كتاب «صدام الأصوليات» للمفكر البريطاني المعاصر ذي الأصل الباكستاني طارق علي، هو عبارة عن رحلة تاريخية تحليلية مادية تنقلنا إلى أعماق العلاقة بين الشرق والغرب، وتتوقف عند أسباب نشأة الإمبراطوريات الحديثة واستراتيجياتها الإيديولوجية والاقتصادية. ينظر صاحبه في وجود الديانات السماوية ودورها في تعبئة الناس، وفي ظهور الطوائف والأصوليات والجهاد والحملات الصليبية، ينظر في الوهابية والأندلس والاستشراق والإمبراطوريات الغربية قبل أن يتطرق للإمبراطورية الأمريكية والثورة الشيوعية و«الحرب الباردة» والحداثة والكيان الصهيوني ونكبة الفلسطينيين و«العدوان الثلاثي» والثورة الإيرانية وحروب الخليج وأحداث 11 شتنبر 2001. في تلك الجمعة السوداء، وجّه جمال عبد الناصر والدموع في عينيه خطابَ استقالته إلى الشعب المصري عبر شاشة التلفزيون. الخطاب تناقلته وسائل الإعلام إلى كل أقطار العالم العربي. بدا الرجل منهاراً، ولكنه لم يبحث عن الذرائع الواهية بل حمّلَ نفسه كامل المسؤولية عن الاندحار. هلل أعداء عبد الناصر وبدؤوا يعدّون العدة للتغيير بعدما سلموا بأنّ الشعب المهزوم لن يقوى على القيام مرة أخرى. غير أن ما سيعقب ذلك لم يسبق له مثيل، وليس على مستوى العالم العربي فحسب. لم يُسمَح لعبد الناصر بالاستقالة، ولكنه كان يعرف أن هاته الحرب قد شكلت نقطة انعطاف كبرى. بصفته مؤرخاً عسكرياًً، أدرك الحجمَ الحقيقي للهزيمة، وبصفته رجل سياسة، استوعب بأن العالم العربي ينبغي أن يتغير بشكل ما. وبعد مرور ثلاث سنوات وافته المنية. حضر جنازته الملايين من الأشخاص، الذين شعروا إلى حدّ ما بأنّهم كانوا يودّعون ليس عبد الناصر وحده، بل حلمه في تحقيق الوحدة العربية. عاد الاتحاد السوفياتي فزوّد الجيش المصري وسلاح الجوّ. أنور السادات، خلفُ جمال عبد الناصر، فاجأ إسرائيل في 1973م حينما أجبرها على التراجع وأبطل مفعول سلاحها الجوّي. استرجعت إسرائيل قواها، لكن تم تسجيل نقطة وفرضت الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفياتي حالة «إحراج الملك» (وضح شطرنجي لا يسمح أحد للخصم بالفوز). كانت كلتا الدولتين العظميين عازمة على تجنيب طرفها الهزيمة. وقد استفاد العرب أيضاً من وحدة نادرة فيما بينهم ومن الاستعمال المؤقت للحصار النفطي. ولكن الأمر لم يكن يتعلق فقط بأسلحة أكثر تطوراً تبيعها الدولتان العظميان. لقد كان ثمة مشكل يفوقه أهمية، مشكل داخلي بين العرب. إنها رسالة الشاعر السوري الكبير نزار قبّاني، الذي كانت قصائده تنشَد في البزارات كما في المجالس. في قصائد 1956م، تغنّى قبّاني ببطولة الجندي البسيط. ورغم الهزيمة العسكرية التي تعرّضتْ لها مِصر، فإن الجوّ السياسي كان يغلب عليه التفاؤل. وبعد عِقدٍ من الزمن سيتغيّر المَنظر. فور حرب 1967م، نظم قبّاني قصيدة من عشرين بيتا بعنوان «هوامش على دفتر النكسة»، يجلد فيها الشاعرُ جميع القيادات العربية، بدون استثناء سلطان أو عقيد. التدخل السياسي للشعراء ليس نادراً في الثقافات التي تعاقِب المعارضين، لكن نادراً ما أحدثت قصيدة واحدة مثل هذه الضجة المُدوّية. المقطع السابع عشر تخصيصاً من «هوامش على دفتر النكسة» أثار حفيظة كتبة الدولة والشرطة السرّية في جميع العواصم العربية، لكنه كان منشوداً ومُغنى عبر كل أرجاء العالم العربي. تعرَّض قبّاني