إن حصول المغرب على استقلاله لم يكن يعني بداية عهد جديد في التسيير والتدبير الحر والمستقل عن السلطات الاستعمارية فحسب، بل كان يعني في الوقت ذاته إقحام الملك محمد الخامس في دوامة تحديد أولويات المرحلة الجديدة التي أسفرت عن تأجيج التناقضات الداخلية على كافة المستويات. ففي الوقت الذي كان يسعى فيه الملك محمد الخامس إلى إيقاف الحرب والبحث عن تحرير بواسطة الديبلوماسية، اصطدم بوجهة نظر قيادات جيش التحرير التي كانت تلح على استمرار الجهاد ومحاربة الإسبان من أجل استقلال جنوب المغرب واسترجاع المناطق المستعمرة في شمال المملكة. ووسط هذه التناقضات، واصل الطرف المتصلب في جيش التحرير عملياته المسلحة، وأصبح يعرف باسم جيش تحرير الجنوب. ومنذ الإجهاز على جيش التحرير الوطني في واقعة إيكوفيون عام 1958 ساد الاعتقاد في أوساط الأحزاب السياسية وشرائح المجتمع المغربي بأنه لو اتبع نهج جيش التحرير من طرف السلطات الرسمية المغربية ولو سمحت هذه الأخيرة لجيش التحرير باستكمال مهمته لما كنا نعيش مرارة الواقع الحالي. 1 - حركة تحرير الصحراء وبداية تأسيس جبهة البوليساريو كان يجب انتظار عشر سنوات كاملة بعد تصفية جيش التحرير الوطني لتتحرك القوى المناهضة للاحتلال من جديد. لقد شهد عام 1968 تأسيس حركة تحرير الصحراء من طرف البصيري. وسجلت هذه الحركة نجاحا كبيرا، حيث ابتدأت بتوجه إصلاحي واتبعت المقاربة التدريجية كأسلوب منهجي لتحقيق الاستقلال التام وتحقيق المساواة بين المدنيين الصحراويين عن طريق الوسائل السلمية. غير أن قيادة الحركة وبرنامجها السياسي سيتغيران كلية نتيجة المواجهات العنيفة مع السلطات الإسبانية التي شهدتها مدينة العيون بتاريخ 17 يونيو 1970، وهو اليوم الذي نظمت فيه إدارة الاستعمار الإسباني مظاهرة من طرف شيوخ القبائل التابعين لها لإبراز دعمهم لسياسة الإدماج الإسباني في إطار الاتحاد الإسباني- الصحراوي. وفي مقابل ذلك، نظمت حركة تحرير الصحراء مظاهرة مضادة حضرها آلاف السكان في ساحة إسبانيا بالزملة لإظهار معارضتهم لهذه السياسة. وخلال هذه التظاهرة، تقدمت الحركة بعريضة من ثلاث نقاط رئيسية إلى الجنرال Perez Dlema حاكم الإقليم، فحواها: المطالبة بالحكم الذاتي لإقليم الصحراء، إبرام اتفاقية بين الحركة والحكومة الإسبانية لتحديد تاريخ إعلان استقلال الصحراء وانسحاب القوات الإسبانية، ووقف استغلال الثروات الطبيعية دون رضى وموافقة الحركة. وأمام إصرار المتظاهرين على بنود هذه العريضة وعدم خضوعهم لتهديدات السلطات الإسبانية واستعدادهم للمواجهة، أطلقت السلطات الإسبانية العنان للاعتقالات والاغتيالات، التي زج على إثرها العديد من المناضلين الصحراويين في السجون وقتل منهم الكثير، بمن فيهم البصيري. ولم تكن أحداث الزملة الوحيدة التي نالت من حركة تحرير الصحراء، بل إن الساحة شهدت العديد من الأحداث استطاعت، إلى حد كبير، التقليص من نفوذها. كما لم تكن أحداث العيون، التي شهدها مطلع عام 1971، ومعركة أولاد الدليم في الداخلة، التي شهدها شهر مارس 1971، وكذا أحداث شهر مايو 1972 بطانطان، التي أسفرت عن مقتل وجرح العديد من الضحايا، أقل خطورة وتأثيرا من أحداث الزملة. هكذا، ومباشرة بعد هذه الأحداث الدامية والقمعية، ظهرت مبادرة تأسيس حركة تنظيمية موجهة ضد الاستعمار الإسباني من طرف الصحراويين الذين كانوا يعيشون في المغرب وموريتانيا، فتكونت خلية من الطلبة الصحراويين المناضلين في مدينة الرباط ما بين 1971 و1972، من بينهم الوالي مصطفى السيد الذي كان طالبا في كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس وحاصلا على المنحة المغربية، والذي كان يسافر دونما ملل عبر المغرب وموريتانيا والجزائر من أجل إيجاد مركز للتنظيم الجديد، مما يسر له إجراء لقاءات عديدة وربط علاقات وثيقة بالأمناء العامين للأحزاب السياسية المغربية، خاصة علي يعته، أمين عام حزب التقدم والإشتراكية، وعلال الفاسي، أمين عام