بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط، اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرات اعتقال بحق رئيس حكومة إسرائيل ووزير دفاعه السابق    البطولة الوطنية الاحترافية لأندية القسم الأول لكرة القدم (الدورة 11): "ديربي صامت" بدون حضور الجماهير بين الرجاء والوداد!    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    تنسيقية الصحافة الرياضية تدين التجاوزات وتلوّح بالتصعيد    الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية        "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    دراسة: تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    جمعويون يصدرون تقريرا بأرقام ومعطيات مقلقة عن سوق الأدوية    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا تخاف المجتمعات العربية من الحديث عن نقائصها وعيوبها
نشر في المساء يوم 05 - 02 - 2011

لا أحد يجادل في كون الدين يعد مرجعا يحُضّ الإنسان المؤمن على نقد ذاته ومحاسبة نفسه، وهذا بإجماع أهل الفضل من العلماء، بمختلف مذاهبهم، الشرعية والعقلية والذوقية،
ولا يخرج عن الأمر إلا من لا يعتد بخلافهم ولا تقوم لدعواهم قائمة، وذلك عندما ضربوا بأيديهم وسبروا بعقولهم وأفهامهم ما جاء في محكم التنزيل وآثار السنة النبوية الشريفة وسير الصحابة الكرام ومن ورثوا سرهم ونهج سيرهم من التابعين إلى يوم الناس هذا، لاستنباط ما به تُقوِّم نفس المؤمن ذاتها، دون الحاجة إلى محاسبة الآخرين، وهو الأمر الواجب في الدين بالضرورة عند كل فرد تقرر لديه الحق وتجلى في نفسه، حيث سماه أغلب هؤلاء العلماء بالنفس اللوامة، استلهاما للآية الكريمة التي يقسم فيها رب العزة بيوم القيامة ويرادفها بحكمة هو الأول والآخر في استخلاص مقاصدها، أقول أردفها بالقسم بالنفس اللوامة، يقول جل وعلا: «ولا أقسم بالنفس اللوامة» (سورة القيامة آية 2).
ليكون اللوم والمحاسبة والتقويم والنقد الذاتي مسالك يسلكها الإنسان لتقويم ما اعوجّ من سلوكه وإقرار ما حجبته عنه غشاوة نفسه الشهوية والغاضبة، فلا تأخذه العزة بالإثم إلى حدود إتيان الفعل السيئ والمؤذي لنفسه ولغيره، والشروع في إعلانه على رؤوس الأشهاد. النفس اللوامة هي التي تلوم نفسها عند التقصير وتحاسبها عند الإخلال بالتكاليف والواجبات تجاه الذات والغير، ممن يتوجب علينا الاعتناء بهم ومراعاة أحوالهم، وأيضا عند الوقوع في الأخطاء والخطايا. وقد اختلف فيها كثير من أهل الحق، فقال بعضهم هي لا تثبت على حال واحدة، أي التي تتلون وتتقلب ولا تثبت على حالها، فهي تذكر الله كثيرا وتغفل عن الله قليلاً وترضى وتعرض وتتلطف وتتكثف وتنيب وتحب وتبغض وتفرح وتحزن وتسر وتغضب وتطيع وتتقي وتفجر... وغير ذلك في كثير من حالات تلونها في الساعة والشهر والعام والعمر.
وقالت طائفة من الأئمة إن النفس اللوامة هي نفس المؤمن وإن هذا اللوم إنما هو من صفاته المجردة، ويقول الإمام حسن البصري في «أدب الدنيا والدين»، إن المؤمن لا تراه إلا ويلوم نفسه دائما.
ويرى بعض الصوفية أن النفس اللوامة هي نفس المؤمن التي توقعه في الذنب، ثم هي في نفس الوقت التي تلومه على ما اقترف من ذنوب، ويعتبر اللوم هنا نوعا من الإيمان، لأن الشقي لا يلوم نفسه على ذنب وإنما على العكس من ذلك، إنما يلوم نفسه على فواته إذا ضاع منه.
