نعيش هذه الأيام لحظات تاريخية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فالشرق الأوسط يتغير، بل العالم كله يتغير، والسبب مجموعة من الشباب الشجاع المؤمن بعروبته وعقيدته، انطلق في الميادين الرئيسية في كل من تونس ومصر وقال لا للطغاة والطغيان. الدرس البالغ الذي يمكن استخلاصه من هذا الاستفتاء الشعبي الكبير المستمر منذ أحد عشر يوما في ميدان التحرير في القاهرة، وقبلها في شارع الحبيب بورقيبة في وسط تونس، أن الولاياتالمتحدة تتخلى، بكل سهولة، عن رجالاتها وترفض أن توفر لهم الملاذ الآمن بمجرد أن تلفظهم شعوبهم وتدير لهم ظهرها. الإدارة الأمريكية تتعامل مع الأوضاع في مصر حاليا وكأن الرئيس مبارك غير موجود على الإطلاق، بل تعتبره عبئا ثقيلا عليها تريد الخلاص منه بأسرع وقت ممكن تقليصا للخسائر، وحماية لمصالحها أو ما تبقى منها. شكرا لهؤلاء الشبان الشجعان الذين جعلوا رُكب الديكتاتوريين تصطك خوفا ورعبا، ويجثون على ركبهم استجداء للشعب وتجنبا لغضبته. فها هو الرئيس حسني مبارك يرضخ لمطالب الجماهير ويعلن عزمه على الرحيل إذا ما توفر له المخرج اللائق والحصانة القضائية، بحيث لا يطارد في المستقبل القريب، من قبل الثوار الجدد، كمجرم حرب ومسؤول عن الفساد. ها هو الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة يقرر رفع حالة الطوارئ، ويتعهد بإصلاحات.. وها هو الرئيس اليمني علي عبد الله صالح يعلن على الملأ أنه لا يريد أن يبقى رئيسا مدى الحياة أو يورث الحكم لابنه. الجماهير العربية، التي تتابع ليل نهار تطورات الأوضاع في مصر، تتمنى انتصار الثورة بسرعة حتى تتابع انتقالها إلى دولة عربية أخرى، للإطاحة بطاغية آخر وبدء عهد جديد من الكرامة والعزة. الرئيس مبارك سيرحل قريبا، لأن الشعب المصري لن يتوقف في منتصف الطريق ولن يضحي بدماء شهدائه، ونزول الملايين إلى ميدان التحرير في قلب القاهرة ومختلف المدن المصرية الأخرى هو التأكيد على هذه الحقيقة. نحن نعيش سباقا بين نظام يتشبث بالسلطة لحماية رموزه الفاسدة من الغضبة الشعبية وانتقامها، وبين مجموعة من الشباب الذين يتطلعون إلى مستقبل مشرق لبلادهم. النظام يريد أن يكسب المزيد من الوقت لترتيب أوضاعه، والشباب يريدون اختصار الوقت للوصول إلى هدفهم المنشود في التغيير. حتى بنيامين نتنياهو، الطاووس المتغطرس، بدأ ينزل من عليائه ويتعاطى بشكل مختلف مع قضايا طالما تصلب فيها، فها هو يتحدث للمرة الأولى عن رفع المسؤولية الإسرائيلية عن البنية التحتية في قطاع غزة والدفع بمشاريع دولية تتعلق بالصرف الصحي والكهرباء والماء، وتعزيز الوضع الاقتصادي لدى الفلسطينيين في الضفة الغربية. نتنياهو لم يقدم هذه التنازلات تكرما على الشعب الفلسطيني وتعاطفا مع محنته، وإنما مرغما ومكرها، والفضل في ذلك لا يعود إلى براعة المفاوضين الفلسطينيين، وإنما إلى عملية التغيير الجارفة التي تسود المنطقة بأسرها. العالم بأسره يرى كيف أن الديمقراطية الوحيدة في المنطقة (إسرائيل) تقف إلى جانب الطغيان والدكتاتورية في البلدان