- كيف تطور صندوق النقد الدولي؟ < باعتباره أداة أساسية للحكامة العالمية، أسندت إلى صندوق النقد الدولي مهمة حض الدول على نهج سياسات متمحورة حول الاستقرار الماكرواقتصادي، فهويحدد القواعد الواجب احترامها من قبل السلطات الموازنية والبنوك المركزية. في البدء، كانت وظيفة هذه المؤسسة دعم التعاون النقدي وتسهيل استقرار الصرف، حيث كان يمنح قروضا للبلدان الأعضاء من أجل معالجة الاختلالات الخارجية وتدبير سعر صرف العملة الوطنية. بعد انهيار نظام «بروتن ووذز» توسعت وظائف الصندوق، ففي ظل أزمة مديونية العالم الثالث في الثمانينيات من القرن الماضي وعمليات إعادة هيكلة اقتصادات بلدان أوربا الشرقية، بدأ الصندوق يحتل موقعا متميزا في تمويل الاقتصاد العالمي. هكذا، وضعت آليات مشروطة للقرض لفائدة البلدان التي تعاني من صعوبات في الوفاء بما في ذمتها. وفي مواجهة العولمة المالية، يساهم الصندوق في اتقاء الأزمات عبر تحديد معايير وقواعد احترازية للسلوك. هكذا أحدث أداة وقائية تتمثل في قروض تحصل عليها البلدان الأعضاء، والتي تتهددها مخاطر العدوى المالية. شروط هذه القروض جد مكرهة، حيث جعلت الحصول عليها مسألة صعبة. وفي ما يتعلق بتدبير الأزمات، يتولى الصندوق وظيفة مقرض عبر منح قروض لمواجهة عدم الاستقرار المالي بهدف محاصرة العدوى. وخلال أزمات المكسيك (1994-1995) وآسيا (1997-2002) وتركيا (2000) والأرجنتين (2001-2002)، تصرف الصندوق كمقرض دولي يحاول سد الخصاص الذي تعاني منه البنوك المركزية. ويستمر الصندوق في تقديم الدعم التقني عبر جمع المعلومات حول المتغيرات الماكرواقتصادية والقواعد الاحترازية. وهذه المعطيات، التي يجب أن تراقبها السلطات الوطنية، تكون دوريا موضوع تقييم بمناسبة فحص أداء البلدان والتي تفضي إلى توصيات، نواتها الصلبة إجماع واشنطن. - يسترشد الصندوق بإجماع واشنطن، ماهي ركائز هذه الرؤية؟ < الاختيارات النقدية والموازنية في العديد من البلدان، مثل الإصلاحات الهيكلية، مطبوعة بإجماع واشنطن، الذي يجمل التشخيص ووصفات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي. فالفكرة الرئيسية لهذا الإجماع تتمثل في أن «أفضل سياسة للتنمية الاقتصادية الواجب اتباعها» تمر عبر إعطاء الأولوية لقوى السوق والحد من التدخلات العمومية وإنعاش المؤسسات الداعمة للمنافسة والمبادرة الخاصة. ويرى هذا الإجماع أن حفز النمويستدعي شكلين من التدخلات العمومية، فصاحب القرار العمومي يجب أن يسند إلى السياسة الاقتصادية تحقيق الاستقرار، بحيث يضع الآليات التي تحد من العجز الموازني ومحاصرة المديونية والتحكم في التضخم. فتبني قواعد صارمة في هذا المجال يعتبر الشرط الضروري لتحقيق النمو. فهذا التنظيم المؤسساتي يفترض أن يتيح، عبر توسيع الاستثمار الخاص وعائداته، استعمالا أمثل للموارد. والسوق، من هذا المنظور، كفيل بأن يضمن التوظيف الشامل للموارد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يتوجب على السلطات العمومية إطلاق إصلاحات هيكلية كفيلة بتحرير سوق المنتوجات والشغل والقروض من العوائق القانونية وتدعيم المنافسة. فالمرونة يفترض أن تدعم فعالية استعمال الموارد ورفع معدل النموالاقتصادي. هذه السياسات تقوم على مسلمة مفادها أن المنافسة الخالصة هي الشكل الأمثل لعمل الأسواق. هذه النظرة تنطوي على سلطة تجعل الانضباط لسلوك موازني محدد والتحكم في التضخم مسلمات لا يأتيها الباطل، فكلمة الخبير لا يعلى عليها، بحيث تلتقي تحليلاته مع خطاب صاحب القرار السياسي، وتبدوالصرامة الموازنية والنقدية باعتبارها السياسة الوحيدة الممكنة و»لا بديل عنها»، هذا مبرر يلجأ إليه من أجل رفع التحكم في المالية العمومية والتضخم إلى مرتبة قانون مثل قانون الجاذبية. ضمن هذا السياق، يجري تقييد ممارسة الحقوق الديمقراطية بشكل مزدوج. فمن جهة، تفلت السياسة الاقتصادية من النقاش العقلاني والنقدي، على اعتبار أن الاختيارات النقدية والموازنية ليست ثمرة نقاشات يحددها المشاركون فيها على قاعدة إجماع يصبوإلى تحقيق الرفاه الاجتماعي، فبمناسبة مختلف الاستشارات الانتخابية لم تثر المسألة الاقتصادية تساؤلات حقيقية، كما لوأن السياسة النقدية والموازنية لا تنطوي على رهانات سياسية؛ ومن جهة أخرى، يعتبر صاحب القرار العمومي، في