ميلاد طبقة وسطى في المغرب، مشروع سياسي واجتماعي واقتصادي ضخم، في الحلقة السابقة وقفنا على ظروف ميلاد هذه الطبقة في أوربا، وكيف كانت جزءا من مشروع إعادة بناء أوربا الحديثة.. أوربا خالية من «الأطماع التوسعية»، ومن «الإيديولوجيات الشمولية»، ومن «النزعات العرقية المتطرفة»، ومن الحدود الفاصلة بين المجتمعات والأسواق وحرية المبادرة والحركة... وللوصول إلى هذا الهدف، وضعت الدولة سياسات عمومية لدعم هذه الطبقة وفتح سوق المبادرة الخاصة في وجه المواطنين في دولة الحق والقانون... والآن أوربا من أكثر القارات استقرارا وإنتاجا ورفاهية، وأضحت وجهة مغرية للهجرة والعيش والاستثمار. بعد استقلال المغرب، لم تفكر لا الحركة الوطنية ولا القصر في خلق طبقة وسطى في المغرب. كان جل ما يستأثر باهتمام الأحزاب التي ناضلت من أجل الاستقلال، والقصر الذي حافظ على رصيده التاريخي رغم سقوط البلاد في براثن الاستعمار... جل ما كان يستأثر بالاهتمام لدى الطرفين هو جغرافية السلطة التي يقف كل طرف عليها، بعد أن يتأكد من طرد غريمه منها... انحاز القصر إلى التحالف مع «البرجوازية الريعية» والتكنوقراط وبقايا المصالح الاستعمارية في المغرب مدعوما بقوة وبطش السلطة في يده، وتوجهت أحزاب المعارضة، خاصة في صفوف اليسار، إلى محاربة سلطة القصر ورفع أكثر الشعارات راديكالية، والمناداة بالتأميم والتصنيع وإعادة استنساخ التجارب الاشتراكية غير الناجحة في أوربا الشرقية وآسيا... في هذا المناخ الحار سياسيا وإيديولوجيا وحتى شخصيا بين الملك الراحل ومعارضيه، ضاعت مشاريع الإصلاح والبناء. النخب التي تؤازر القصر، تقايض دعمها لحكم فردي بالغنائم والامتيازات والفساد، والنخب الحزبية التي ناضلت زمن الاستعمار ويوجد في صفوفها أشخاص نزهاء وكفاءات سياسية وعلمية مقصية في المعارضة أو معتقلة في السجون... وهكذا ظل المغرب مسجونا في هذه المعادلة القاتلة. وعندما انقشع مناخ التوتر في بداية التسعينات، استيقظ الجميع والمغرب غارق في مشاكل البطالة والسكن والصحة والفقر من جهة، ومن جهة أخرى تصاعدت قوة أخطبوط الفساد والريع والتوزيع غير العادل للثروة والدخل... الدولة ضعفت لأن الرشوة والفساد نخراها، والفقر ازداد لأن التعليم المحدود أصلا ضعفت مردوديته، والزيادات الديمغرافية لم تواكبها سياسات عمومية تستوعب تزايد الأفواه المفتوحة والسواعد العاطلة... كانت الطبقة الوسطى عدوة لنظام الملك الراحل، وصارت مطلبا للملك الحالي، لأن الأول كان يحكم بعصا السلطة، والثاني يريد أن يحكم ببوصلة التوازن والاستقرار... لكن لكل خيار ثمن.. خيار الملك الراحل دفع الشعب ثمنه بأن انحدر إلى المراتب المتأخرة في سلم التنمية البشرية، وثمن خيار الملك الحالي يتطلب خلق مناخ سياسي واقتصادي يساعد على خلق طبقة وسطى «مرتاحة ماديا»، و«طموحة اقتصاديا»، و«ديمقراطية سياسيا»، و«معتدلة فكريا». ولخلق هذا المناخ لابد من إعادة إحياء مشروع الانتقال الديمقراطي الذي مات في المهد، ولابد من إنهاء جذور «اقتصاد الريع» وفتح اللعبة الاقتصادية، كما السياسية، على قانون العرض والطلب، والضرب على أيدي الاحتكار المادي والرمزي، وتوطين آليات التحكيم السياسي (الملكية)، والقانوني (القضاء المستقل والنزيه)... لقد كان احتفال الولاء الذي استدعي إليه 10 آلاف مغربي للركوع أمام الملك في ساحة القصر، بعد ساعات من إلقاء خطاب العرش الذي دعا إلى خلق طبقة وسطى، مدعاة إلى الوقوف على مفارقات الخطاب والمشهد... مجتمع الطبقة الوسطى مجتمع التعاقد وليس الولاء، مجتمع المواطنة وليس الرعية، مجتمع الكرامة وليس تقاليد العبودية...