أفغانستان التي عاد إليها أسامة بن لادن عام 1996 لم تكن هي نفسها التي شد إليها الرحال مستهل عقد الثمانينيات. وخروج الجيش السوفياتي من البلاد عام 1989، ثم سقوط الحكومة الأفغانية الموالية لهم عام 1992، لم تكن لتحيل «خراسان» إلى جنة للمؤمنين والمجاهدين. إذ سرعان ما تفجر الصراع الداخلي وتحول الإخوة إلى أعداء؛ يفرقهم أساسا تقاطب بين معسكرات كل من حكمتيار وربَّاني وأحمد شاه مسعود. إلى أن ظهرت على الساحة حركة طالبان، وباتت اللاعب الأول في الملعب الأفغاني. موقع أسامة بن لادن في كل ذلك، أن خلفيته الرئيسة المكونة من «الأفغان العرب» باتت محط استفهامات كثيرة، وأصبح الوجود العربي صعب التبرير بعد انسحاب المحتل. وبات الوضع أقرب إلى «الفتنة» بمفهومها الإسلامي، أي التناحر بين أبناء الدين الإسلامي الواحد. بعد أن كانت البلاد وجهة للطامحين إلى تلبية نداء الجهاد. فكان أن توزع المقاتلون العرب في وقت مبكر بين الفصائل الأفغانية، وأصبحوا نتيجة لذلك يقاتلون بعضهم البعض في بلاد الآخرين ولصالح الآخرين. والمقابل الوحيد لذلك، ضمان إقامة بعيدة عن البلد الأصلي. لكن ومع مرور الوقت وإنهاك الأطراف بطول أمد الحرب، ظهرت في أواسط التسعينيات ملامح توجه جديد نحو «الوحدة» لما يسمى ب«الأفغان العرب»، وبات نوع من التقارب يطبع علاقات بعض التنظيمات التي حملت مقاتليها إلى أفغانستان ومعهم تناقضاتها الفكرية والدينية والسياسية، مثالها تنظيم الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد المصريين، فكان الجهاد ضد السوفيات والتحلّق حول مشروع أسامة بن لادن من عوامل التقارب الأولى، وبدت الأهداف الجديدة المتمثلة في استهداف الأمريكيين وذيولهم بالمنطقة أكبر من خلافات ثانوية، سرعان ما تم تجاوزها نسبيا في مرحلتي أفغانستان والسودان. استراتيجية أسامة بن لادن في حربه النفسية ضد خصومه بدأت منذ الوهلة الأولى لرحيله عن السودان، ففي يونيو 1996، هز انفجار عنيف مدينة الخبر السعودية موديا بحياة عشرين جنديا أمريكيا وجرح مئات آخرين، لكن استراتيجية أسامة كانت تقضي بألا يتبنى الهجوم مباشرة، واكتفى بالإشادة به والتلميح إلى أن منفذيه يدينون له بالولاء. ولأسباب غامضة، واصلت كل من واشنطن وأسرة آل سعود، تقليلهما من أهمية أسامة بن لادن وتنظيمه في الأحداث الدائرة في المنطقة؛ والسبب المنطقي الوحيد لهذا التوجه، هو محاولة كبح المد الإعلامي لأسامة وتقزيمه ما أمكن. وبينما كان أسامة يستقر بالمنطقة الحدودية الباكستانية الأفغانية، كانت المساعي جادة لإلقاء القبض عليه وإعادته إلى العربية السعودية. وتنقل مصادر متقاطعة أن السفير السعودي في إسلام أباد، قام بمساع مكثفة لتحقيق ذلك. «و الجدير ذكره أن السفير السعودي في إسلام أباد مارس الكثير من الضغوط على الشيخ يونس خالص (الذي كان يحمل جواز سفر سعوديا وتربطه علاقة جيدة بالعائلة الحاكمة) وجلال الدين حقاني، مطالبا إياهما بتسليم الشيخ بن لادن، لكنهما رفضا الإذعان لمطلبه. وقد أصدرا آنذاك بيانا مشتركا جاء فيه: «إن لجأ إلينا حيوان، لن يكون أمامنا أي خيار إلا حمايته. فكيف برجل وهب حياته وثروته لوجه الله ولقضية الجهاد في أفغانستان؟»