ومن بين التفسيرات والتأويلات العجيبة التي ذكرت في هذا الباب ما جاء في تفسير الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، إذ إن هذه الصفة تلازم من توجه قلبه بمجاراة واتباع النفس التي تطلب حظوظها في تحصيل لذّاتها وشهواتها، فتكون بذلك بعيدة عن جهة النور الحقية، فتكون تابعة لهواها في تحصيل لذّاتها, (وذلك إنما يكون باتباع السبل المتفرقة الشيطانية، «فأما الذين اسودت وجوههم»، فيقال لهم «أكفرتم بعد إيمانكم؟» أي: احتجبتم عن نور الحق بصفات النفس الظلمانية وسكنتم في ظلماتها بعد هدايتكم، وتنوركم بنور الاستعداد وصفاء الفطرة وهداية العقل فذوقوا عذاب الحرمان باحتجابكم عن الحق. (ابن عربي، ج.1، 8791، ص. 902).
ونجده أيضا في موضع آخر يأخذ قصة موسى عليه الصلاة السلام، الواردة في سورة «طه» (من آية 41 -47) من القرآن الكريم على نفس المحمل، «إذ تمشي أختك»، أي النفس العاقلة العملية عند ظهورها وحركتها، «فتقول» للنفس الأمارة والقوى المنعطفة عليه: «هل أدلكم» بالآداب الحسنة والأخلاق الجميلة على أهل بيت من النفس اللوامة وقواها الجزئية بفوات قرة عينها «على من يكفله» لكم، بالتربية بالفكر والإرضاع بلبن الحكمة العملية والعلوم النافعة وهم له ناصحون معاونون على كسب الكمال، مرشدون إلى الأعمال الصالحة، معدون للترقي إلى المرتبة الرفيعة «فرجعناك إلى أمك» المشفقة عليك، التي هي النفس اللوامة، اللائمة لنفسها بتضييع قرة عينها، ليحصل اطمئنانها بنور اليقين وتتهذب بالحكمة العملية وترضع منها اللبن المذكور وتتربى في حجر تربيتها بالمدركات الجزئية والآلات البدنية والأعمال الزكية «كي تقر عينها»، أي: تتنور بنورك «ولا تحزن» على فوات قرة عينها ونقصها. «وقتلت نفسا»، أي: الصورة الغضبية المسولة لك بالرياضة والإماتة «فنجيناك»، من غم استيلاء النفس الأمارة وإهلاكها إياك «وفتناك»، ضروبا من الفتن بظهور النفس وصفاتها والرياضة والمجاهدة في دفعها وقمعها وإماتتها وتزكيتها، «فلبثت سنين في أهل مدين»، العلم من القوى الروحانية عند شعيب العقل الفعال، «ثم جئت على قدَر»، على حد من الكمال المقدر، حسب استعدادك أو على شيء مما قدرته لك، أي: بعض ما قدر لك من الكمال التام، الذي هو التجلي الذاتي الذي سيوهب لك بعد كمال الصفات... إلى غير ذلك من التفسيرات التي يقوم بها الشيخ الأكبر، والتي توجد في (تفسير ابن عربي -ابن عربي، ج. 2 -الصفحة 22)، لمن اشتاقت نفسه سلوك مقام العرفان.
وإذا تقرر لدى أهل العلم من علماء الشريعة والذوق ما لمحاسبة النفس ونقدها من مزايا لا يدركها إلا من اشتاقت نفوسهم سلوك مقامات الحق والتدرج في مدارج العرفان، فإن الأفق ذاته نجده عند الحكماء من أهل البرهان. فعند الفارابي في دعائه الشهير، (الوارد في «كتاب الملة»، مكتبة المشرق، بيروت، ص. 32)، نجد «المعلم الثاني» يحاسب نفسه على تقصيرها ويطلب من الله تعالى تخليصها من أهواء المادة وإكسابها صفاءها الروحي الأصلي، يقول الفارابي: «اللهم إنك قد سجنت نفسي في سجن من العناصر الأربع وكللت بافتراسها سباعا من الشهوات.. اللهم جد لها بالعصمة وتعطف عليها بالرحمة، التي هي بك أليق، وبالكرم الفائض، الذي هو منك أجدر وأخلق، وامنُنْ عليها بالتوبة الصاعدة بها إلى عالمها السماوي وعجل لها بالأوبة إلى مقامها القدسي وأطْلع على ظلمائها شمسا من العقل الفعال.. واجعل ما في قواها بالقوة كائنا بالفعل.. اللهم أرِ نفسي صور الغيوب الصالحة في منامها وبدلها من الأضغاث برؤى الخيرات والبشرى الصادقة في أحلامها وطهرها من الأوساخ التي تأثرت بها عن محسوساتها وأوهامها وأمِط عنها كدر الطبيعة وأنزلها في عالم النفوس المنزلة الرفيعة»...
