا، إلى جانب الشعب، ولك أن تسمعي أغاني أم كلثوم وعبد الحليم عن ثورة عبد الناصر وإنجازاته، ولك أيضا أن تشاهدي فيلم «الأرض» أو «المواطن مصري» أو غيرها من الأفلام، وهي كثيرة. الفن، في هذه الحالة، تاريخ لمرحلة، إحساس بنبض شعب، إنصات إلى تطلعات أمة، وليس مشروعا تجاريا أو استثماريا، «يقتنص الفرص» من أجل «الربح» وينتظر المناسبات ل«التحايل» على المال العام... حالة مصر اليوم ومن ذي قبل، عرفها مغرب الستينيات، ولاسيما السبعينيات، حين «تفجرت» ظاهرة «ناس الغيوان» الخالدة، التي صورت أفلاما قوية، وإن على قلتها، وروجت أغاني «راقية»، طبعت المرحلة برمتها وما تزال تعتبر من أقوى وأروع ما أبدعه فنانو المغرب. أما للرد على سؤالك مباشرة، فأقول التالي: لا أظن أن الحركات الاحتجاجية في المغرب قد ألهمت «الفنان» المغربي منذ نهاية عقد سبعينيات القرن الماضي، والعديد من «فناني» هذا الزمن الرديء خيبوا آمال المغاربة، إما عن جهل، وهذا يمكن تفهمه، أو عن تجاهل، وهذا تقصير صارخ من لدنهم قد يبلغ مستوى الخيانة لرسالتهم.