لقد نجا بن شقي التونسي بجلده حتى حين... ولكن باطن الأرض خير له من ظاهرها، وهو يقينا يتأمل تونسالجديدة التي لن تكتحل عيونه برؤيتها مرة أخرى.. وصدق عليه ونحن نرى قصره المحترق في قرطاج بأيدي الفقراء المسحوقين: كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين.. هل يتعظ الطغاة في الأرض بمصير بن شقي؟ لا أظن، ولكن هذه النهاية بموت الروح ونجاة البدن سبقها إليها فرعون، فقال فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية.. كنت أنا والشيخ جودت سعيد معتقلين في الفرع 273 في الحلبوني في دمشق نرقب حفلات التعذيب في ساحة القصر. إي والله كان الفرع بيتا جميلا بنافورة دمشقية جميلة في فناء البيت للشيخ تاج الدين الحسني، أحد رؤساء الجمهورية السابقين، فأصبح بيته مكانا للتعذيب. جاء يومها أبو طلال، الجلاد، وهو ذو جبهة عريضة يذكِّر بربه الأسد الانقلابي، فقال للأستاذ الرستناوي: استعد للحفلة هذه الليلة. بقي الأستاذ الرستناوي يرجف، فلم يهنأ بشراب ولا طعام، وكان قد ألقي القبض عليه في قرية مورك قريبا من حماة التي قتل فيها ثلاثون ألف إنسان براجمات الصواريخ. أذكر جيدا ذلك القط الأسود الذي أردنا تربيته عندنا رغم إرادته، ربص يتأملنا بعيون لا تنام ولا يأكل اللحم الطيب أمامه حتى سنحت له الفرصة فهرب ولم يعقب، ولم تنفع صرخاتنا له: أقبل ولا تخف إنك من الآمنين. كانت الحرية للقط أهم من الطعام، وكان أستاذ مورك يرجف مثل من أصيب بالبردية حتى غسق الليل.. تذكرت سورة الفلق والشرور الأربعة فيها: من شر ما خلق.. تذكرت أبا طلال وربه الأسد، ومن شر غاسق إذا وقب.. لقد دخل الليل انتظرنا بآذان النسانس صياح المعذبين.. ومن شر حاسد إذا حسد، وهو داء لا علاج له، كما فعل أحدهم حين قال: أنا غيرت القرآن حين نعت هذه السورة بالشرور وهي تحذر من أربعة شرور هي أصل البلاء الإنساني.. ولكن العقل الأصولي مثل صندوق الحديد المغلق من الزوايا الثماني حتى يأذن الله بالفهم والتدبر.. وأخيرا الشر الرابع: من شر النفاثات في العقد.. إنها المؤامرات التي تحاك وتحبك في الظلام كما رأينا في سيكورتات بن شقي التونسي، بعد أن ولى هاربا في جنح الظلام وترك مهمة التدمير وسياسة الأرض المحروقة للسرياطي، ساعده الأيمن الموثوق.. بدأ الضرب وبدأنا نعد.. لقد تعودت آذاننا على معرفة نشيج الصوت.. في الخمس الأولى صوت شديد، إنساني، صراخ، ولكن بعد الخمسين يتحول إلى ما يشبه عواء الكلاب، غير إنساني.. بعد المائة، يخفت ويتحول إلى ما يشبه مواء القطط أو الأرانب الصغيرة حين يلتهمها القط. كان الأستاذ الرستناوي من مورك في محنة كبيرة.. وأبو طلال العتل الزنيم يتابع التعذيب مستطيبا من لحم المسكين.. في النهاية، انهار الأستاذ ودخل في نوبة تشنجية هستيرية من نوبات الصرع، وهي تحصل بعد الضرب على الرأس.. شعر الزبانية بأن الرجل قارب الموت فتركوه.. ولم يكن هذا المصير بعد سنوات يمنح رحمة لأحد، فقد كان نظام الأسد قد سمح بقتل نسبة 6 في المائة من المساجين. كما أن المعتقل الأردني الذي دخل تدمر قال: كنا 41 