بحثه عن مصداقية قراراته، أن المعيار الأول للمشروعية يتجلى في رضى المؤسسات المالية الدولية، وليس قبول الساكنة لآثار تطبيق قراراته. فإذا حللنا شعبية السياسة الاقتصادية من زاوية الهوة بين الإنجازات وانتظارت الجمهور، نلاحظ أنها لا تحظى بقبول واسع. ضعف درجة هذه الشعبية يؤشر عليه ارتفاع معدل إمساك الناس عن التصويت في انتخابات شتنبر 2007. فمنح الأولوية للخبرة يمثل إنكارا للمساطر الديمقراطية في التكوين الجماعي للقرارات، ما دام الخبراء غير مختارين بالاقتراع العام ولا يمكن معاقبتهم عبره. ضمن هذا السياق، لا يتطابق تحديد أهداف السياسة الاقتصادية مع الديمقراطية، باعتبارها شبكة من المؤسسات الضامنة للنقاش العمومي في القضايا التي تفرض اختيارات اجتماعية وتوزيعا للحقوق والواجبات الأساسية للأشخاص. - بحلول يوليوز الماضي، تكون قد مرت عشر سنوات على الأزمة الآسيوية، ماهي الدروس التي يمكن استخلاصها من سلوك صندوق النقد الدولي خلال تلك الأزمة والأزمات التي تلتها؟ < تدخل صندوق النقد الدولي كمقرض ينطوي على مفارقة حقيقية. فمن جهة، يفرض ضخ السيولة في حالة الأزمة نفسه من أجل حصر الآثار التي تمس باستقرار النظام المالي، والتي تطال العملة الوطنية والخسائر على مستوى النشاط الاقتصادي؛ ومن جهة أخرى، تخلق هذه العلمية مشكلا يتمثل في كون الدائنين يجدون أنفسهم ميالين إلى المخاطرة إذا رأوا أنهم مشمولون بالحماية عبر التدخلات العمومية في حالة تعرض المدينين لصعوبات.هؤلاء الأخيرون، من جهتهم، يبدون غير متهيبين المخاطر التي تحوق بالمؤسسات المالية. ضمن هذه الشروط، لا يحل تدخل المقرض الأزمة، بل يمكن أن يفاقمها عبر توسيع المخاطر. لا يمكن أن نتحدث بخصوص صندوق النقد الدولي عن تحلل السيادة الوطنية، كما تشير إلى ذلك بعض الأطروحات، التي تعتبر أن بعض البلدان تصبح لعبة طيعة في أيدي المؤسسات الدولية. فهناك تقاسم للمسؤوليات التي يمكن للبلدان أن تستغلها لمصلحتها من أجل التفاوض حول طرق تدبير الأزمات. - يبدوأن الأزمات المالية، التي تعاقبت خلال العشرين سنة الأخيرة، أظهرت أن السياسة النقدية التي يوصي بها صندوق النقد الدولي، تؤمن التحكم في التضخم، لكنها لا تضمن الاستقرار المالي.. < ثمة مفارقة شددت عليها دراسات مكتب التسويات الدولية. فالبحث عن المصداقية عبر هدف استقرار الأسعار لا يضع النظام المالي بمنأى عن الأزمات. فالعماء الذي يسود أمام ضعف تقبل البنوك والمستثمرين لتقلبات السوق واحتمالات الاختلالات التي تطالها وعدم القدرة على تقدير المخاطر، تعتبر مصادر للتوترات في الأسواق الدولية للرساميل والصرف. ينجم عن ذلك أنه، في سياق العولمة، يكفي أن تطفوعلى السطح أزمة محلية أوجهوية كي تخلق ردود أفعال تعيد النظر في النظام المالي بأكمله، حتى وإن جرى التحكم في التضخم. وكما يقول سبانس، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد: «الخطأ الرئيسي يعود إلى الأولوية المطلقة التي تعطى للاستقرار الماكرواقتصادي». ويجب أن نضيف كذلك خطأ آخر له صلة بالتحرير الشامل. وكما يؤكد على ذلك جوزيف ستغليتز، الحائز على جائزة نوبل، فإن انفتاح البلدان السائرة في طريق النموعلى الرساميل العائمة ينطوي على مخاطر، ذلك أن البلدان التي أفلتت من الأزمة هي تلك التي لم تستجيب لدعوات تحرير أسواق الرساميل، مثل الصين والهند. ويخلص ستيغليتز، الذي شغل منصب كبير الاقتصاديين في البنك الدولي، إلى أنه» في عالم جد مندمج، فإن ضرورة وجود مؤسسة مالية دولية ذات مصداقية، تقوم بوضع قواعد سلوك تروم تحسين الاستقرار العالمي وإنعاش النموفي البلدان السائرة في طريق النمو، تفرض نفسها. وصندوق النقد الدولي، الذي تهيمن عليه الولاياتالمتحدةالأمريكية، البلد الوحيد الذي يتوفر على الفيتو، وأوربا، التي تعين المدير العام، اعتبر كممثل لمصالح البلدان المقرضة. وقد نال فشله خلال أزمة1997 من مصداقيته. وضعف الصندوق أمام الاختلالات المالية، التي تمثل اليوم التهديد الرئيسي للاستقرار المالي العالمي، أظهر حدوده». وفي الختام، فإن رهان التنمية للبلدان الناشئة لا يمكن أن يعلق على مزايا اليد الخفية للسوق الذي يتغنى به صندوق النقد الدولي. وكما يقول جوان روبنسون: «اليد الخفية تقوم بعملها، لكن يمكن أن تقوم به عن طريق الخنق».