كطفلة صغيرة تغط في نوم عميق، بعد أن ناولتها ابنتها مهدئا، هكذا كانت تبدو عائشة ذات ال75 سنة، وهي ملفوفة في غطاء بركن في غرفة بيتها الكائن بحي المعاريف بالدار البيضاء، بعد أن تمكن منها مرض ألزهايمر وحوّل نشاطها إلى جمود تام. سكون قاتل يخيم على شقتها، التي لا تسمع فيها سوى شخيرها، وبين الوقت و الآخر تحرك يديها و لاشيء غيرهما. كانت تفتح عينيها الذابلتين بضع ثوان فقط ثم تغمضهما من جديد، وهي لا تدري ما يدور حولها، بسبب مفعول المهدئ الذي تناولته. «هذه المهدئات لجأنا إليها مضطرين كي نرفق بحالتها، حيث يبدو عليها الإرهاق باستمرار وتدخل في تفاصيل أحاديث كل أحداثها من الماضي، وهو ما يؤثر فينا و يبكينا أحيانا» تقول ابنتها. أغلب تلك الأحداث التي تحكي تفاصيلها المملة بالساعة والدقيقة، تقول ابنتها، حدثت خلال الثلاثين أو الخمسين سنة الماضية. تنادي عائشة أمها باستمرار، وتطالب أبناءها، الذين لم تعد تذكر منهم أحدا، رغم أنهم يعرّفونها بأنفسهم بشكل يومي، بالذهاب معها إلى البادية التي ترعرعت فيها لجني الثمار من حقل والدها، الذي كانت تترنم و تلعب بين أشجاره في طفولتها، وكانت تجني منه أعشابا ونباتات مثل «حبة حلاوة»، وهو الحقل الذي تجني منه أحاديثها اليومية إن هي رغبت في الكلام وهو ما تكرهه الأسرة. خمس سنوات مرت حتى الآن على إصابة عائشة بمرض ألزهايمر، الذي شبهته ابنتها بوحش مفترس لأنه يحطم كليا حاضر ومستقبل الإنسان. «المصاب بألزهايمر يبدأ تدريجيا في الانهيار إلى أن يتلاشى وجوده المعنوي كليا، ويصبح جزءا من الماضي، بل يصير هو الماضي نفسه، إذ يتذكر تفاصيل ما عاشه منذ خمسين سنة أو أكثر دون أن يتذكر ما فعله قبل دقيقة أو دقيقتين» تقول سعيدة ابنة عائشة. كانت عائشة تستقر في بيت من عدة طوابق بحي سيدي عثمان منذ أن تزوجت بالدار البيضاء قبل أن يضطر الأبناء ووالدهم، الذي حيره مرض زوجته، إلى بيع المنزل واقتناء شقة بعد أن بدأت علامات المرض تظهر على زوجته التي غادرها كل الأبناء إلى منازلهم الخاصة. بدأت عائشة تجد صعوبة في تذكر الكثير من الأشياء بمنزلها وهو ما دعا زوجها إلى بيعه واقتناء شقة أخرى لأن الشقة القديمة كانت فسيحة. ومع تفاقم المرض ظلت حالات الشرود والنسيان تزداد لدى عائشة حتى صارت تنسى أين توجد بعض الغرف بمنزلها، وهو ما دفع الزوج مرة أخرى إلى بيع الشقة واقتناء أخرى أصغر مساحة لعلَ ذلك يساعدها على أن تعيش حياتها بشكل طبيعي وبدون توتر، إذ إن محاولتها وإلحاحها على التذكر أو الاهتداء إلى شيء ما كانا يزيدان من ضغطها النفسي. بعض أبناء عائشة يقولون إن والدتهم كانت ضحية، معللين ذلك بأن المرض ما كان ليفتك بها لو أنها كانت حرة طليقة، إذ أن منع والدهم لها من الخروج منذ أن تزوج بها أزيد من خمسين سنة مضت كانت سببا رئيسيا في إصابتها، فالحلقة التي كانت تتحرك فيها كانت جد محدودة، ودليل ذلك ما تتذكره حاليا، يقول أبناؤها، إذ بالإضافة إلى الحقل الذي كان بالقرية التي ولدت بها، تتذكر الأم دائما مُرافِقتها (السيدة التي تستعين بها الأسرة لخدمة أمهم)، التي تطلب منها باستمرار أن تحضر الأكل لأبنائها، رغم أنها، بالإضافة إلى إصابتها بالمرض، فقدت بصرها، وهو ما عمق من معاناتها و معاناة الأبناء أيضا الذين لم يعودوا قادرين على رؤية والدتهم وذاكرتها تَمَّحي يوما بعد آخر، وهم عاجزون عن فعل أي شيء. «اختفت تلك المرأة الرزينة والحاذقة والخلوق وأصبحت من الماضي» تقول سعيدة بأسف واضح، وهي تحكي كيف أن والدتها كانت تتقن الأشغال المنزلية، وكانت تعشق حتى النخاع الصناعة التقليدية بحكم