فضربنا إلى ما بعد العصر فمات واحد وبقينا أربعين.. كنت أنا والشيخ جودت نتداول فكرة وضع كتاب عن مصير الظالمين والجلادين، مثل البسيوني في مصر الذي انتهى ممزعا بشاحنة هرسته، أو طحطوح السوري الذي اجتمعت به في كركون الشيخ حسن وهو يشتم النبي (ص) ويقول عنه إنه كذاب، وهو الآن تاجر عقارات في عين الفيجة والزبداني وجديدة الشيباني على ما سمعت، فكلها من بركات أنظمة الاستبداد. حقيقة، إنها فكرة لوضع كتاب كامل عن نهاية هؤلاء.. لقد روى لي أبو محمد عبد الكريم خوجة، من شباب حزب التحرير الذي طلقهم وتحرر، أن أبو طلال كان في حانة فضُرب بالرصاص فشلت ساقه، أما أنا فكنت أعالجه روحيا حين يعذب المساكين فيصاب بنوبة تبكيت ضمير وصداع قاتل، فآتي فأقرأ على رأسه وأمسح سبعا من المثاني والقرآن العظيم فيرتاح... هكذا يجب النظر إلى هؤلاء الأشقياء الذين جندهم النظام.. علينا أن نتأمل التاريخ وعظته. قبل أن يموت تشاوسيسكو بأربعة أيام، سئل عن الأوضاع في رومانيا، وكان في زيارة إلى طهران: هل يمكن أن تتأثر بالإعصار الذي يدمدم في شرق أوربا وتتساقط فيه تباعا عروش الملوك الحمر؟ قال: سلوا شجرة التين هل تنبت حسكا؟ صحيح أن من حولي تساقطوا، ولكنكم لا تعرفون الشعب الروماني وقيادته الحكيمة. وعندما سألوه عما يحدث في مدينة تيمي شوارا والعصيان المدني خلف قس مغمور، قال: أما القس الذي حرض على الشغب فهو أخرق مأفون، وأما من حوله فهم شرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون. وبعد أربعة أيام، كان يحاكم ويعدم ولا يعرف قبره. وانطبقت عليه دورة التاريخ فأخرجوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأرثناها قوما آخرين، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين. وأما شاه إيران فقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه وظن أن لا ملجأ إلا أمريكا، فخذلته ورفضت استقباله، مع أنها هي التي صنعته على عينها. وعندما تشفَّع لأولاده بأن يتابعوا دراستهم، سمحت لهم بدون رفقة الوالدين. وعندما شكا من المرض قالوا له، بعد وساطات وتوسلات، إنها إقامة للعلاج فقط فإذا قضيت خرجت ولم تعقب. وبعد العلاج دفع بعربة من البوابة الخلفية للمستشفى، فخرج من حيث تخرج النفايات وتدخل البضائع. وعندما أصبح في باناما عند ديكتاتور صغير قطعوا عنه التلفون وبدؤوا يخططون لتسليمه إلى الحكومة الإيرانيةالجديدة. وعندما أوى في النهاية إلى طاغية مثله بكى سوء الحال وانقلاب الزمن وتنكر الأصدقاء ونفض أمريكا يدها منه إلى درجة أن أفردت له ملفا بعنوان «الخازوق» وأن يخاطبه مسؤول أمريكي بقوله: يا صاحب الجلالة يظهر أنك مختل عقليا، وأن يبتلع أحد سماسرته سبعين مليون دولار بضربة واحدة، فيعض الشاه على أسنانه محنقا، إنها سبعون مليونا فهل ضاعت في أنابيب المجاري. وفي النهاية، كاد الشاه يموت غيظا، فحبس نفسه في حجرة عندما علم بأن رجل أعماله بهبهانيان اختفى مثل الملح في الماء بمئات الملايين من الدولارات، وهو لا يستطيع أن يقاضيه أو يرفع عليه دعوى لأنها كانت صفقات سرية. روى كل