لم تخمد انتفاضة ماي 68 في فرنسا دون أن تترك أثرها الفكري والسياسي، فقد انبرى باحثون وفلاسفة جدد يبحثون في مرجعيات الظاهرة وأسباب اندلاع فورة وغضب الشباب، في ظرفية ساد فيها الاقتناع بأن الماسكين بسطوة القرارات السياسية والاقتصادية لا يضعون مشاغلهم في الاعتبار. كان قد انقضى على الحرب، العالمية ربع قرن أو يزيد قليلا، وكان العقل الأوربي موزعا بين الإبقاء على المراكز التقليدية لنفوذه الاستعماري المتراجع وبلورة معالم القيم الجديدة التي كان يبشر بها. بين هذا وذاك، لم يفطن إلى أن مطالب جيل جديد من الشباب، الذين لم يخوضوا الحرب من نوع آخر، لا يحدها سوى سقف الحرية، إذ يمتزج بالتمرد والغضب وكبح جماح تقاليد سائدة. لعله الفيلسوف الشاب ماركوز من تنبه إلى الظاهرة وخصها بقسط وافر من البحث العميق الذي أحاط بضروب فلسفات ومفاهيم متجذرة وأخرى ناشئة، وعلى هدي فتوحاته تناسلت إحصاءات ودراسات تحاول استشراف معالم الثمانينيات. فقد كان يُنظر إلى الإثنتي عشرة سنة، التي تفصل بين انتفاضة 68 وحلول عقد الثمانينيات، على أنها ستكون في منتهى الأهمية، ثم تدرجت التكهنات والاستقراءات للرهان على عام ألفين. كم يبدو الأمر موغلا في القدم، مع أنه لا يتجاوز بضعة عقود في تاريخ الإنسانية، ميزتها ثورات وتحولات عاصفة بلغت ذروتها عند تحطيم جدار برلين وانهيار المعسكر الشرقي ونهاية الحروب الإيديولوجية، ثم اكتساح عصر الاتصالات والوسائط الاجتماعية والانقلابات التكنولوجية التي ألغت المسافات والحواجز، وجعلت السياحة في سواكن العالم تتم عبر النقر على الحاسوب. إلى وقت قريب، كان يتردد أن من يملك المعلومات تكون قدرته على اتخاذ القرارات الصائبة أكثر قابلية، كان ذلك يقاس بالتعرف على الواقع واستيعاب هموم الشارع ورصد تفاعل الأحداث المحلية والإقليمية والدولية. غير أن المعلومات، التي تكون في صورة أرقام ومعطيات وتقارير وحقائق، لم تعد وحدها تفتح خزائن المعرفة العميقة بالأشياء، فثمة معلومات أخرى أكثر سرعة واتساعا وإغراء باتت تفرض وجودها، ليس فقط من أجل التوغل في أدغال عوالم افتراضية محضة، وإنما لتحويلها إلى وقائع تتجسد في صور وأشكال ملموسة، غايتها رفض واقع المعاناة. أين أنت يا ماركوز لترى بأم العين كيف أن جيلا آخر، من غير أبناء ماي 68 ومن غير جحافل الهيبيز وعاشقي موسيقى بوب مارلي وأتباع الألوية الحمراء، ينتفض الآن في بعض أرجاء العالم العربي المسكون بالهزيمة والاستسلام، فما هو السر الذي جعل غالبية مختبرات علم الاجتماع لا تتوقع أن الثورة التكنولوجية ستحدث أهم نقلة نوعية في الفكر السياسي العربي الذي يكاد يلغي دور القيادات والنخب وديناصورات عهود غابرة؟ فالمعلومات التي كانت تسمح بالتحكم في الرقاب، لدى استخدامها في غير إشاعة المعرفة والالتصاق بالواقع، انتقلت إلى معلوميات في قواميس ومسافات جديدة نقضت كل أشكال الوصاية الأبوية والمجتمعية والسلطوية. لا يتعلق الأمر بصراع أجيال فقط، ولكنه يطال صراع الأفكار والمفاهيم والقيم الذي ألقى بنفوذه على تحركات الشوارع الملتهبة. لم يعد صرح الجامعات، الذي يعج بأحلام الثورة، وحده ينتج النخب التي تتدرج في ميولاتها السياسية بين العدمية والثورة، ثم الوسطية والاعتدال، لتستقر عند ضفاف الواقعية، كما في خلاصات الأعمار والتجارب. ولم تعد منتديات الأحزاب وأشكال التأطير النقابي والتمرس في التنظيمات الموازية وحدها المجال الحيوي لابتكار القناعات والمفاهيم. انتهت سطوة وسائل الإعلام الرسمية التي فشلت في صنع رأي عام خائف أو متذبذب أو متردد، فقد انهار جدار الخوف تلقائيا عندما بات في إمكان الفرد أن يصرخ بصوت عال ضد كل أشكال الظلم الاجتماعي والقهر النفسي وانسداد الآفاق. بدأ الأمر افتراضيا في عالم تصوره كثيرون شبه معزول، لكنه تطور تلقائيا عبر الانجذاب إلى الشارع. أكثر النظريات التي تصدعت وتلاشت هي تلك التي كانت ترى أن الدنيا بألف خير، وظلت على قناعة بأن ما من بدائل قابلة للتحقق على أرض الواقع غير استمرار الأنظمة التي تحولت إلى قلاع فوق رمال متحركة، بل إنها حولت المخاوف من التطرف القادم عند غيابها إلى فزاعات تنشر فوق المباني الرسمية. غير أن الخطاب لم يجد صداه عند أجيال الشباب، لأكثر من سبب، من ذلك أن الفارق بين الأعمار انتصب في حجم قطيعة لم يكن صعبا تداركها عبر تقريب الفجوات، أي تبني منظور مغاير في استقراء المشاكل. فكما أن مطالب العمال لم تعد تقتصر على تحقيق أهداف مثل الحد الأدنى للأجور وبعض التأمينات الاجتماعية، فإن مطالب الشباب، التي صيغت في صورة البحث عن منافذ عمل لإعطاء معنى لوجود الطلاب حملة الشهادات الجامعية، تجاوزت ذلك السقف الذي لم يعد يلائم أحلام العيش في حرية وكرامة، تعزز تكافؤ الفرص وتفتح الآفاق متساوية أمام الجميع.