جذورها البدوية، و أيضا لأنها كانت ممنوعة من مغادرة منزلها، لذا كانت الصناعة التقليدية(صناعة الصوف وال«كروشي»..) خير أنيس لها بعدما يغادر زوجها وأطفالها المنزل، حيث تقضي اليوم وحيدة في منزل من طابقين، دون أن تغادر جدرانه التي حفظتها ذاكرتها زاوية زاوية. إحدى بنات عائشة تُحَمل قسطا كبيرا من المسؤولية لما أصاب والدتها لوالدها الذي فرض عليها «حظر التجول» وجعلها سجينة المنزل، وكأنها قطعة من الأثاث. عائشة أم لتسعة أبناء، أفنت حياتها كاملة في خدمتهم، وربما هو خيط من خيوط النجاح التي ساعدت الأبناء التسعة على إتمام مسارهم التعليمي وعلى تبوؤ مراكز مهمة، حيث إن ثلاثة منهم أطباء في اختصاصات مختلفة، لكن المرض حيرهم، بل هزمهم، تقول سعيدة، مثلما هزم جسد والدتهم التي أصبحت طريحة الفراش ولا تذكر من حاضرها إلا الماضي بحذافيره. خمس سنوات من المعاناة تزداد حدتها يوما بعد آخر، لأن الأسرة تعلم أن مرض ألزهايمر ليس من فصيلة الأمراض التي تتوقف بمجرد تناول أدوية طبية، بل إن الأمر لا يتعدى وصف مهدئات للتخفيف من حدة التوتر، و في أحيان كثيرة حالة العصبية والعدوانية بسبب رفض المريض الانصياع لبعض مطالب مرافقيه، وهو ما يحصل مع والدتهم التي وصلت إلى المرحلة الأخيرة من المرض. تنظر إليك عائشة وتبث فيك إحساسا بأنها تراك مثلما تراها، وتحاول أن تشرك نفسها في حوار لا تفهم منه أي شيء. لذلك تجر حبل الحوار إلى الوراء سنوات حتى تثير الانتباه إلى وجودها، رغم أن سعيدة لا تدع لها مجالا لتتعب ذاكرتها في البحث عن ذكريات لتشارك فيها، بل تذكرها بالموضوع، محاولة إنعاش ذاكرتها لتعيش في الحاضر، وهو ما يجعلها تطرح العديد من الأسئلة التي تجيب عنها ابنتها أو الزوج أو أحد من الأبناء الآخرين، الذين يزورونها باستمرار وفق برنامج مسطر بينهم بالتناوب. لكن المشكل المطروح بالنسبة للأبناء، حسب سعيدة، هو أن لكل واحد طريقته الخاصة في التعامل مع والدته، والتي يريد فرضها على الجميع، يقينا منه بأنها السبيل إلى إنعاش ذاكرة الأم، إذ منهم من يفضل مسايرة والدته في حديث الماضي الذي لم تعد تذكر غيره، ومنهم من يفضل تنبيهها بكل جديد حتى تعايش الحاضر، وهناك من يفضل أن يجعلها تتناول طعامها لوحدها دون مساعدة، علما أنها كثيرا ما تأخذ الملعقة وتفكر فيما ستستعملها، أوأنه بالممارسة اليومية قد تستعيد بعض أنشطتها، غير أن هذا ما أبطلته التجربة التي قامت بها إحدى بناتها، حيث جلبت لها «كُبّة» من الصوف، الذي كانت تستعمله في حياكة الكثير من القطع المنزلية وهو ما يعرف بصناعة «الكروشي»، وكانت تصنع منه أغطية تستعمل للتدفئة، إلا أنها أمسكت «كُبّة» الخيط وبدأت تعبث بها، دون أن تتذكر وظيفتها، وهو ما جعل ابنتها، التي تعيش في مدينة أخرى تنهار بالبكاء بفعل التأثر، خاصة عندما تسألها باستمرار من تكون، لذا تكون بحاجة إلى تذكيرها كل دقيقتين بأنها ابنتها، لكن الأم كانت تجيبها «أنت أمي ولست أنا أمك». والغريب، تقول سعيدة، وهو الأخطر أيضا، أن والدتها نسيت تماما زوجها، الذي أصبحت تعتبره شقيقها أو ابنها، وتستبعد أن يكون زوجها، بل تبدأ في الصراخ إلى أن يتم طي الموضوع الذي يتحدثون فيه. وتعاني عائشة من مرض السكري والضغط الدموي، بالإضافة إلى أنها فقدت بصرها في الآونة الأخيرة. تصرف أسرة عائشة اليوم أزيد من 2500 درهم شهريا فقط في الأدوية، بالإضافة إلى أن المبلغ نفسه يقدم إلى الرفيقة التي سخرتها الأسرة لتقضي اليوم مع عائشة التي أصبحت بحاجة إلى المساعدة حتى لقضاء حاجياتها الضرورية، خاصة أنها في الآونة الأخيرة أصبحت ترفض الاستحمام.