ذلك حسنين هيكل في كتابه «زيارة جديدة للتاريخ»، وفي مصر فتح يديه بالهبات والمجوهرات التي كان يحملها معه في حله وترحاله عسى أن تؤلف القلوب، وقيل إنه حمل معه من ثروة إيران ما زاد على خمسة مليارات دولار، واعترف مسؤول بنكي سويسري بثروة له زادت على عشرين مليار دولار، وكانت أربع حقائب كبيرة محشوة بالكنوز لا تفارقها عيناه حتى قبل موته بلحظات عسى أن تنفعه يوم الزلزلة، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادتهم غير تتبيب. وفي النهاية، مات بالمرض الخبيث وأصبح سلفا ومثلا للآخرين. وبالطبع، فإن هيكل هو صنيعة العجل الناصري، فعلينا أن نرمي نصف روايته في البحر، ولكن نسمع ولو من كذاب. إن أمريكا تستخدم الطغاة ولا تحبهم، فهي تصيخ السمع إلى خونة الشعوب، ولكنها لا تحب الخائن وتعرف أن دور الجلادين لا يزيد على (ممسحة زفر)، فإذا انتهى دورهم رسا مصيرهم حيث ترمى أوراق المهملات التي نظفت القاذورات لتصبح مع القاذورات وبئس القرار. هكذا رسم مصير الطغاة في التاريخ بريشة سريالية. فكلا أخذنا بذنبه، فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا. وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. هكذا يرسو مصير الطغاة بين طلقة في الرأس مع جرعة سيانيد، كما انتهى هتلر، وبين فرعون يغرق في اليم هو وجنوده أجمعون، أو الإمبراطور الروماني دوميتيان الذي قتله 14 من أهل بيته دفعة واحدة طعناً بالخناجر، وبين تشاوسيسكو الذي انشقت الأرض من تحت قدميه فابتلعته، -وبين من دارت عليه الدائرة بعد طول جبروت ليعلق من قدميه عاريا كالخاروف في المسلخ في ساحة عامة كما حصل لموسوليني وعشيقته كلارا بيتاتشي أو إمبراطور الحبشة هيلاسي الذي أودع دورة المياه وردم فوقه بالإسمنت. ولكن التاريخ يفاجئنا بصورة مبتسرة غير مكتملة، بل وأحيانا مقلوبة الظل، حيث مات ستالين في كل طغيانه وعنفوانه، وكانت نظرة مريبة منه إلى أحد أعضاء المكتب السياسي تجعله يرجف هلعا بقية حياته حتى يرضى. كما ذكر ذلك فرانسيس فوكوياما، صاحب كتاب «نهاية التاريخ». ومات فرانكو، طاغية إسبانيا، عزيزا كريما ووضع جثمانه في ضريح عظيم في مبنى هائل بناه أعداؤه من الشيوعيين المعتقلين، فهو نصب خالد لكن من زار مدريد. وأما لينين فمات وهو يرسل الناس إلى الموت بإشارة وكلمة، كما كشفت الأبحاث الحديثة عن رسائله الأصلية المكتوبة بخط يده والمودعة في سرداب فظيع محفور تحت الأرض بثلاث بوابات مصفحة يصمد لقنبلة نووية. إن لينين كان مفكرا وكاتبا قبل أن يكون حركيا، وكتب ما يزيد على خمسين كتابا تمثل الوحي المقدس عند الشيوعيين لمن بقي يعتقد في عصمته حتى اليوم، ولكن أوامر الإعدام كانت عنده قضية روتينية ولا تزيد على مسألة إحصائية، فعندما تمرد الفلاحون على المزارع الجماعية (الكولخوز) بعد أن صودرت محاصيلهم، كانت أوامر لينين تقضي بانتقاء مائتين من كرام القوم وإعدامهم على أعين الملأ وأن يحشر الناس ضحى، فهذه هي أساليب الفراعنة جرت قانونا سرمديا، إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى. يتبع...