في أواخر الثمانينيات، تجسدت ملامح التغيير العالمي بشكل مثير من خلال الانطلاقة المتمثلة في انهيار القوة السوفياتية وحلفائها، مرورا بانهيار وتهاوي حائط برلين. هذا التحول في الأحداث الدولية سيكشف حقائق صادمة ستعري واقعا نمطيا كرس مقولة ماوتسيتونغ «نمور من ورق». كانت البدايات بالوقوف على الحالة الاقتصادية المزرية لدول المعسكر الشرقي وما كانت تتستر عليه من أوضاع اجتماعية شبيهة بالعهود البائدة، كما كشفت عن واقع عسكري لطالما تباهت به هذه الدول، من خلال آلات حربية متآكلة افتضحت أسرارها من خلال العديد من الغواصات الغارقة وقطع غيار متردية.. إلخ. هذا الواقع سرعان ما عكس حقيقة مُرّة تمثلت في خوارج الاتحاد السوفياتي من توابعه في دول أوربا الشرقية. وبسرعة برق، عاشت أوربا الشرقية بلقنة فريدة من نوعها، كان من حسناتها تحرر شعوب هذه البلدان بحداثة عهدها بالاستقلال من خلال التعبير عن الآمال والرغبات التي كانت محظورة إلى زمن قريب والتي يسميها الأمريكان «السعي إلى السعادة». وبذلك شكلت حكومات جديدة ووضعت دساتير للمرحلة، استشرافا لمستقبل سعيد، ولاحت في الأفق مؤشرات ومحددات للحرية، بكل أشكالها وتنوعاتها، انطلاقا من العدالة الاجتماعية مرورا بالحريات العامة وصولا إلى التوزيع العادل للثروة.. ولو نسبيا. رياح التغيير وموجة التحول هذه ستبدو بطيئة إلى حد ما بالقارة الإفريقية عموما، وبالعالم العربي بصفة خاصة، مع استثناء وحيد شكله المغرب من خلال التحول من داخل النظام، في إطار توافق سياسي بين المؤسسة الملكية والمؤسسة الحزبية، في صورة الأحزاب الوطنية والديمقراطية. وبالفعل، ستتصاعد الضغوط من أجل التحول إلى الديمقراطية في دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، خصوصا مع بروز بوادر أزمة اقتصادية طويلة الأمد، ابتليت بها كل هذه الدول مع استثناءات في بعض الدول الخليجية. هذه الأزمة وجدت لها أرضية ملائمة قوامها: الفقر، معدلات تنمية ضعيفة، تراجع معدل دخل الفرد، زيادة مضطردة في عدد السكان، ولكن بشكل أقوى ضعفُ التأهيل السياسي كعملية يكتسب الناس من خلالها توجهات مستديمة نسبيا تجاه السياسة بشكل عام وتجاه أنظمتهم السياسية بشكل خاص. وهذا المعطى كان قويا في بلورة جانب سلبي على فئة الشباب بالخصوص التي ساد لديها انطباع بأن أنظمتها قائمة على الفساد والاستبداد وعدم الكفاءة وانعدام تكافؤ الفرص وغياب المساواة والعدالة الاجتماعية وبروز نخب جديدة لا ترقى حتى إلى إدارة بيوتها، ومع ذلك تتحكم في إدارة دواليب الدولة من خلال تدبير السياسات العامة. كل هذه العوامل ستشكل إطارا رئيسيا للتحدي، غير أن أنظمة الحكم استخدمت استراتيجيات مختلفة في تعاملها مع تحديات الشباب وفرضت تعددية حزبية صورية تصب في اتجاه حزب وحيد يسيطر على الوضع برمته ويفرض دمج التنظيمات الشبابية في بنى الحزب لإخضاعها للتوجيه (المذهبي) وإلزامها بالتقيد بضوابطه من خلال إبراز صورة الدولة المجسدة في الحزب ومفادها أن من يريد أن يوظف أو يعين أو يحل أي مشكل من المشاكل الدنيوية تُفرض عليه الطريق الوحيدة.. طريق الحزب الوحيد. ومن جانب آخر، فرضت تكتيكات أخرى، تمثلت في ترهيب الشباب من خلال الاعتقالات العشوائية والتعذيب في السجون وباقي الأشكال المعروفة وحديثة العهد. كل هذا ظل يسود في إطار تحول عالمي نحو التحرر والانفتاح، غير أن واقع الأزمة الاقتصادية العالمية فرض على بعض الدول الكبرى عالميا، كفرنسا، تبني سياسة انتهازية، قوامها التغطية على كوارث