الخطأ في عدم تقدير الخطأ
هذا العنوان اشتهر به الفيلسوف والإبستمولوجي الفرنسي المعاصر إدغار موران، والذي لخص فيه القيمة الإبستمولوجية من تاريخ المعرفة العلمية، حيث لم تعد الحقيقة العلمية حقيقة معطاة وقبلية ونهائية، بل أصبحت معرفة تبني معقوليتها للعالم انطلاقا من قابليتها للخطأ، وأصبح الخطأ والتخطيء مفهومين نظريين قويين في فهم حركية العلم، وهذه الفكرة كانت علامة على عصر إبستيمي جديد كليا، ينتمي إليه أيضا مواطنه غاستون باشلار والإنجليزي كارل بوبر، عندما حول القابلية للتكذيب معيارا للعلم، بدل القابلية للتصديق، وهذا تحول جذري في ترتيب الفرضيات العلمية وتأسيس النظرية العلمية، فإذا كان العلم بحثا عن اليقين، فإنه أيضا أصبح متحفظا من مفهوم اليقين ذاته، فالعلم الحقيقي يتأسس اليوم على نقد دائم ومسترسل، كما يقول إدغار موران.
ما يهمنا في هذا الإطار النظري هو أن هذه المرجعية الإبستيمية الجديدة كليا، والتي تؤسس «اليقين» على الخطأ وأن النسبية والقابلية للتكذيب تحولت إلى قيمة عقلية امتدت تأثيراتها إلى كل المجالات، بدءا من العلوم الإنسانية والتربية، وهي الأقرب بهذا القدر أو ذاك ولو على مستوى الطموح الإبستمولوجي من العلم، لتمتد إلى مجالات أخرى بعيدة، كالأدب والفن والقيم، حيث أصبح كل شخص أو عقل يدعي امتلاكه اليقينَ والحقيقة المطلقة إنما هو عقل أو شخص دوغمائي وثوقي ينتمي إلى زمن آخر على مستوى مقولاته الذهنية وأصبحت الدوغمائية هي -كما يعرفها روكيش- «عدم قدرة شخص على تغيير جهازه المفاهيمي في الوقت الذي تتطلب الظروف ذلك»... وعلى المستوى الإنساني، أصبح الاعتراف بالخطأ تعبيرا عن انتماء متجذر للراهن، فالخطأ لم يعد خطيئة، تماما كما لم يعد «ذنبا» لا يغتفر ومؤشرا على الفشل والقصور والإخفاق وعدم القابلية للتعلم، بل أصبح الخطأ حقا.
فكما تبين مما سبق، سواء في تعريجنا على مختلف أنساق الفكر الإسلامي الأصيل أو في نظرنا في مفهوم النقد، كما مارسه علماء في مجال قد يبدو للعامة مجالا لليقين، فإن مفهوم النقد الذاتي يصبح بالمعنى الذي حمله أسلافنا لمعنى «النفس اللوامة»، لا يشمل فقط -كما تبيَّن- الأمور العقائدية، حتى لا يفهم اقتصار المفهوم على الاستعمالات الروحانية الخالصة، بل يصبح مدخلا مهما أيضا في مجال المعرفة الحقة واليقينية، غير المشوبة بالأهواء ومختلف النزوعات ويمكنه، أيضا، أن يستوعب مختلف أشكال ممارساتنا السياسية والثقافية، لسبب بيناه في ما سبق، وهو أن الاعتزاز بالإثم، أخلاقيا، والدفاع عن أمور، عن جهل وعدم دراية معرفيا، هما أس كل ما نعيشه اليوم من خراب على المستوى القيمي ومن تطاول على المستويين المعرفي والعلمي، فالمربي الذي لا ينتقد ذاته لن يقبل النقد من تلامذته، بل وسيستسيغ تملقهم له، فتتضخم أناه، حتى يصبح المديح والنفاق والتزلف والمداراة «واجبا» على التلميذ تجاه أستاذه، بل ومن مقومات الفلاح، وكذلك الأمر عند الأب مع أبنائه وعند الزعيم السياسي والنقابي مع أتباعه، ورب العمل مع أُجرائه.. وفي المحصلة: الكل ينافق الكل...