للنقد من طرف اليمين واليسار، ولكنه لم يندم على فعلته. كان يعلم أنه ليس وحيداً. فهو كان يعبّر عن يأس الملايين بدون أن يستسلم له. كان يدري أن اليأس يُوَلِد الذهنية السلبية أو العنف الأعمى. الأملُ، الحاضر دوماً في قصائد قبّاني السياسية، هو إحساس خلاق ونشيط. صوَر قبّاني الباعثة على الأمل تكون دائماً قوية وغضة، وموجَهة إلى أجيال المستقبل. وقد أثارت قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» (رسالة غاضبة إلى عبد الناصر) زوبعة في كل أرجاء العالم العربي. الحكومة المصرية، كما لو أنها أرادت إثبات ما قاله قبّاني، مَنَعتْ كُتبه، بما فيها الأشعار التي تغنيها أم كلثوم. كما مُنع من دخول مصر. بل إن بعض المتزلفين من الحاشية طالبوا بمحاكمة قبّاني غيابيّاً. مرّت بضعة شهور فالتمس قبّاني مباشرة من عبد الناصر أن تُرفع عنه جميع القيود، وهو ما حصل، وانتهى الأمر. لكن الشاعر كان قد وضع الأصبع على وتر حساس. سمعتُ عن قبّاني لأول مرّة في يوليوز 1967م، عندما كنت في زيارة إلى عمّان وبيروت ودمشق ضمن بعثة من خمسة أفراد تمثل «مؤسسة برْتراند راسلْ للسّلام». في وقتٍ سابق من نفس السنة، كنت في الفيتنام الشمالية بوصفي ممثلا ل «محكمة راسلْ /سارترْ لجرائم الحرب». وقد وصلتنا الأنباء عن حرب محتمَلة في الشرق الأوسط خلال إحدى جلسات هاته المحكمة في ستوكهولم. بعد حرب الستة أيام الخاطفة في شهر يونيه، طلِب منّي أن أستعد للسفر إلى الشرق الأوسط. كانت مُهمّتنا تتمثل في زيارة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين للاطلاع على ظروف العيش فيها ورفع تقرير بهذا الصدد. أقلعتِ الطائرة في اتجاه عمّان في يوم أحدٍ من شهر غشت. أتذكر أني اشتريتُ صحيفة «الأوُبزرڨر» بالمطار وقرأتُ نبأ وفاة المؤرخ الماركسي إسحاق دُويْتشَرْ (1907-1967م) قبل يوم بروما. لقد كان آخِر لقاء لي معه في ستوكهولم حيث كان من بين قضاة «محكمة جرائم الحرب». وقد جعلني أشعر بالضيق بسبب ملاحظة شاردة صدرتْ منّي مفادها أنّ القصف الجوي المكثف والشامل الذي تقوم به الولاياتالمتحدةالأمريكية للفيتنام الشمالية يكشف عن درجة معينة من التمييز العنصري. سألني دُويْتشَر حينها إنْ كانوا سيقصفون أحداً في أوروبا بطريقة أخرى إذا كان هدفهم هو إخماد ثورة قائمة. فأجبته بأنهم كانوا سيحتاطون. سلخني دُويتشرْ سلخاً. وقد حدث هذا خلال إدلائي بشهادتي أمام المحكمة. وبعد انتهاء الجلسة، انفرد بي ليستأصل منّي ذلك الانحراف القومي الذي لاحظه في شهادتي. لقد مات دُويْتشرْ، ولن يتأتى لذكائه الثاقب تحليل حرب 1967م. شعرتُ بالتعاسة تغمرني وأنا أصعد على متن الطائرة التي ستقلنا إلى عمّان. لدى وُصولنا إلى عاصمة الأردن مبتورة الأطراف من جرّاء الحرب، لم نفاجَأ حين وجدنا بأن الجدل الذي أثارته قصيدة قباني لا يزال ساخناً. كان في وسع الفلسطينيين الذين لاقيناهم إنشاد مقاطع كاملة من القصيدة، الشيء الذي كان يُحرج أعوان السلطة المرافقين لنا. نفس الشيء عايناه في دمشق وبيروت، مع فارق واحد: في العاصمة السورية سمعتُ القصيدة من موظفٍ في وزارة الخارجية يُسمّى موفق علاف، الذي ادّعى أنه من أصدقاء قباني. كان الجناح الراديكالي من حزب «البعث» هو الحاكم، وقد رأى بعض وزراء الحكومة السورية في وصف قبّاني للمشهد المصري وصفاً دقيقاً للغاية.