لا تسعى هذه السطور إلى أي طراز من القراءة التحليلية لانتفاضة الشعب التونسي المباركة، الظافرة حتى الساعة، والمحفوفة بمخاطر شتى، جلية أو خفيّة، كما يتوجب التشديد، إذ إن لهذا الغرض مناسبة آتية، قريبة، على صفحات أخرى متخصصة في هذه الصحيفة. ما تسعى إليه، في المقابل، هو إحقاق حق مقارنة فات الكثيرين عقدها، عن تعامٍ وتجاهل وتواطؤ أو عن جهل وقصر نظر وضيق أفق، بين سلوك العسكر في نظامَيْ استبداد وفساد ومزارع عائلية عربيَيْن: تونس، خلال أسابيع الانتفاضة الراهنة، وسورية، خلال صراع السلطة مع الفصائل الإسلامية المسلحة، سنوات 1979 1982. ولعله من الخير الابتداء بتحفظ منهجي، وإشارة ذات دلالة، ذلك لأنّ التاريخ اختزن سلسلة دروس حول سلوك العسكر، والأحرى القول: العسكرتاريا، في ظل الأنظمة الاستبدادية والشمولية، بحيث صار من الواجب البسيط، والضروري، توخي الحذر الأقصى عند الحديث عن أي دور وطني ديمقراطي للجيوش تلك، وترجيح السيناريوهات الانقلابية والمضادة الأسوأ، بدل الاستبشار والتفاؤل. وأمّا الإشارة فهي أن تعليقات الصحف السورية الرسمية الثلاث، السبت الماضي، اليوم التالي لرحيل زين العابدين بن علي، بدت وكأنها لم تسمع نهائيا بالخبر، أو كأن غاشية تونس لم تقع أصلاً! في «البعث» و«الثورة» و«تشرين» نقرأ تحليلات تتناول جنوب السودان، و«شبكة شايلوكية» تمزّق الوطن العربي، وأوباما وعقدة السلام، و«بلاكوتر» في الضفة الغربية، وتفجير كنيسة الإسكندرية، وتجميد الاستيطان الإسرائيلي، و«الأيادي الخارجية» في السودان ولبنان والعراق وفلسطين، وغياب الدور الأوربي إقليميا، والتهديدات الإسرائيلية ضدّ غزة، ومشكلات العراق. السذج، وحدهم، سوف تفوتهم الدلالة الكبرى خلف غياب الموضوع التونسي عن جميع تعليقات هذه الصحف: أنّ بن علي كان أحد أخلص أصدقاء «الحركة التصحيحية»، أيام حافظ الأسد مثل أيام وريثه بشار الأسد، وأن النظام ليس سعيدا البتة بمآلات الانتفاضة الشعبية في تونس. حاله، في هذا، كحال تسعة أعشار أنظمة العرب، والحقّ يُقال! في العودة إلى فارق العسكر بين تونس وسورية، سوف تكشف الأيام القادمة حقائق كافية عن سلوك الجنرال رشيد عمار، رئيس هيئة أركان الجيوش في تونس، وما إذا كان قد رفض بالفعل تنفيذ تعليمات بن علي وإصدار الأوامر للجيش بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، فأقاله الدكتاتور، وسمّى الجنرال أحمد شبير، مدير المخابرات العسكرية، بديلا عنه. سوف يتضح، كذلك، ما إذا كانت دماء عشرات الشهداء التوانسة تظلّ في عنق شبير هذا، إسوة بسيّده الآمر، أم إنّ مفارز الحرس الرئاسي الخاصة هي التي تولت أعمال القتل، وليس بعض وحدات الجيش النظامية. لكنّ التاريخ أثبت أننا، في المثال السوري، لا نقع في حيرة حول ترجيح المسؤولية عن تنفيذ العديد من المجازر الجماعية، ضدّ أطفال ونساء وشيوخ عزّل أبرياء، في عشرات المدن والبلدات والقرى السورية، وأن أيا من كبار ضباط النظام (رفعت الأسد قائد «سرايا الدفاع»، علي حيدر قائد «الوحدات الخاصة»، وهاشم معلا أحد كبار معاونيه، شفيق فياض قائد الفرقة الثالثة، إبراهيم صافي قائد الفرقة الأولى، بدر حسن قائد الفرقة التاسعة، والصفوة العليا من ضبّاط أجهزة الاستخبارات المختلفة...)، ممّن تلقوا أوامر باستخدام الأسلحة، الخفيف منها والثقيل، لم يهمس ببنت شفة احتجاجا على استهداف المدنيين، ولم نسمع أنّ هذا عُزل أو ذاك نُقل لأنه رفض الأوامر. مجزرة حماة كانت أقصى القياس، لأنها نُفّذت بدم بارد، عن سابق تصميم وتصوّر، وأُريد لها أن ترسم الخط الأخير الفاصل في المعركة بين النظام والفصائل الإسلامية المسلحة (التي ارتكبت عشرات الجرائم ذات الطابع الطائفي الصرف، والعشوائي، ولم تكن دائما تمثل خط قيادة الإخوان المسلمين الرسمي). ولهذا أعطى الأسد القادة العسكريين نوعا من ال»كارت بلانش» المطلق، وترخيصا صريحا بأن تُستخدم كلّ صنوف القمع والردع والعقاب، حتى إذا اقتضى الأمر قصف أحياء بأكملها (البارودي، الكيلاني، الحميدية، الحاضر)، وضمنها المساجد والكنائس. وهكذا، وفي الثاني من فبراير 2002، قامت كتائب مختارة من «سرايا الدفاع» وأخرى من «الوحدات الخاصة» بمحاصرة المدينة طيلة 27 يوما، فقُصفت بالمدفعية الثقيلة والدبابات قبل اجتياحها، وسقط عدد من الضحايا يتراوح بين 30 و40 ألفا، غالبيتهم القصوى من المدنيين العزّل، فضلا عن 51 ألف مفقود، وتهجير نحو 100 ألف مواطن. كانت حماة، في الجانب الآخر من معادلة الصراع، بمثابة «درس تربوي» شاء النظام تلقينه للشارع السوري بأسره، إسلاميا كان أم علمانيا، إسوة بالأحزاب والنقابات والاتحادات المهنية ومجموعات المثقفين. وبالطبع، لم تكن تلك هي المجزرة الوحيدة، لأنّ النظام استقرّ، جوهريا، على قمع روح المعارضة في الشارع السوري بأسره، والأمثلة عديدة: من حصار حلب ومجزرة المشارقة، إلى جسر الشغور وسرمدا ودير الزور واللاذقية، انتهاء بمجزرة تدمر الشهيرة ضدّ السجناء. الخيارات انتظمت في سياق منهجي متكامل، ولم تكن أعمال القمع العسكري والأمني المباشرة، ثمّ تنفيذ حملات اعتقال واسعة ضدّ الأحزاب المعارضة، سوى تتويجه الدموي العنيف. لم يتوفّر لسورية، آنذاك، أي جنرال على شاكلة التونسي رشيد عمّار، ولهذا فإن فارق العسكر يظل في صلب عناصر جوهرية أسقطت نظام بن علي في تونس، وأدامت نظام «الجمهراثية» في سورية!