فالذين خرجوا بعد الإطاحة بصدام حسين يدوسون على صوره هم أنفسهم الذين كانوا يهتفون بشعارات تظهر استعدادهم لافتدائه بالروح والدم قبل ذلك بأسبوع في شوارع الفيحاء.. لأن الرجل، رحمه الله، على كل حال، كان لا يقوم بالنقد الذاتي حتى يقبله من الآخرين، فقد زج ببلاد غنية بثرواتها الطبيعية والبشرية والتاريخية والثقافية في حرب مع إيران، بالوكالة عن أمريكا، وفي حرب استعراضية، باحتلاله الكويت، وحول هذه الأخطاء إلى «انتصارات» وهمية، يحتفل بها سنويا، وأرغم الشعب العراقي على الخضوع لمساومات وإذلال «برنامج النفط مقابل الغداء»، لأنه -ببساطة- لم يدرك أنه مخطأ وقتل آلاف الذين أعلنوا، سرا وعلانية، أخطاءه.. ليرسخ تقاليد للتملق والكذب والنفاق وكتب قصائد في «عيد» انقلابه وقصائد في «عيد» مولده وقصائد بمناسبة وأخرى بدون مناسبة.. تمدح «عبقريته» الفذة، وقسْ هذا الأمر على ما يقع من المياه إلى المياه في هذا الوطن العربي، فعندما يرزق الحاكم بطينة من الذين يُظهِرون له عدم حاجته إلى نقد نفسه وتصحيح أخطائه وتقويم تجاربه، فإننا نكون في المحصلة إزاء حكام يحكمون لعقود طويلة دون أن تكون لهم الفرصة لمساءلة أنفسهم. وحده الرئيس التونسي «السابق»، زين العابدين بن علي، يدرك حقيقة ما «فاته» من عدم نقد لذاته... من أجل هذا، صادرنا في مقدمة هذا الملف من كون الأمر صعبا وشاقا ولا يخوض فيه إلا الأبطال الحقيقيون، الذين يخطئون ويقدّرون خطأهم، وليس الذين يخطئون وتأخذهم العزة بأخطائهم ويجعلون من المصلحين الناصحين لهم «مخطئين»، فيسجنون وينفون ويعذبون ويشردون، فقط لأنهم لا يعترفون بأخطائهم.
وإذا كان البعض يدعون إلى تحديث الحياة السياسية في العالم العربي، فلأن الحداثة السياسية، كما تبلورت مع الفكر الأنواري، قد وضعت أسسا لممارسة النقد والاعتراف بالخطأ ووضع آليات مؤسساتية للمحاسبة على الخطأ، من خلال فصل القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية وإجبار الحاكم، مهما كان فضله على الأمة كبيرا، على الاعتراف بأخطائه وجعله يدفع -وهو راض- ثمن أخطائه، لينسحب من الحياة العامة بهدوء، وهذا ما لا يقع عندنا، فما وقع في تونس، مؤخرا، وما سيقع في الجمهوريات الملكية، طال الزمن أو قصر، هو من فقدان فضيلة النقد والنقد الذاتي.
إذا رجعنا، مثلا، إلى تاريخ الممارسة السياسية في الدول الغربية، ورغم كل سلبياتها التي لا ينكرها عاقل، سنجد حضورا قويا للنقد وتحمل المسؤولية والديموقراطية وعقلانية الحياة العامة، إن لم تكن مؤسسة تأسيسا كاملا على النقد، لنتذكر هنا نموذجين على الأقل، الأول هو رئيس الوزراء البريطاني تشرتشل والثاني هو الرئيس المصري المغتال أنور السادات، فالأول، رغم فضله الكبير على بلده، إذ قادها في للانتصار في الحرب العالمية الثانية وجنّبها والعالمَ ويلات نظام همجي عنصري هو النظام النازي، فإنه، بعد الحرب بسنة واحدة، خسر الانتخابات سنة 5491، بل إنه انسحب من مؤتمر للحلفاء المنتصرين في هذه الحرب، لكون حزبه، حزب المحافظين، انهزم في الانتخابات، فلو أن حاكما عربيا عندنا، لنأخذ مثلا أنور السادات، مع وجود فوراق هائلة بين الشخصيتين وبين السياقين والأفقين السياسيين، فقد قاد بلاده للانتصار في حرب أكتوبر على إسرائيل، ولكن شعوره ب»العظمة» والتقدير المبالَغ فيه لذاته جعلاه يخسر كل ما ربحه في معاهدة «كامب ديفيد»، وهي المعاهدة التي ما تزال مصر تدفع ثمنها إلى اليوم، عندما تحولت إلى «دركي» للدولة الصهيونية.. والفرق هنا هو أن ترتشل لم يستغلَّ انتصاره في الحرب ليبرر المحرَّم والمرفوض وغير الشرعي، بينما فعل ذلك السادات، ومن أجل ذلك اغتيل، لأنه أهان شعبا قدّم كل التضحيات ليُذل إسرائيل في الحرب، ليعطيها السادات فرصة لإذلالهم في السلم، بل وأدخل كل معارضيه، بما في ذلك رفاق الانقلاب الناصري، إلى السجن، ناهيك عما تعرضت له باقي القوى السياسية والمدنية الأخرى، فإذا كانت نهاية السادات «درامية»، كما نعلم، فإن تشرتشل انسحب بهدوء ليتقاعَد ويعود إلى ممارسة هواياته المفضلة، وأهمها الكتابة والرسم.. وفي الوقت الذي يلعن المصريون اليوم السادات وخلفاءه في شوارع «أم الدنيا»، فإن تشرشل اختير من بين أعظم شخصيات المملكة المتحدة.
