أحيانا تختار العزلة بنفسك، فتبتعد بروحك علك تنعم بالسكينة في مكان ما حتى لو لم يكن أبعد من دواخلك، وأحيانا تُفرض عليك العزلة دون أن تستشيرك، فيجثم المرض عليك ليوقعك دون حراك، فتستسلم له صامتا مطيعا كأنك كنت تنتظره كي تنزوي قليلا وتهجر الدنيا وتقاطع الناس وتتخلى عن عاداتك اليومية في الأكل والعمل والحديث والحركة، لتظل ممددا على سرير لا تدري متى وكيف ستغادره. المرض زائر ثقيل، لكنه أحيانا يجعلك تهدأ قليلا لتحدث نفسك، ولتحدق قليلا في السقف وأنت تستعرض حياتك الماضية، وتتساءل باستسلام أين كنت وإلى أين تمضي، وهل أنت سعيد في رحلة ركضك المتواصل نحو نهايتك أم خاصمتك السعادة ونسيتك البسمة وقذفت بك الحياة في دوامتها. حينما قيدني سرير المرض شعرت بالرضى رغم الألم، فقد كنت في حاجة إلى أن أخلو بنفسي من صخب الدنيا وضجيج الألسن، حاولت الهروب بالتحديق في السقف محاولة أن أنسى كل شيء، لكن صور الشاب التونسي «البوعزيزي» بجسده المحروق الملفوف بالضمادات ظلت تطاردني.. انزعجت كثيرا لأن من أشعل ثورة تونس لم يشهد ما آل إليه الوضع بعد حرقه لجسده، لم يفرح برؤيته لرئيس البلاد المفدى يتسلل هاربا كلص مبتدئ، كنت أتمنى لو ظل حيا ولو لبضعة أيام.. أما وقد توفي فقد ظللت أطارد ذكراه بغصة في الحلق ودمعة مخنوقة لم تنزل أبدا. أن يحرق شاب في ال26 من عمره جسده الفتي ويطعمه للنيران تعبيرا عما تبقى من الكرامة، رد فعل لروح مكابرة تعبت حد الانتحار حرقا، مجرد التفكير في الأمر يصيب بالدوخة فكيف بجسد يهدى للسعات النيران. لذلك أفضل أن أسميها ثورة البوعزيزي على ثورة الياسمين، فهناك الكثيرون ممن ظلوا مختبئين طيلة هاته السنين سيظهرون فجأة ليأخذوا نصيبهم من كعكة الثورة، فيما متزعموها الحقيقيون سيطويهم النسيان. ظللت طويلا أفكر في هذا الشاب الشجاع والجريء وإن كنت ضد الانتحار، إلا أن ما أقدم عليه سيظل منحوتا في ذاكرتي لشاب ظلم حد الموت، وما أكثر المظلومين في هذه البلدان الشبيهة بالسجون المفتوحة. المرض يجعلك تشعر بالوحدة، ويفضح أصدقاءك الحقيقيين من المزيفين.. فهناك دائما من يسأل عن حالك وهو ينظر في عينيك في انتظار جواب، وهناك من لا يهمه أمرك، سواء حضرت أم غبت.. أم رحلت. وفي ضعفك تكتشف أيضا كم أنت كائن بسيط منهار، زكام عابر قد يغير كل برامجك وأعمالك وأحلامك ويجبرك على الخضوع له والاستسلام لمشيئته، ففي تعبك ودوارك وحالة الإغماء الطويلة التي تصيبك تحاول أن تحيا في صمت وأنت وحيد في عزلتك، تفكر في ماضيك وحاضرك وتتطلع إلى مستقبلك. المرض يعمق الوحدة، لكنه حقيقة لا يعرف عمقها سوى المرضى ممن يجثمون فوق الأسرة شهورا طويلة، أولئك المنسيون في المستشفيات والحجرات الباردة، أناس وصغار يعانون كل لحظة في حين ننعم نحن بالصحة ولا ندري أي كنز وهبنا الله إياه ولا ندري قيمته، نفكر بما ليس لدينا ولا نتوقف لحظة لنحمد الله على نعمه الكثيرة التي حبانا بها.. أسبوع، إذن، بعيدا عن العالم قريبا من الذات، وكأن إيقاع الحياة قد تغير، وكأن عقارب الساعة قد توقفت، لم يعد يهم سوى نبض القلب وسكون الجسد في انتظار أن يشفى.. وبين رحلة المرض والشفاء سفر في الذات ليشفى من ماضيه وآلامه وأسئلته وهواجسه.. فما المرض إلا تعب الذات من تحمل ما لا يطاق.. سهر البدن طلبا لراحة عابرة.. سقوط أفقي بعد حروب متواصلة.. غياب قصير جعل الكثيرين يسألون بحرقة أين رحت، فأسعدني السؤال وأدفأني.. فقمت من فراش المرض لأرد.. حمدا لله، ها قد عدت.