المجاورة لها والموقعة اتفاقات سلام معها. والأكثر من ذلك، تقوم هذه الدولة باستخدام كل علاقاتها الدولية من أجل دعم هذه الأنظمة والحيلولة دون سقوطها. نتنياهو يدرك جيدا أن سقوط نظام الرئيس مبارك يعني سقوط كل ما بنته إسرائيل وأمريكا على مدى ثلاثين عاما من التطبيع والإذلال وقتل روح المقاومة والكرامة لدى الإنسان العربي من خلال ترويض أنظمة ديكتاتورية قمعية. فسقوط اتفاقات «كامب ديفيد» مع سقوط نظام الرئيس مبارك يعني عودة مصر إلى قيادتها ومكانها الريادي في المنطقة، الأمر الذي يعني عودة إسرائيل إلى المربع الأول، دولة مذعورة منبوذة بالكامل في جوارها العربي. إسرائيل تقلق، بل ترتعد خوفا، لأن مصر مبارك شكلت حاجزا بينها وبين العرب المعادين لأكثر من ثلاثين عاما، وتواطأت معها في فرض الحصار وتشديده على عرب ومسلمين في قطاع غزة، وهو أكبر عمل غير أخلاقي ومشين في التاريخ. قبل توقيع معاهدات «كامب ديفيد» عام 1979، كانت ميزانية وزارة الدفاع الإسرائيلية تستهلك حوالي 30 في المائة من الناتج القومي الإسرائيلي، انخفضت هذه النسبة إلى أقل من 8 في المائة فقط بعد توقيع هذه الاتفاقيات، مما يعني توفير حوالي عشرين مليار دولار سنويا على الأقل، وهو مبلغ كبير ساهم في تطوير الصناعات العسكرية الإسرائيلية والإنفاق على حروب لبنان ومواجهة انتفاضات الشعب الفلسطيني وتعزيز سطوة الاستخبارات الخارجية والداخلية الإسرائيلية، بما يمكنها من الإقدام على اغتيال الشهيدين محمود المبحوح وعماد مغنية وآخرين كثر. تكهنات كثيرة تدور هذه الأيام حول من سيملأ الفراغ في حال انهيار نظام الرئيس مبارك، ولكن الأمر الذي يجب التشديد عليه هو أن هذه المسؤولية، أي ملء الفراغ، هي من اختصاص الشعب المصري وليس أمريكا أو أوربا أو أي دولة خارجية. بداية لا بد أن تتخلص مصر من رأس الأفعى، وبعد ذلك أذنابها، ويفضل أن يقدموا جميعا إلى العدالة، ليتلقوا القصاص الذي يستحقونه، وإعادة الأموال التي نهبوها إلى الشعب المصري. نحذر من الوسطاء ومما يسمى بلجان «الحكماء» الذين ينشطون هذه الأيام ويدعون أنهم يمثلون طرفا ثالثا، ويعرضون حلولا ومخارج وسطية. هؤلاء يحاولون إنقاذ النظام وليس مصر، ونسبة كبيرة من هؤلاء خدموا النظام الحالي مثلما خدموا أنظمة سابقة، أي أنهم رجال لكل العصور. لا حلول وسطا في الثورات ولا إصلاح للاستبداد. النظم الفاسدة يجب أن تجتث من جذورها، حتى يتم بناء أنظمة ديمقراطية جديدة على أنقاضها. هذا ما حدث في جميع الثورات السابقة. الحكماء الحقيقيون هم من يقفون مع الشعب ومطالبه العادلة، ولا يطرحون مخارج للديكتاتوري تحت عنوان الحفاظ على مصر.. فالشعب المدافع الحقيقي عن مصر، وهو الذي فرض التغيير وأجبر النظام على تقديم تنازلات متتالية، لم يفكر مطلقا، في ذروة جبروته وغطرسته، في الاقتراب منها أو حتى مناقشتها. أمريكا خسرت الشرق الأوسط، وحلفاؤها القمعيون يترنحون، ولا يعرفون النوم وينتظرون لحظة السقوط، حيث لن تنفعهم ملياراتهم ولا البطانة الفاسدة التي شجعتهم على اضطهاد شعوبهم.