بعض هذه الدول مقابل الاستفادة من الصفقات الكبرى التي تنعش اقتصادياتها وتجنبها الانهيار الاقتصادي والأزمات الاجتماعية وغضب الشارع، لأنها -كدول أسست على مبادئ الديمقراطية- تعي جيدا ما يعنيه خروج المواطنين إلى الشارع. لعل شكل السياسة في بعض الدول العربية بقي متأثرا بقوة تركيز السلطة في يد الحاكم السياسي، بل إن الطريقة الشخصية التي تمارس بها السلطة أوضحت أنه ليس لدى القطاعات المؤسساتية سوى قدر ضئيل أو يكاد ينعدم من الاستقلالية، وأن المركز الحيوي للدولة هو الرئاسة، وأن الأحزاب والبرلمان لا تشكل تحديات. لقد حاولت معظم الأنظمة العربية القفز على المفاهيم الحديثة المبنية على التأسيس للممارسة الديمقراطية الصحيحة، وظلت تشكل الاستثناء الوحيد لأطروحة المؤرخ «أرنو لتونبي» الذي اعتبر أن «الديمقراطية هي الأقل سوءا من بين الأنظمة التي عثر عليها الإنسان». لقد شهد العالم التحول الجذري والخطير بكل من تونس ومصر واللائحة غير محدودة.. صحيح أن لكل نظام عيوبه ومحاسنه، وصحيح أن الحكم لأزيد من عشرين سنة أو ثلاثين سنة ليس بالأمر السهل، وضمان الاستقرار للبلد ليس بالأمر الهين، ولكن غير المقبول كان دائما عدم الإيمان بما تتيحه الديمقراطية من إمكانيات واسعة وغير متناهية في تدبير الاختلاف والتداول السلمي على السلطة بتفويض من الأغلبية والحد من سلطة الإكراه عبر نظام الفصل بين السلط والتوازن بين مكوناتها واستقلال الإعلام المحترم والسماح بحرية التعبير والحريات العامة، وكل ما يتفرع عن ذلك من قيم وتنظيمات دستورية ومؤسسية. لقد ظل مطلب الديمقراطية في مصر وتونس وغيرها من الدول العربية مطلبا مستعصيا في ظل الواقع المفروض، المؤسس على التخلف الشامل للبنيات السياسية والاقتصادية والتفاوت الصارخ بين كل ما هو نظري جميل ومستحسن مع كل ممارسة بدائية بأدوات أشبه ما تكون بنظيرتها في دولة بيزنطية. غير أن المتمعن في التجارب التي انهارت إلى حدود الساعة في العالم العربي، يقف عند مؤشرات عكست مرحلة حكم تجاوزت العقدين أو الثلاثة عقود إلى درجة أن مواطني هذه الدول صاروا يتعايشون مع هذا النمط من الحكم المبني على تركز السلطة بشكل قوي في يد الحاكم، غير أن الانهيار السريع بهذا الشكل عكسته مسائل أساسية: -1 التغييب القسري للنخب المواطنة عن المشاركة في تدبير الشأن العام. -2 حكم نخب بتفويض مطبوخ للإرادة الشعبية. -3 قاعدة الخوف من أي تطور ديمقراطي يطيح بالامتيازات. -4 بروز رموز للفساد انتعشت بواقع الانتهازية. هذه العوامل مجتمعة (بمباركة الإدارة الأمريكية للاتجاه نحو التغيير) تحكم فيها عامل الاحتقان السياسي الجديد وغير المعتاد والذي أسست له مشاركة عائلة الحكام في التسيير والتدبير بشكل علني ينم عن نوع من الحكم المطلق، وبدا واضحا الدور السلبي الإيجابي الذي لعبته زوجات وأبناء الحكام في الإطاحة بأنظمة أزواجهن وآبائهم. أما انتهازيو الأنظمة فهم على استعداد لخدمة من يحكم ورأينا كيف أن من كان يهتف ب«يعيش الريس»، يهتف اليوم «يسقط الخنزير». لعل المطلوب ممن مازال في كرسيه أن يلتفت قليلا إلى شعبه، المواطن الصادق الذي لا ينافق ولا يجامل والذي يسجل حضوره في السراء والضراء، والالتفاتة ثمنها بسيط جدا دعم مشاركة المواطن الصالح من خلال خلق أكبر قدر من المساواة المبنية على تكافؤ الفرص، بعيدا عن منطق العائلات المؤسس على المحسوبية والزبونية، فهذا النوع الأخير لا يحب إلا أموال البلد وخيراته، لكنه بالمقابل يفترش العلم الوطني ويغطى بآخر أجنبي.