إن هذا هو الفرق بين مشهد سياسي يمأسس للنقد والنقد الذاتي ويجعل الاعتراف بالهزيمة والخطأ «فضيلة» تودي بصاحبها إلى دخول تاريخ المجد من أبوابه الواسعة، وبين مشهد سياسي «يقدّس» فيه الحاكم ذاته ويُنزّهها عن الأخطاء ويحرم نفسه من تقدير هذه الأخطاء ويزج بشعبه في متاهات الإذلال، والنتيجة هي أن يُرمى في مزبلة التاريخ!...
النقد الذاتي.. «الفريضة» الغائبة عربيا
النقد الذاتي لا يحمل في مدلولاته شيء من النزعة الشكية أو العدمية، كما قد يعتقد البعض، بل إنه محاولة لتقليب النظر في أنفسنا، لنرى ذواتنا بطريقة غير معتادة، إنها تأسيس لفهم تطابقي لتصورنا عن ذواتنا، كما هي فعلا، وليس كما نحب أن نراها، وكل الذين تناولوا مبحثَي النفس البشرية، بما هي جوهر للفرد، والسياسة المدنية، بما هي جوهر للاجتماع البشري، حاولوا -بهذا القدر أو ذاك- أن يظهروا قدرة البشر، أفرادا وجماعات، على تأسيس تصورات جديدة عن أنفسهم على أسس جديدة، هكذا لم يكن النقد عدما أو شكا، بل تأسيسا لزاوية نظر جديدة.
فالممارسات البشرية التي لا تتأسس على النقد والنقد الذاتي تجتر نفس الأخطاء وتُرسّخ نفس المساوئ: الذين يحكمون العراق الآن لم يقرؤوا درس صدام.. ومبارك لم يقرأ درس السادات، وهو اليوم يدفع ثمن عدم طرقه باب النقد والنقد الذاتي.. بوتفليقة لم يقرأ خطأ العسكر، وها هو اليوم يخدم مصالحهم كأي موظف مفوض.. بنعلي لم يقرأ درس بورقيبة، فقام بثورة «تصحيحية» دون استخلاص عبر سابقه، حتى أتاه اليقين من حيث لا يعلم.. بشار الأسد لم يقرأ خطأ والده.. ولأن حركية التاريخ لا تتوقف والشعوب ما تفتأ تطلب الحرية، فإن كل حاكم عربي، اليوم، لم يمارس نقدا ذاتيا ولا يقبل النقد ويضع شروطا مؤسساتية ليمارس الشعب حريته في النقد، مصيره، حتما، أن يلفظه الشعب ويتحول إلى «طريد» في أصقاع الأرض.
لقد بيّنت التجارب المعاشة، من حرب 7691 إلى غزو لبنان وحصار بيروت 2891، مرورا بالانتفاضة (7891 - 3991) واجتياح مناطق السلطة وحصار عرفات
(1002- 4002)، وصولا إلى حصار العراق واحتلاله (1991- 3002)، والحرب الإسرائيلية على لبنان (6002) واستهداف غزة (7002 - 8002) (بينت) الغياب التام للنقد الذاتي لدى الأنظمة العربية وعدم قدرتها على توليد الأجوبة على التحديات الكبيرة والكثيرة التي يواجهها الواقع العربي، انطلاقا من استخلاص عِبَر الماضي، حيث الأخطاء ذاتها، فما وقع في النكسة يعيشه العربي اليوم بالجمع في كل المحافل الدولية، وشروط الانتفاضة ما تزال قائمة اليوم أكثر مما مضى، والدرب الذي أوصل عرفات إلى الاغتيال يسير فيه عباس.. وقس على ذلك كل الإشكالات التي يعيشها الإنسان العربي اليوم، حيث الأخطاء ذاتها. وعندما يحتج الشعب، تتغير «الوجوه» وتبقى السياسة ذاتها: سياسة تجنب النقد واجترار الأخطاء والرتابة والتكرار، بشكل سيزيفي...