، يقول عبد الباري عطوان في إحدى فقرات كتابه «القاعدة التنظيم السري». في تلك الغضون، تحتفظ الكتابات حول تلك المرحلة، بمحاولتي اختطاف وقتل تعرض لهما أسامة بن لادن، إحداها في منطقة جلال أباد. حيث تم توظيف مرتزقة من المنطقة الحدودية لتنفيذ العملية، لكن تفاصيلها سرعان ما بلغت المستهدف، ليجري احتياطاته الأمنية، ويعد العدة للانتقال إلى قندهار، المعسكر الآمن لحركة طالبان. فعندما كان أسامة بن لادن يجهد نفسه للحفاظ على موقعه المحايد في المعمعة الأفغانية، بلغه نبأ سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابل بعد انتصار كاسح ودون معارك تقريبا. وأصبحت بذلك الحركة المسيطر الأول على أفغانستان؛ وفيما كانت المراسلات عديدة بين كل من أسامة والملا عمر، زعيم حركة طالبان، فإنه لم يسبق للرجلين أن التقيا. فكان أن أرسل أسامة إلى الملا عمر طلبا بالالتحاق بقندهار، فوافق الرجل القوي الجديد لأفغانستان، مسارعا إلى كسب تحالف رجل يعرف مكانته لدى الأفغان، وقدرته على تزويد المحركات القتالية بوقود المال والسلاح. فكان الشرط الوحيد للملا عمر، أن يوقف أسامة حملته الإعلامية حتى تستقر الأمور وتحصل حركة طالبان على الاعتراف الدولي؛ شرط وافق عليه أسامة، ليشد الرحال على متن سيارة نحو كابل، ومنها استقل الطائرة التي حملته إلى قندهار. «وعلى الرغم من أن الشيخ بن لادن كان في الأصل يتوخى جانب الحذر تجاه حركة طالبان، فقد أرسى معها علاقة جيدة عقب أول لقاء بأمير الحركة الملا عمر في صيف العام 1996. وقد أعرب الملا عمر عن إعجابه العميق بملاحظات ضيفه العربي الحيادية، ورفضه اتخاذ جانب أي من فصائل المجاهدين التي بلغت طريقا مسدودا في صراعها على السلطة. وإذ قرر الشيخ بن لادن مبايعة الملا عمر، أمر أتباعه بالقتال تحت راية الأمير، وأرسل مجموعة قوامها 300 رجل من المجاهدين العرب الأقوياء والأشاوس إلى مناطق الطاجيكيين بغية التصدي للتحالف الشمالي المعارض لطالبان. (و قد روى الشيخ بن لادن لاحقا بكثير من الأسى أن العديد من هؤلاء الرجال أسلم الروح في خلال الرحلة بسبب البرد والعجز عن تحمل الظروف المناخية والحياتية الصعبة المميزة لتلك المناطق). وعلى الرغم من التصاريح التي تؤكد قيام علاقة نسب بين الملا عمر والشيخ بن لادن عبر زواج الأول بابنة الثاني، فإن هذا الحديث لا يستند إلى أي أساس صحيح»، يقول عطوان. أما النسخة الأمريكية من الرواية فينقلها جوناثن راندل بالقول: «أصابت مناورات أسامة نجاحا وأخذ يمارس نفوذا متزايدا بلغ آنذاك ما يقارب الهيمنة الكاملة على مضيفه، الأمر الذي لم يستسغه بعض قادة طالبان الذين خافوا من سيطرته الشاملة... لقد أظهرت بعض المؤشرات أن نفوذ أسامة وسلطته كانا في تزايد مستمر، كما بدا أن اعتقادهما قد ترسخ بأن الولاياتالمتحدة ليست سوى نمر من ورق، يبالغ الناس كثيرا في تقدير قوته، وأنها غير مستعدة للتضحية بجنودها في أرض عُرفت عبر مئات السنين بإذلالها للغزاة. إذا حكمنا على هذا الكلام قياسا على تصرف إدارة كلينتون كان من الصعب جدا أن يلاما عليه».