حزب الاستقلال، وأيضا عبد الرحيم بوعبيد، أمين عام الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. غير أن عدم تمكن هذه الأحزاب من ترجمة نضالها الخطابي إلى مساعدة عملية على خلق حركة تحرير جديدة، دفع الوالي إلى السعي وراء الحصول على دعم خارجي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء الطلبة الصحراويين، في بداية نضالهم السياسي، لم يكونوا يطالبون بتكوين دولة مستقلة في الصحراء بل تجسد تركيزهم على محاربة الاستعمار الإسباني، ولذلك سعوا في بداياتهم الأولى إلى طلب مساعدة المعارضة المغربية، لأنها كانت أهم مساند لفكرة المغرب الكبير ولأنها كانت أيضا، ولمدة طويلة، تشجب علاقات التعاون بين نظام الملك الحسن الثاني وإسبانيا وانتقاصه من أهمية المسألة الصحراوية. غير أن توتر الجو السياسي في المغرب بين النظام السياسي المغربي والكتلة الوطنية التي كانت تتضمن كلا من الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال آنذاك، وما رافق ذلك من محاولات اغتيال الملك الحسن الثاني خلال عامي 1971 و1972، إلى جانب عدد الاعتقالات الواسعة في صفوف الطلبة الصحراويين عقب مظاهرات الزملة وطانطان، جعل عملية تأسيس حركة تحرير الصحراء في المغرب حبلى بالمجازفات السياسية غير مضمونة العواقب، ولذلك توجه مصطفى الوالي إلى البحث عن مركز لهذه الحركة الجنينية خارج حدود المغرب، واستقر به تجواله في موريتانيا بالزويرات حيث التقى بنواة أخرى من المناضلين الصحراويين، تضمنت حينها جنديين من جيش التحرير هما امحمد ولد زايو وأحمد ولد قايد. وتمكنت مجموعة الزويرات هذه من الحصول على إذن بالإقامة للوالي وبعض رفاقه من المغرب. وهناك بدأت التحضيرات النهائية للمؤتمر التأسيسي الأول والإعلان عن تأسيس جبهة البوليساريو بتاريخ 10 ماي 1973.
2 - مفهوم «القومية الصحراوية» في البيانات السياسية لجبهة البوليساريو وإذا كان التأسيس قد تم في موريتانيا، فإن الخط التنظيمي للجبهة قد تأثر بشكل بالغ بالتجربة الجزائرية، خاصة تجربة جبهة التحرير الوطني، التي تبنوا انطلاقتها، فكان مبدأ الجبهة حينها «لا يجب قبول تنظيمات كان قد تم تأسيسها من قبل، ولا يجب السماح بخلق تيارات مختلفة في قلب جبهة البوليساريو من أجل الحفاظ على وحدتها»، ولذلك فهي لا تقدم نفسها كتكتل لمجموعة من التيارات أو تحالف لعدد من الحركات يوحدها هدف مشترك، وإنما كحركة موحدة لا تضم سوى مناضلين فردانيين وليس تنظيمات، كما تقدم نفسها على أنها الممثل الشرعي والوحيد لكافة الصحراويين. ومن الناحية المفاهيمية، لا تسعفنا البيانات السياسية للجبهة في إيجاد مفاهيم أو مصطلحات تنم عن الحمولة الدلالية ل«القومية الصحراوية». وأهم المفردات المستعملة في هذا المعنى هي مصطلح «جمهور الصحراويين» الذي سيتحول إلى مفهوم «الشعب» ابتداء من المؤتمر الثالث الذي انعقد في غشت 1976. وتأسيسا على هذا الاختيار، فإن اعتماد الجبهة مفهوم «الشعب الصحراوي» بدلا عن «الأمة الصحراوية» أو «القومية الصحراوية» يعتبر الأسلوب الأنجع لتحقيق الانسجام والوحدة بين أفراد المجتمع الصحراوي وقادة البوليساريو، من أجل تفادي أية معارضة داخلية من شأنها التمسك بكل ما له علاقة بالقومية المغربية التي تمتد جذورها إلى الماضي العريق في علاقة تأثير وتأثر بين جنوب المملكة وشمالها، والتي ترمي بجسورها إلى المستقبل القريب والبعيد نظرا إلى الماضي والمصير المشترك الذي يوحد أفراد الأمة المغربية. وبناء عليه، فإنه في حالة استعمال مصطلح «الأمة الصحراوية» في الخطاب السياسي للجبهة، فإن ذلك سيجبرها، بشكل أو بآخر، على ربط حركتها الانفصالية بالإطار التاريخي للقومية والأمة المغربية، وهو ما حرصت الجبهة على عدم الوقوع فيه من باب المناورة وقطع الطريق أمام مطالبة المغرب بحقه التاريخي في المنطقة. ولذلك فإن أفضل بديل لهذا المفهوم هو»الشعب الصحراوي» لأنه هو الوحيد الذي يسمح بخلق هوية جديدة مستقلة ومنفصلة.