فإذا كانت هذه الأنظمة لا تستطيع التحرك نحو التغيير، لأسبابها الذاتية المتعلقة بمصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا تملك وسائل تغيير واقعها البائس، بنقده قصد تجاوزه وممارسة القطيعة معه، فإنها لن تستطيع ذلك في أي موضوع آخر، حتى لو كان في مستوى القضايا المصيرية للأمة العربية، كقضية القدس الشريف، مثلا.
وكنتيجة لما سبق، نلاحظ أن مستقبل الحياة السياسية في البلاد العربية بشكل عام لا يتغير، فالكفاح من أجل المستقبل السياسي لا يعني الحكام العرب، إلى حدود ما قبل ثورة تونس على الأقل، والأفكار القائمة على مبادئ ومفاهيم فكرية ستبقى سائدة على ما يبدو.
أحيانا، يبالغ السياسيون في طرح سياسات معينة للأفكار داخل المجتمع الواحد، حيث يُسمَح لأبناء المجتمع، بمفكريه ومثقفيه بمناقشتها وإقرارها أو تحريمها بصورة يخيل معها لكل ذي عقل وإدراكٍ ووعي أن هذه الأفكار، ربما، تكون قد وردت بالفعل في الكتب المقدَّسة.. أو ذكرت، بصيغة أو أخرى، في مواد أنظمة الحكم، أو في دستور هذا البلد العربي أو ذاك، مع العلم أن سياسة الأفكار ذاتها غالبا ما تستمر لفترات قصيرة نسبيا في العالم المتقدم، حيث «يُسمَح» بتعديلها أو إلغائها، بين فترة وأخرى...



سيكولوجيا الإنسان المقهور.. وتجنب النقد الذاتي
ليست الأنظمة وحدها التي تشكو من نقيصة انعدام النقد الذاتي، فالفرد العربي، أيضا، تقهره ظواهر نفسية يركن إليها، تبرر له الخضوع والاستكانة بل والسقوط المزوشي في حب الطغاة.. وهذا هو درس الدكتور مصطفى حجازي، صاحب الكتاب الشهير «التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور»، (الطبعة التاسعة 5002، المركز الثقافي العربي)، وخاصة في الفصل الثاني من القسم الأول، الذي يحمل عنوان «الخصائص النفسية للتخلف»، حيث يستهله المؤلف بالحديث عن علاقة القهر التي تربط بين المتسلط والإنسان المقهور، فيقرر أنه بقدر ما تتضخم أنا السيد وينهار الرباط الإنساني بينه وبين المسود وتتأكد في ذهن المستبد أسطورة تفوقه وخرافة غباء وعدم آدمية الإنسان المستضعَف، يصبح الأول أسير ذاته، وينحدر الثاني إلى أدنى سلم الإنسانية...
ثم ينتقل المؤلف إلى بيان المراحل التي تمر بها علاقة القهر، حيث تكون لكل مرحلة بنيتها النفسية الاجتماعية وخصائصها المميزة التي تعكس بمجموعها جانبا من الوجود المتخلف.
المرحلة الأولى: الرضوخ والقهر، وخلال هذه المرحلة، التي تدوم فترة طويلة نسبيا، يشكل زمن الرضوخ والاستكانة أو الفترة المظلمة من تاريخ المجتمع عصرَ الانحطاط، وتكون قوى التسلط الداخلي والخارجي في أوج سطوتها وحالة الرضوخ في أشد درجاتها، وأبرز ملامح هذه المرحلة هو اجتياف (استدخال) عملية التبخيس التي غرسها المتسلط في نفسية الجماهير، فيكره الإنسان نفسه ويوجه عدوانيته تجاه نفسه وتجاه أمثاله، ومن ثم يقوم بإزاحة هذه العدوانية ليمارسها تجاه من هو أضعف منه، المرأة، التي تمارس -بدورها- نفس الدور تجاه أبنائها.
