من المعلوم أن جهازي الشرطة والجيش إنما وجدا لحماية ما يسمى الدولة، والدولة إنما وجدت بوجود شعب فوق أرض، ومن ثم تكون حماية الدولة بالضرورة هي حماية الشعب. صحيح أنه قد يرتكب الخطأ من قبل مجموعة من الشعب كما هو حال المشاغبين لسبب من الأسباب، فيكون تدخل الشرطة من أجل الشعب ضد المجموعة المشاغبة وليس ضد الشعب برمته، ويكون هذا التدخل في محله لأن فئة من الشعب لم تلتزم بما تلتزم به بقية الشعب. وحتى في هذه الحال، لا بد من قرار القضاء لتحديد طريقة التدخل ضد الفئة المخلة بالقانون. ولا يعقل أن يكون التدخل بطريقة عشوائية لفض الشغب وتفريق أصحابه. فالقضاء له نصوص قانونية تحدد العقوبات الواجب اتخاذها ضد كل نوع من المخالفات. فإذا ما أقر القضاء نوع التدخل وطريقته ووسائله بناء على سلطته التقديرية القانونية، وجب على أجهزة الأمن أن تلتزم بما قرره القضاء ليكون القضاء هو المسؤول وليست أجهزة الأمن. فإذا ما ترك الأمر لمسؤولي الأمن لتقدير كيفية التدخل والمعالجة ووسائل التدخل، فهذا يعني أنهم قد حلوا محل أجهزة القضاء. وفضلا عن ذلك، من يضمن أن تكون سلطة مسؤولي الأمن التقديرية صائبة في اختيار نوع التدخل المناسب؟ ومن يضمن أن تفهم عناصر الأمن الأوامر الصادرة لها وتلتزم بها حرفيا؟ لقد نقلت إلينا وسائل الإعلام صورة شاب مصري يقف أمام عناصر شرطة وهو يعرض عليهم صدره في حركة تحدٍّ لهم، ولم يتردد هؤلاء في إطلاق النار عليه وأردوه قتيلا. فبأي حق قتل هذا الشاب؟ وهل مجرد تحدي الشرطة بهذه الطريقة يعطيها حق إطلاق النار عليه؟ وهل هذا النوع من التحدي كان يمثل تهديدا لحياة عناصر الأمن التي تتذرع، في الغالب، بالدفاع عن النفس؟ وأي قانون يسمح لعناصر الأمن باستعمال خراطيم المياه الضارة ضد جماعة تؤدي الصلاة؟ وأي قانون يسمح لعناصر الأمن باستخدام القنابل المسيلة للدموع؟ وهل تأكد عن طريق الخبرة الطبية أن هذه القنابل لا تمثل خطرا على صحة الإنسان وليست لها مضاعفات؟ أليست هي نفس القنابل التي تستعملها إسرائيل ضد الفلسطينيين متعمدة إلحاق الضرر الجسدي بهم باعتبارها دولة محتلة خارجة عن ضوابط القانون؟ وأي قانون أجاز نوع العصي والهراوات التي تستعملها عناصر الأمن ضد المتظاهرين؟ فمن المعلوم أن عقوبة الجلد في الإسلام -وهي عبارة عن ضرب بالسياط- مقننة جدا، إذ لا يجوز أن يكون الجلاد أضخم بنية جسدية من المجلود، وربما قيدت حركة الجلاد بوضع كتاب تحت إبطه للحد من قوته باعتبار درجة تحمل المجلود. فمن يضمن أن يكون استعمال الهراوات والعصي بنفس الوتيرة ونفس القوة عند كل عناصر الأمن وهم يختلفون في قواتهم البدنية وطريقة ضربهم للناس؟ ومن يضمن ألا يكون نصيب الضعاف من نساء وأطفال وشيوخ من الضرب أقل من نصيب الأشداء؟ ومن يضمن ألا تتعدى عناصر الأمن الوسائل التي زودت بها إلى الركل واللطم والصفع على الوجوه وعلى المواضع الحساسة والقاتلة كما شاهدنا في أحداث تونس ومصر؟ علما بأن دين الإسلام يحرم ضرب الوجوه مهما كانت الظروف تكريما للإنسان. وأي قانون يجيز أن تعتدي فئة من الشعب مسلحة بالسلاح الأبيض والهراوات وقنابل المولوتوف والقنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي والخيول والجمال على فئة أخرى ليس معها شيء من ذلك؟ وأي قانون قيد حركة الجيش المصري وهو يرى فئة مسلحة تهاجم أخرى مسالمة؟ ولماذا لم يتدخل الجيش لمنع الفئة المسلحة من ارتكاب مجزرة؟ وهل كانت فئة ما يسمى «البلطجية» محقة في ما فعلته ولها مبررات يقرها القضاء بقانون مشروع، وهي مجرد خليط من عناصر الأمن، بلباس مدني، والمجرمين كما أكدت ذلك اللجان الشعبية التي اعتقلت بعضهم وسلمتهم إلى الجيش؟ وأي قانون يجيز لعناصر الأمن أن تلبس اللباس المدني وتقف إلى جانب فئة من الشعب ضد فئة أخرى؟ وأي قانون في العالم يجيز منع التظاهر السلمي؟ وأي قانون في العالم يسمح للأنظمة بأن تمنع التظاهر السلمي، ويستعمل القوة المفرطة ضد المتظاهرين؟ وأي قانون يسمح بإزهاق الأرواح في التظاهرات السلمية وبأعداد كبيرة كأعداد من يسقط في الحروب؟ أليس تنفيذ حكم الإعدام يقتضي حكما قضائيا ومداولات ودفاعا وصيانة لكرامة من ينفذ فيه؟ وما الذي يمكن قوله عن الذين نفذ فيهم حكم الإعدام من طرف عناصر الأمن والبلطجية وابتذلت كرامتهم في الشوارع والطرقات وتم التنكيل بهم بشكل وحشي؟ إن ما وقع في تونس ومصر، وغيرهما من البلاد العربية، يقتضي مراجعة دور الأجهزة الأمنية ودور الجيوش لضبطها بالقوانين عوض تسليطها على الشعوب بطريقة غير قانونية من أجل حماية الأنظمة المسؤولة مسؤولية مباشرة عن اندلاع الثورات الشعبية. فالشعبان التونسي والمصري لم يخرجا للتظاهر دون سبب وجيه بل إن الخروج كان بسبب تفاقم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفشل النظامين في التدبير والتسيير. والأجهزة الأمنية والجيوش يجب ألا تكون مجرد مخلوقات بلا عقول تستغل كما تستغل الحيوانات أو الجمادات بل لا بد من أن تكون مزودة بثقافة قانونية لمعرفة مهامها، فلا يكفي أن يكون رجل الأمن أو الجندي قوي البنية وبلا عقل وبلا علم وبلا ثقافة وبلا عاطفة إنسانية. ومن غرائب الأمور أننا شاهدنا عبر وسائل الإعلام أفراد الأمن التونسي يتباكون بعد فرار الرئيس التونسي ويعانقون المواطنين ندما على ما كان منهم، كما شاهدنا عناصر من الجيش التونسي والمصري تعانق المواطنين، مما يعكس عواطفها، ولكن أين كانت العواطف عندما كانت عناصر الأمن تلك تؤمر بالعنف ضد المواطنين من طرف النظامين المستبدين فتنفذه؟ وبناء على التجربتين التونسية والمصرية، يمكن القول إن الشعوب العربية تعيش بدون حماية قانونية في حالة التظاهرات السلمية، وإنها معرضة للعنف والموت على أيدي عناصر أمنها وجيشها، وإن جهازي الأمن والجيش في البلاد العربية يحميان الأنظمة ولا يحميان الدولة والشعب. وعلى الشعوب العربية أن تبحث عمن يحميها مستقبلا أو تفكر في وسائل حماية نفسها على طريقة اللجان الشعبية التونسية والمصرية التي واجهت عناصر الأمن المتحالفة مع المجرمين ضد الشعب. محمد شركي - مفتش ممتاز للغة العربية بالتعليم الثانوي