ومن الملامح الأخرى الإعجاب بالمتسلط وتضخيم تقديره للمستبد، فيعطيه حقًا شبه إلهي في السيادة والتمتع بكل الامتيازات، وبالتالي تنشأ علاقة رضوخ «مازوخي»، من خلال الاعتراف بحق المتسلط بفرض سيادته، وتنشأ في هذه المرحلة مجموعة من العقد التي تميز حياة الإنسان المقهور، أهمها عقدة النقص وفقدان الثقة بنفسه وبأمثاله، والتي تجعله يحجم عن كل جديد، ويتجنب كل تجربة قد تساهم قي تغيير وضعه، لذلك فهو لا يحرك ساكنًا وإنما ينتظر ذلك البطل المخلّص الذي سينتشله مما هو فيه! وهذا ما يمهد الطريق للتعلق بالزعيم الفرد، تعلقًا يغري بالتسلط والدكتاتورية.. إن هذه الأفكار تجعل عملية التحديث تُجابَه بمقاومة شديدة تحبط البرنامج التنموي. أما عقدة العار، فهي تجعل الإنسان يخجل من ذاته ويعيش وضعه كعار وجودي يصعب تحمُّله، فيتمسك بالمظاهر، لتشكل سترا لبؤسه الداخلي، ومن ثم يسقط العار على المرأة فتصبح هي رمز الشرف والكرامة التي يبرر من أجلها القتل، ولا بد أن للمتسلط دورًا في تحويل انتباه الإنسان المقهور من حالة الذل والقهر التي يعيشها إلى أمور ثانوية، وبذلك يحمي المتسلط نفسه من ثورة المقهورين.
وأخيرا وليس آخرا، يعاني المقهور من اضطراب الديمومة، حيث إن طول المعاناة وعمق القهر والتسلط الذي فُرض عليه ينعكس على تجربته الوجودية للديمومة على شكل تضخم في آلام الماضي وتأزم في معاناة الحاضر وانسداد آفاق المستقبل، ويتفاعل هذا مع عقدة النقص وعقدة العار، مما يغرق الإنسان في ضعفه وعجزه واستسلامه إزاء قوى تتحكم في مصيره ويحس أنه لا قِبَل له بمجابهتها.
المرحلة الثانية: الاضطهاد، وفيها يبدأ الإنسان بتحويل حالة الغليان العدوانية التي كانت موجَّهة ضد نفسه إلى الآخرين، بعد عدم تمكنه من كبتها بالآليات التي استخدمها في المرحلة الأولى. إنه يحول عدوانيته إلى الذين يشبهونه، إن لب هذه العملية هو التفتيش عن مخطئ يحمل وزر العدوانية المتراكمة داخليًا، وبذلك يتخلص من شعوره بالذنب ومن عاره وعُقَد نقصه ويصبها على الآخر، متهما إياه -وبشكل توهمي- بأنه يحسده ويريد أن يؤذيه، وهكذا يصبح العدوان عليه «مبرَّراً»، فهو «دفاع عن النفس» ليس إلا... إن هذا التفريغ والتحويل للمشاعر السيئة الداخلية تجاه الآخر، المقهور مثله، ينفع مؤقتا في تخفيف التوتر الداخلي للإنسان المقهور، لكن كل ذلك يفشل في تخليصه وإراحته على المدى البعيد، مما يجعله ينتقل إلى المرحلة الموالية.
المرحلة الثالثة: التمرد والمجابهة، عندئذ يصبح العنف المسلح هو السبيل الوحيد للكي يتخلص الشعب من عُقَد النقص والجبن والخوف التي غرسها المستعمر والمستبد في عروقه، وهو يحقق بذلك ذاته وينقي نفسه من الكسل والجهل والاتّكالية، ولكن -للأسف- كثيرا ما يتحول هذا العنف إلى رد فعل غاضب يعيق إمكانية التفكير والتنظيم طويل الأمد، وهكذا يصبح العنف آلية من آليات الدفاع النفسية التعويضية، فيقع الإنسان المقهور سابقا في نفس أخطاء قاهره المستبد ويصبح ممجدا للقوة، يستبدل بعقد نقصه السابقة تضخما في الذات واستعلاء على الآخرين ويصبح، هو نفسه، مستبدا، متسلطا على الآخرين...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.